مسألة ؟ إن كان له ضد واحد كصوم العيد فالنهي عن صومه أمر بضده . وهو الفطر فلا خلاف ، وإلا لأدى إلى التناقض ، ومثله الأمر بالإيمان نهي عن الكفر ، وإن كان له أضداد كالأمر بالقيام فإن له أضدادا من القعود والركوع والسجود والاضطجاع ونحوها ، وكالزنى فإن من أضداده الصلاة والنوم والمشي وغيرها ، فهو محل الخلاف . الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده
[ ص: 353 ] قيل : نهي عن جميع أضداده ، وقيل : عن واحد منها لا بعينه . حكاه عبد العزيز في شرح البزدوي " . واعلم أن الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين : أحدهما : النفساني ، واختلف المثبتون له في أن الأمر بشيء معين هل هو نهي عن ضده الوجودي على مذاهب : أحدها : أنه ليس نهيا عن ضده لا لفظا ولا يقتضيه عقلا ، واختاره الإمام والغزالي وإلكيا الطبري وحكاه الشيخ أبو حامد وسليم وابن برهان وصاحب الواضح " والمعتمد " وإمام الحرمين في التلخيص " عن المعتزلة بناء على أصلهم في اعتبار إرادة الناهي ، وذلك غير معلوم . لكن نقل إمام الحرمين في البرهان " عنهم أنه يتضمنه وهو محمول على اللسان كما سيأتي فتفطن له .
وقال إمام الحرمين وإلكيا في تعليقه " : إن هذا الذي استقر عليه رأي بعد أن كان يقول : إنه نهي عن ضده . والثاني : أنه نفس النهي عن ضده من حيث اللفظ والمعنى بناء على أن الأمر لا صيغة له ، واتصافه بكونه أمرا ونهيا بمثابة اتصاف الكون الواحد بكونه قريبا من شيء ، بعيدا من شيء . وهذا قول القاضي أبي بكر الشيخ أبي الحسن الأشعري ، ، وأطنب في نصرته في التقريب " ونقله عن جميع أهل الحق النافين لخلق القرآن ، ونقله في المنخول " عن والقاضي الأستاذ أبي إسحاق ، ونقله والكعبي ابن برهان في [ ص: 354 ] الأوسط " عن العلماء قاطبة ، وقال صاحب اللباب " : هو قول وهو أشبه . وقال أبي بكر الجصاص القاضي عبد الوهاب في الملخص " : هو قول المتكلمين منهم الأشعري وغيره أنه نهي عن ضده من حيث اللفظ والمعنى ، لأن الأمر لا صيغه له .
قال ابن دقيق العيد : وهذا المذهب لا يتأتى مع القول بأن الأمر هو القول ; لأن إحدى الصيغتين لا تكون عين الأخرى قطعا فليؤول على أنه يستلزمه . انتهى . وهو عجب ; لأن الأشعري بناه على أن الأمر لا صيغه له كما سبق نقله عن القاضي عبد الوهاب وغيره ، وكذلك قال : بنى الشيخ أبو حامد الإسفراييني الأشعري هذا على أصله في أن الأمر لا صيغه له ، وإنما هو معنى قائم بالنفس ، وكذلك للنهي ، فالأمر عندهم هو نفس النهي من هذا الوجه .
