وقال شيخنا رضي الله عنه : والذي قيست عليه الحيل الربوية وليست مثله نوعان ; أحدهما : المعاريض ، وهي : أن يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحا ، ويوهم غيره أنه يقصد به معنى آخر ; فيكون سبب ذلك الوهم كون اللفظ مشتركا بين حقيقتين لغويتين أو عرفيتين أو شرعيتين أو لغوية مع إحداهما أو عرفية مع إحداهما أو شرعية مع إحداهما ، فيعني أحد معنييه ويوهم السامع له أنه إنما عنى الآخر : إما لكونه لم يعرف إلا ذلك ، وإما لكون دلالة الحال تقتضيه ، وإما لقرينة حالية أو مقالية يضمها إلى اللفظ ، أو يكون سبب التوهم كون اللفظ ظاهرا في معنى فيعني به معنى يحتمله باطنا : بأن ينوي مجاز اللفظ دون حقيقته ، أو ينوي بالعام الخاص أو بالمطلق المقيد ، أو يكون سبب التوهم كون المخاطب إنما يفهم من اللفظ غير حقيقته لعرف خاص به أو غفلة منه أو جهل أو غير ذلك من الأسباب ، مع كون المتكلم إنما قصد حقيقته ; فهذا كله إذا كان المقصود به رفع ضرر غير مستحق فهو جائز ، كقول الخليل : " هذه أختي " وقول النبي صلى الله عليه وسلم : { نحن من ماء } وقول رضي الله عنه : " هاد يهديني السبيل " ومنه قول الصديق : عبد الله بن رواحة
[ ص: 184 ]
شهدت بأن وعد الله حق
الأبيات أوهم امرأته0 القرآن ، وقد يكون واجبا إذا تضمن دفع ضرر يجب دفعه ولا يندفع إلا بذلك .وهذا الضرب وإن كان نوع حيلة في الخطاب لكنه يفارق الحيل المحرمة من الوجه المحتال عليه والوجه المحتال به ; أما الأول فلكونه دفع ضرر غير مستحق ، فلو تضمن كتمان ما يجب إظهاره من شهادة أو إقرار أو علم أو نصيحة مسلم أو التعريف بصفة معقود عليه في بيع أو نكاح أو إجارة فإنه غش محرم بالنص .
قال مثنى الأنباري : قلت : كيف الحديث الذي جاء في المعاريض ؟ فقال : المعاريض لا تكون في الشراء والبيع ، تكون في الرجل يصلح بين الناس أو نحو هذا . لأحمد بن حنبل
قال شيخنا : والضابط أن ; لأنه كتمان وتدليس ، ويدخل في هذا الإقرار بالحق ، والتعريض في الحلف عليه ، والشهادة على العقود ، ووصف المعقود عليه ، والفتيا والحديث والقضاء ، كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام ، بل واجب إذا أمكن ووجب الخطاب ، كالتعريض لسائل عن مال معصوم أو نفسه يريد أن يعتدي عليه ، وإن كان بيانه جائزا أو كتمانه جائزا ; فإما أن تكون المصلحة في كتمانه أو في إظهاره أو كلاهما متضمن للمصلحة ; فإن كان الأول فالتعريض مستحب كتورية الغازي عن الوجه الذي يريده ، وتورية الممتنع عن الخروج والاجتماع بمن يصده عن طاعة أو مصلحة راجحة كتورية وكل ما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز عن أحمد المروزي ، وتورية الحالف لظالم له أو لمن استحلفه يمينا لا تجب عليه ونحو ذلك
وإن كان الثاني فالتورية فيه مكروهة ، والإظهار مستحب ، وهذا في كل موضع يكون البيان فيه مستحبا ، وإن تساوى الأمران وكان كل منهما طريقا إلى المقصود لكون ذلك المخاطب التعريض والتصريح بالنسبة إليه سواء جاز الأمران ، كما لو كان يعرف بعدة ألسن وخطابه بكل لسان منها يحصل مقصوده ، ومثل هذا ما لو كان ، وفي هذا ثلاثة أقوال للفقهاء وهي في مذهب الإمام له غرض مباح في التعريض ولا حذر عليه في التصريح ، والمخاطب لا يفهم مقصوده ، أحدها : له أحمد . التعريض ; إذ لا يتضمن كتمان حق ولا إضرارا بغير مستحق
والثاني : ليس له ذلك ، فإنه إيهام للمخاطب من غير حاجة إليه ، وذلك تغرير ، وربما أوقع السامع في الخبر الكاذب ، وقد يترتب عليه ضرر به .
