[ ص: 366 ] مسألة بحيث إذا غلب على ظنه أن بعض المسائل على مذهب فقيه أقوى وجب عليه تقليده ؟ اختلف جواب إذا قلنا : له أن يجتهد في أعيان المفتين ، هل له أن يجتهد في أعيان المسائل التي يقلد فيها ؟ القاضي أبي الطيب ، فأوجبه والقدوري وقال القدوري القاضي : ليس للعامي استحسان الأحكام فيما اختلف فيه الفقهاء ولا أن يقول : قول فلان أقوى من قول فلان ، ولا حكم لما يغلب على ظنه ولا اعتناء به ، ولا طريق له إلى الاستحسان كما لا طريق له إلى الصحة . ولو كان يعتقد أن أحدهم أعلم ، نقل الرافعي عن الغزالي أنه لا يجوز أن يقلد غيره . وإن قلنا : لا يجب عليه البحث عن الأعلم إذا لم يعتقد اختصاص أحدهم بزيادة علم ، قال النووي : وهذا - وإن كان ظاهرا - ففيه نظر ، لما ذكرنا من سؤال آحاد الصحابة مع وجود أفاضلهم .
ثم قال : " وعلى الجملة فالمختار ما ذكره الغزالي " . وفيما قاله نظر ، لما سبق من جواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل . وإذا قلنا : يطلب الأعلم ، فهل عليه أن يطلب الأورع ؟ كذلك اختلفوا : فقيل : عليه ، استنباطا . وقيل : لا ، إذ لا تعلق لمسائل الاجتهاد بالورع ، والأصح ترجيح الراجح علما على الراجح ورعا . فإن استويا قدم الأسن ، لأنه أقرب إلى الإصابة ، لطول الممارسة . وإذا كان هناك رجلان من أهل مذهبين : أحدهما شافعي مثلا ، والآخر حنفي ، فهل يجب عليه أن يميز بين أصل المذهبين فيعلم أيهما أصح ؟ قيل : يجب عليه ذلك ، فإنه لا يشق عليه أن أحدهما بنى مذهبه على القياس والاستحسان والرأي ، والآخر على النص . والأصح : أنه لا يجب ، لتعذر ذلك عليه ، ومن ثم لا يجب طلب الأعلم في الأصح .
وقال إلكيا : أما اتباع أو الشافعي على التخيير من غير اجتهاد مع اختلاف مذاهبهم [ ص: 367 ] فاختلفوا فيه : فقيل : يجوز ، كما يتبع مجتهدي العصر في آحاد المسائل . وقيل : لا يجوز من حيث إمكان درك التناقض . ولو أبي حنيفة ، فالقصر في حق العاصي بسفره ، واجب عند اختلف جواب مجتهدين رحمه الله ، والإتمام واجب عند أبي حنيفة رضي الله عنه . فإن قلنا بقول الشافعي ابن سريج اجتهد في الأوثق والأفقه .
وإن قلنا بخلافه قال الروياني : ففيه أوجه : ( أصحها ) : في " الرافعي " : أنه يتخير ويعمل بقول من شاء منهما ، ونقله المحاملي عن أكثر أصحابنا ، وصححه الشيخ في " اللمع " ، واختاره والخطيب البغدادي ابن الصباغ فيما إذا تساويا في نفسه ، ونقل عن القاضي ، واختاره الآمدي مستدلا بإجماع الصحابة وأنهم لم ينكروا العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل . وأغرب الروياني فقال : إنه غلط . قال ابن المنير : لو لم أجد تخيير العامي عند اختلاف المفتين منصوصا عليه في الحديث لما كان الهجوم على تقريره سائغا ، ودل أن { النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى بني قريظة وقال : لا تنزلوا حتى تأتوهم ، فحانت صلاة العصر في أثناء الطريق فاختلفوا حينئذ ، فمنهم من صلى العصر ثم توجه ، ومنهم من تمادى وحمل قوله : لا تنزلوا على ظاهره . فلما عرضت القصة على النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطئ أحدا منهم } . ونحن نعلم أن السرية ما خلت عمن لا نظر له ولا مفزع إلا تقليد وجوه القوم وعلمائهم ، وكان ذلك المقلد مخيرا ، وباختياره قلد ولم يلحقه عتب ولا عيب . و ( الثاني ) : يأخذ بالأغلظ ، وحكاه عن الأستاذ أبو منصور أهل الظاهر .