وقال الهندي : لم يرد القائل أن صيغة " تحرك " مثلا غير صيغة " لا تسكن " فإن ذلك معلوم الفساد بالضرورة بل يعني أن المعنى المعبر عنه ب تحرك عين المعنى المعبر عنه ب لا تسكن ، وقالوا : إن كونه أمرا ونهيا بالنسبة إلى الفعل وضده الوجودي لكون الحركة قربا وبعدا بالنسبة إلى جهتين ، وقد وجهه الماوردي بأن الأمر له متعلقان متلازمان اقتضاء الفعل والإيقاع ، والنهي عن الفعل والاجتناب ، وترك الفعل فعل آخر ، وهو ضد المتروك والثالث : أنه ليس هو ولكن يتضمنه من طريق المعنى ، وبه جزم ، ونصره القاضي أبو الطيب في التبصرة " الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ في العدة " ونقله الشيخ أبو حامد الإسفراييني وسليم عن أكثر أصحابنا قال : وهو قول أكثر الفقهاء كافة وقال ابن السمعاني : هو [ ص: 355 ] مذهب عامة الفقهاء ونقله عبد الوهاب عن أكثر أصحاب قال : وهو الذي يقتضيه مذهب أصحابنا ، وإن لم يصرحوا به ، وقال الشافعي الباجي : عليه عامة الفقهاء واختاره الآمدي والإمام فخر الدين ، وقال أبو زيد الدبوسي في التقويم " : إنه المختار وبه جزم أبو منصور الماتريدي ، فقال : إنه نهي عن ضده بدلالة الالتزام وكذا ا قال البزدوي والسرخسي منهم ، وقال إمام الحرمين وابن القشيري والمازري : إن القاضي مال إليه في آخر مصنفاته .
وقال صاحب الواضح " : وقصد الفقهاء من هذه المسألة أن الأمر للوجوب فلهذا قالوا : إنه نهي عن ضده ثم رد الإمام على من قال : هو عينه بأنه جحد للضرورة فإن القول المعبر عنه " ب افعل " مغاير للمعبر عنه ب " لا تفعل " قيل : وهذا منه غلط أو مغالطة ; إذ ليس الكلام في " افعل " و " لا تفعل " بل في " افعل " و " لا تترك " وليس بطلان اتحاد مدلولهما ضروريا ، وأبطل مذهب التضمن بأن الأمر قد لا يخطر له الضد ، ولو خطر له فلا قصد له في تركه إلا على معنى أن ذلك وسيلة إلى المأمور به ، واعترف بأنه يرى استلزام الوجوب الوعيد على الترك فكيف لا يخطر له الضد من الترك ولا بد أن يكون متوعدا عليه ؟ ثم هذا الخلاف في الكلام النفسي بالنسبة إلى المخلوق ; لأنه الذي يغفل عن الضد ، وأما الله - تعالى - فكلامه واحد لا يتطرق إليه ذهول كما صرح به الغزالي وابن القشيري . واحترزنا بقولنا : معين عن الواجب المخير والموسع ، فإن الأمر بهما ليس نهيا عن الضد .
والمسألة مقصورة على الواجب المعين صرح به الشيخ أبو حامد الإسفراييني في التقريب " . واحترزنا بالوجودي عن الترك فإن الأمر بالشيء نهي عن تركه بطريق [ ص: 356 ] التضمن قطعا كما قاله والقاضي الهندي وغيره ، وإنما الخلاف في أنه هل هو نهي عن ضده الوجودي ؟ المقام الثاني بالنسب إلى الكلام اللساني عند من رأى أن للأمر صيغة ، وفيه مذهبان : أحدهما : أن الأمر يتضمن النهي عن الضد ، وهو رأي المعتزلة منهم عبد الجبار ، وأبو الحسين . قال : وإنما ذهبوا إلى ذلك لإنكارهم كلام النفس ، والكلام عندهم ليس إلا العبارات ، فلم يمكنهم أن يقولوا : الأمر بالشيء نهي عن ضده ، لاختلاف الألفاظ قطعا ، فقالوا : إنه يقتضيه ويتضمنه ، وليس يعنون بذلك إشعارا لغويا أو أمرا لفظيا فقط ، ولكنهم يقولون : الأمر قول القائل لمن دونه : " افعل " مع إرادات ، ومريد الشيء لا بد وأن يكون كارها لضده ، فيلزم أن يكون الأمر بالشيء نهيا عن ضده . ابن الأنباري
وفرق إمام الحرمين بين هذا القول وقول القاضي آخرا بأن المعتزلة يقولون : صيغه الأمر تقتضي النهي ، وذلك الاقتضاء راجع إلى فهم معنى من لفظ من يشعر به ، يقول بالكلام النفسي ، وما يقوم بالنفس لا إشعار له بغيره ، ولكنه يقول : إذا قام بالنفس الأمر الحقيقي فمن ضروراته أن يقوم بالنفس معه قول آخر هو نهي عن أضداد المأمور به ، كما يقتضي قيام العلم بالمحل قيام الحياة به . والثاني : أنه لا يدل عليه أصلا . وجزم به والقاضي النووي في الروضة " في كتاب الطلاق ، ولا يمكن أحد هنا أن يقول : إنه هو ، فإن صيغة " تحرك " غير صيغة " لا تسكن " قطعا .