والثالث له التعريض في غير اليمين . [ ص: 185 ]
وقال الفضيل بن زياد : سألت عن أحمد ، قال : إذا لم يكن يمينا فلا بأس ، في الرجل يعارض في كلامه يسألني عن الشيء أكره أن أخبره به ، وهذا عند الحاجة إلى الجواب ، فأما الابتداء فالمنع فيه ظاهر ، كما دل عليه حديث المعاريض مندوحة عن الكذب أم كلثوم أنه لم يرخص فيما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث ، وكلها مما يحتاج إليه المتكلم ، وبكل حال فغاية هذا القسم تجهيل السامع بأن يوقعه المتكلم في اعتقاد ما لم يرده بكلامه ، وهذا التجهيل قد تكون مصلحته أرجح من مفسدته ، وقد تكون مفسدته أرجح من مصلحته ، وقد يتعارض الأمران ، ولا ريب أن من كان علمه بالشيء يحمله على ما يكرهه الله ورسوله كان تجهيله به وكتمانه عنه أصلح له وللمتكلم ، وكذلك ما كان في علمه مضرة على القائل أن تفوت عليه مصلحة هي أرجح من مصلحة البيان فله أن يكتمه عن السامع ; فإن أبى إلا استنطاقه فله أن يعرض له .
فالمقصود بالمعاريض فعل واجب أو مستحب أو مباح أباح الشارع السعي في حصوله ونصب له سببا يفضي إليه ; فلا يقاس بهذه الحيل التي تتضمن سقوط ما أوجبه الشارع وتحليل ما حرمه ، فأين أحد البابين من الآخر ؟ وهل هذا إلا من أفسد القياس ؟ وهو كقياس الربا على البيع والميتة على المذكى .
فصل فهذا الفرق من جهة المحتال عليه ، وأما الفرق من جهة المحتال به فإن المعرض إنما تكلم بحق ، ونطق بصدق فيما بينه وبين الله ، لا سيما إن لم ينو باللفظ خلاف ظاهره في نفسه ، وإنما كان عدم الظهور من ضعف فهم السامع وقصوره في فهم دلالة اللفظ ، ومعاريض النبي صلى الله عليه وسلم ومزاحه كانت من هذا النوع ، كقوله : { نحن من ماء } وقوله : { } { إنا حاملوك على ولد الناقة } { ولا يدخل الجنة العجز وزوجك الذي في عينيه بياض } وأكثر معاريض السلف كانت من هذا ، ومن هذا الباب التدليس في الإسناد ، لكن هذا مكروه لتعلقه بالدين وكون البيان في العلم واجبا ، بخلاف ما قصد به دفع ظالم أو دفع ضرر عن المتكلم .
