الرابع : قد سأل المصيصي الغزالي عن هذه المسألة فقال : الصحيح عندي أن : الأول - ما فيه نص صريح ، كأكل الضب على مائدة الرسول عليه السلام ، فالمصيب في مثل هذه المسألة واحد ، إذ النص واحد ، وقد وضع الشرع الوقائع الشرعية خمسة أقسام ، وعلى المجتهدين تعرف ما وضعه الشرع ، فمن عرف فقد أصاب ، ومن أخطأ النص ولم يعثر عليه فقد أخطأ ، أي أخطأ النص الذي كان مأمورا بطلبه ، ولو وجده للزمه الرجوع إليه ، ويكون النص كالقبلة في حقه ، والمصيب فيها واحد ، وله أجران ، وللمخطئ أجر . الثاني - ما لا نص فيه ، ولكن يدل النص عليه ، كسراية عتق الأمة ، إذ لا نص فيها ولكن يدل النص عليه . وكذلك ما شهد له النص شهادة [ ص: 302 ] جلية بقياس جلي ، فمن أخطأ معنى النص كمن أخطأ عين النص ، لأن النص ثبت الحكم لمعناه لا للفظه . إباحة الضب
ومهما تعين المطلوب كان مصيبه واحدا ، ولا معنى لقوله : " أخطأ " إلا أنه أخطأ ما قصد الشرع منه أن يعثر عليه ، وما لو عثر عليه وجب الرجوع إليه عليه . وهذا كالأول . الثالث - ما لا يتعرض له الشرع لا بلفظ يخصه ولا يخص غيره ويسري إليه ، ولكن للخلق فيه أن حكم الله فيه هو الأصلح للعباد فاطلبوه . فهذا ينقسم إلى ما هو أصلح للعباد ، فكل ما علم الله أنه أصلح للعباد فالمصيب من أمر به ، ومن تعداه فهو مخطئ ، لأن الأصلح قد تعين عند الله وصار مطلوبا ، وكل من طلب شيئا معينا فإما أنه يصيب وإما أن يخطئ فيتصور فيه الخطأ والصواب ، وكل ما تصور فيه ذلك فيميز المخطئ لا محالة في علم الله من المصيب .
الرابع - ما ليس للشرع فيه حكم معين ، ولكن قيل للمجتهدين : اطلبوا الحكم وترددوا بين رأيين ، وكل واحد من الرأيين مساو للآخر في الصلاح والفساد عند الله تعالى وكل واحد من المجتهدين هاهنا مصيب . وهذا يمكن وقوعه في الشرع ، والعقل : أما شرعا فكل حكم نيط باجتهاد الولاة ، كتفرقة العطاء على المسلمين والتسوية بينهم أو التفاوت ، كما اختلف فيه أبو بكر ، إذ ليس فيه نص على عينه ولا على مسألة قريبة منه يقال : إنه في معناه ، ولكن فيه إهمال لمصلحة تميز الفاضل من الفضول ، وهو من المصالح ، وفي التفاوت إحدى المصلحتين دون الأخرى ، ومهما قوبل ما في إحداهما من المضرة بما في إحداهما من المصلحة يجوز أن تترجح إحداهما ، ويجوز أن تتساويا في علم الله بالجبر والمقابلة . وإذا تساويا في علم الله كان كل واحد صوابا . ولولا هذا لرد المفضول في زمن وعمر بعض ما أخذه في زمان عمر أبي بكر . أو لامتنع الفاضل في زمن من أخذ الزيادة . عمر
وكلهم أجمعوا على أخذ المالين وتقرير الحكمين . فهذا منهم إجماع على أن كل مجتهد مصيب . [ ص: 303 ] وكذلك تقدير العقوبة والنفقات ، كما في شرب الخمر ، إذ لا يبعد أن يكون في الترقي إلى الثمانين مضرة من وجه ومصلحة من وجه . وكذا الاقتصار على الأربعين ، وهما عند الله متساويان بالجبر والمقابلة . وكذا كل واقعة لا نص فيها ولا هي في معنى المنصوص . الخامس - مسألة تدور بين نصين متعارضين ، فحكم الله فيه الأصلح إن كان معقول المعنى ، فيلحق بالقسم الرابع والثالث . وحكم الله فيه الأخذ بالأشبه إذا لم يكن معقول المعنى .
وقد يكون أحدهما عند الله أشبه ، وقد تكون نسبته في الشبه إلى الجانبين على التساوي في علم الله . فهذا ممكن ، وإذا أمكن فكل واحد من القولين صواب ولا مخطئ فيه . إذ الخطأ والصواب يستدعي شيئا معينا يعسر الوقوف عليه بالصواب ، وعن الغفلة عنه بالخطأ ، وهاهنا يتعين أحد الجانبين على الآخر فإذا إن كان التساوي في الصلاح أو الشبه ممكنا في علم الله فقد صح ما قلناه ، ومن أنكر هذا وإمكانه أثبت عليه بقواطع العقل ، فإن المباحات كلها إنما سوى الشرع بين فعلها وتركها لتساويها عنده في صلاح الخلق . وكذلك سائر أحكام السياسات وجميع مسائل تقابل الأصلين يكاد يكون من هذا الجنس ، إذ قلما يكون فيها ترجيح ، فإذا قضى قاض بتحليف أحد ، وقضى آخر بتحليف الآخر فقد أصابا ، بل أقول : لو استوى عند قاض واحد المصلحة والمضرة في أمرين ، أو استوى عنده الشبه بالأصلين أو الاستصحاب في مقابل الأصلين وامتنع الترجيح صار مخيرا كما في سائر المباحات . فإذا من المسائل ما يعلم أن المصيب فيها واحد ، وهو كل ما يعلم أنه لا يخلو عن حكم مذكور في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، ، لأنه مع كثرته في زمان الرسول يعلم أنه ما أغفله عن بيان حكمه ، فيقطع بأن المصيب واحد . وإن لم يبلغنا فيه نص مثلا ، فهذا حكم المجتهدين [ ص: 304 ] عند الله ، فأما عندنا فلا يطلع عليه في حق آحاد الأشخاص وأعيان المسائل . كالخيل مثلا في أنه هل يحل أكله
ويدل على ذلك تشديد ابن عباس وعائشة في بيع العينة واعتقادهم أن ذلك مجاوزة لحكم ثابت بإجماع . وإجماع الصحابة في زمان على أخذ الفضل يدل على وجود القسم الثاني . انتهى . . عمر