[ ص: 368 ] و ( الثالث ) : يأخذ بالأيسر والأخف . و ( الرابع ) : يجب عليه تقليد أعلمهما عنده ، فإن استويا قلد أيهما شاء . وهو ظاهر مذهب رحمه الله تعالى ، لأنه قال في " الأم " في القبلة فيما إذا اختلفوا على الأعمى ، عليه أن يقلد أوثقهما وأدينهما عنده . ويفارق ما قبل السؤال حيث لا يلزمه الاجتهاد ، لأن في الاجتهاد في أعيانهم مشقة . و ( الخامس ) : يأخذ بقول الأول لأنه لزمه حين سأله ، حكاه الشافعي الرافعي عن حكاية الروياني ، وقضيته أنهما لو أجاباه في مجلس واحد دفعة أنه يتخير قطعا ، لأنه لم يسبق أحدهما فنقول : قد لزمه قول السابق .
و ( السادس ) حكاه الرافعي : يأخذ بقول من يبني على الأثر دون الرأي . وحكى ابن السمعاني ( سابعا ) ، وقال : إنه الأولى ، أنه يجتهد في قول من يأخذ منهما . وحكى ( ثامنا ) وهو : التفصيل بين ما في حق الله تعالى وبين حق عباده : فإن كان فيما بينه وبين الله تعالى أخذ بأيسرهما ، وما كان في حقوق العباد فبأثقلهما ، وبه قال الأستاذ أبو منصور . وحكى الكعبي في كتاب " الفقيه والمتفقه " ( تاسعا ) عن ; الخطيب البغدادي أبي عبد الله الزبيري ، أنه إن اتسع عقله للفهم فعليه أن يسأل المختلفين عن حجتهما فيأخذ بأرجح الحجتين عنده . وإن قصر عن ذلك أخذ بقول المعتبر عنده . ويخرج من كلام الماوردي ( عاشر ) وهو الأخذ بقولهما إن أمكن الجمع ، فإنه قال في ( باب استقبال القبلة ) : ولو كانا عنده في العلم سواء فوجهان : [ ص: 369 ] أحدهما ) يتخير . و ( الثاني ) يأخذ بقولهما ويصلي إلى جهة كل واحد منهما . وذكر الغزالي في المسألة تفصيلا بين أن يتساويا فيراجعهما مرة أخرى ويقول : تناقض على جوابكما وتساويتما فما الذي يلزمني ؟ فإن خيراه بين الجوابين اختار أحدهما ، وإن اتفقا في الأخذ بالاحتياط أو الميل إلى أحدهما فعل ، وإن أصرا على الخلاف : فإن كانا سواء في اعتقاده اختار أحدهما ، وإن كان أحدهما عنده أرجح فوجهان : اختار القاضي التخيير ، واختار الغزالي اتباع الأفضل ، لرجحان الظن بالنسبة إليه .
وهذا يدل على ترجيح قول الأعلم عند الاختلاف ، مع اختياره أنه لا يجب . وكأنه إنما أوجب هنا ما عرض له من الضرورة والإصرار ، وقبل ذلك لا ضرورة به تدعو إلى اتباع الأعلم . والحاصل أن تعريفه إما باعتبار الضرورة وعدمها فلا يلزم من اعتبار حال الضرورة بالنسبة إلى حكم اعتبار ضدها بالنسبة إلى ذلك الحكم ، وإما لأن العمل الذي أشاروا إليه في زمن الصحابة وعدم وجوب تقليد الأعلم لا يتناول هذه الصورة . قيل : وكأن الخلاف هنا مخرج على الخلاف في العلتين إذا تعارضتا وإحداهما تقتضي الحظر ، وقال : بل من الخلاف في أن المصيب واحد ، أو : كل مجتهد مصيب ، فمن خير بينهما بناه على أن كل مجتهد مصيب ، ومن أوجب تقليد الأعلم قال " المصيب واحد . الأستاذ أبو منصور
وهذا كله إذا لم يكن عمل بأحدهما ، فلو لم يجز الرجوع إليه في ذلك الحكم ، قاله في " الإحكام " . وقال استفتى عالما فعمل بفتواه [ ص: 370 ] ثم أفتاه آخر بخلافه إلكيا : إن تساويا في ظنه ولا ترجيح اختلف فيه : فقيل : يحكم بخاطره ، وهو قول أصحاب ( الإلهام ) . وقيل : يتعين عليه التعليق بعلم الأدلة العقلية بتلك الواقعة ليكون بانيا على اجتهاد نفسه . وقيل : يتوقف في ذلك . انتهى . وقال في " المحصول " : يجتهد ، فإن ظن أرجحية في أحدهما عمل به ، وإن ظن استواءهما مطلقا فيمكن أن يقال : لا يتصور وقوعه ، لتعارض أمارتي الحل والحرمة . ويمكن أن يقال بوقوعه ويسقط التكليف ويتخير بينهما ، وإن ظن الاستواء في الدين دون العلم قلد الأعلم . وقيل : يتخير . وبالعكس الأدين ، وإن ظن أحدها أعلم والآخر أدين فالأقرب الأعلم ، فإن العلم أصل والدين مكمل . .