[ المعاريض على نوعين ]
; أحدهما : أن يستعمل اللفظ في حقيقته وما وضع له فلا يخرج به عن ظاهره ، ويقصد فردا من أفراد حقيقته ، فيتوهم السامع أنه قصد غيره : إما لقصور فهمه ، وإما لظهور ذلك الفرد عنده أكثر من غيره ، وإما لشاهد الحال عنده ، وإما لكيفية [ ص: 186 ] المخبر وقت التكلم من ضحك أو غضب أو إشارة ونحو ذلك ، وإذا تأملت المعاريض النبوية والسلفية وجدت عامتها من هذا النوع ، والثاني : أن يستعمل العام في الخاص والمطلق في المقيد ، وهو الذي يسميه المتأخرون الحقيقة والمجاز ، وليس يفهم أكثر من المطلق والمقيد ; فإن لفظ الأسد والبحر والشمس عند الإطلاق له معنى ، وعند التقييد له معنى يسمونه المجاز ، ولم يفرقوا بين مقيد ومقيد ولا بين قيد وقيد ، فإن قالوا : " كل مقيد مجاز " لزمهم أن يكون كل كلام مركب مجازا ; فإن التركيب يقيده بقيود زائدة على اللفظ المطلق ، وإن قالوا : " بعض القيود يجعله مجازا دون بعض " سئلوا عن الضابط ما هو ، ولن يجدوا إليه سبيلا ، وإن قالوا : " يعتبر اللفظ المفرد من حيث هو مفرد قبل التركيب ، وهناك يحكم عليه بالحقيقة والمجاز " . قيل لهم : هذا أبعد وأشد فسادا ; فإن اللفظ قبل العقد والتركيب بمنزلة الأصوات التي ينعق بها ولا تفيد شيئا ، وإنما إفادتها بعد تركيبها ، وأنتم قلتم : الحقيقة هي اللفظ المستعمل ، وأكثركم يقول : استعمال اللفظ فيما وضع له أولا ، والمجاز بالعكس ; فلا بد في الحقيقة والمجاز من استعمال اللفظ فيما وضع له ، وهو إنما يستعمل بعد تركيبه ، وحينئذ فتركيبه بعده بقيود يفهم منها مراد المتكلم ، فما الذي جعله مع بعض تلك القيود حقيقة ومع بعضها مجازا ؟ والمعاريض نوعان
وليس الغرض إبطال هذا التقسيم الحادث المبتدع المتناقض فإنه باطل من أكثر من أربعين وجها ، وإنما الغرض التنبيه على نوعي التعريض ، وأنه تارة يكون مع استعمال اللفظ في ظاهره وتارة يكون بإخراجه عن ظاهره ، ولا يذكر المعرض قرينة تبين مراده ، ومن هذا النوع عامة التعريض في الأيمان والطلاق ، كقوله : " كل امرأة له فهي طالق " وينوي في بلد كذا وكذا ، أو ينوي فلانة ، أو قوله : " أنت طالق " وينوي من زوج كان قبله ونحو ذلك ; فهذا القسم شيء والذي قبله شيء ، فأين هذا من قصد المحتال بلفظ العقد أو صورته ما
. لم يجعله الشارع مقتضيا له بوجه بل جعله مقتضيا لضده ؟ ولا يلزم من صلاحية اللفظ له إخبارا صلاحيته له إنشاء ; فإنه لو قال : " تزوجت " في المعاريض وعنى نكاحا فاسدا كان صادقا كما لو بينه ، ولو قال : " تزوجت " إنشاء وكان فاسدا لم ينعقد ، وكذلك في جميع الحيل ; فإن الشارع لم يشرع القرض إلا لمن قصد أن يسترجع مثل قرضه ، ولم يشرعه لمن قصد أن يأخذ أكثر منه لا بحيلة ولا بغيرها ، وكذلك إنما شرع البيع لمن له غرض في تمليك الثمن وتمليك السلعة ، ولم يشرعه قط لمن قصد به ربا الفضل أو النساء ولا غرض له في الثمن ولا في المثمن ولا في [ ص: 187 ] السلعة ، وإنما غرضهما الربا ، وكذلك النكاح لم يشرعه إلا لراغب في المرأة ، لم يشرعه للمحلل ، وكذلك الخلع لم يشرعه إلا للمفتدية نفسها من الزوج تتخلص منه من سوء العشرة ، ولم يشرعه للتحيل على الحنث قط .
وكذلك التمليك لم يشرعه الله سبحانه وتعالى إلا لمن قصد نفع الغير والإحسان إليه بتمليكه سواء كان محتاجا أو غير محتاج ، ولم يشرعه لإسقاط فرض من زكاة أو حج أو غيرهما قط ، وكذلك المعاريض لم يشرعها إلا لمحتاج إليها أو لمن لا يسقط بها حقا ولا يضر بها أحدا ، ولم يشرعها إذا تضمنت إسقاط حق أو إضرارا لغير مستحق .