[ ص: 357 ] ولبعض المعتزلة مذهب ثالث ، وهو أن أمر الإيجاب يكون نهيا عن أضداده ومقبحا لها ، لكونها مانعة من فعل الواجب المندوب فإن أضداده مباحة غير منهي عنها ، ولا تنزيه غالبا ، واختار الآمدي أن يقال : إن جوزنا تكليف ما لا يطاق فالأمر بالفعل ليس نهيا عن الضد ، ولا مستلزما للنهي عنه ، بل يجوز أن يؤمر بالفعل وبضده في الحالة الواحدة ، وإن منع فالأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده . واختاره الهندي أنه نهي عن ضده بطريق الاستلزام ، لا أنه وضده يستلزم ذلك بل مع مقدمة أخرى ، وهي أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، لو قيل : باستحالة تكليف ما لا يطاق وقال أبو الحسين في المعتمد " ليس الخلاف في تسمية الأمر حقيقة لبطلانه ، ولا في أن صيغة " لا تفعل " موجودة في الأمر ; لأن الحس يدفعه ، بل في أنه نهي عن ضده في المعنى .
واعلم أن الذي دلنا على الفصل بين المقامين وتنزيل خلاف كل قوم على حالة أن الشيخ والقاضي لم يتكلما إلا في النفسي ، ويدل لذلك قولهما : إن اتصافه بالأمر والنهي على ما سبق والإمام في المحصول " اختار أن الأمر يتضمن النهي عن ضده ، والظاهر أن كلامه في اللساني ; لأنه عبر بالصيغة ، وخلاف المعتزلة أنما يتصور فيه لأنهم ينكرون النفسي ، ولا أمر عندهم إلا بالعبارة . إذا علمت ذلك فقد استشكل تصوير المسألة بأنه إن كان الكلام في [ ص: 358 ] النفساني بالنسبة إلى الله - تعالى ، فالله - تعالى - بكل شيء عليم ، وكلامه واحد ، وهو أمر ونهي وخبر واحد بالذات متعدد بالمتعلقات ، وحينئذ فأمر الله عين نهيه ، فكيف يتجه فيه خلاف ؟ وإن كان الخلاف بالنسبة إلى المخلوق فقط كما صرح به الغزالي وابن القشيري فكيف يقال : هو أو يتضمنه مع احتمال ذهوله عن الضد مطلقا ؟ وهذا هو عمدة إمام الحرمين كما سبق . وجوابه : أن القائل بأنه أجراه مجرى العلم المتعلق بمتلازمين كيمين وشمال وفوق وتحت ، فإن من المستحيل علم الفوق وجهل التحت وعكسه ، وكذلك يستحيل أن يتعلق الأمر بالنفسي باقتضاء فعل ، ولا يتعلق النهي عن تركه ، وإنما الإشكال على القول بتضمنه النهي .
وجوابه ما ذكره إمام الحرمين أن هؤلاء لا يعنون بالاقتضاء ما يريده المعتزلة ، وإنما هؤلاء يعتقدون أن الأمر النفسي مقارنة نهي نفسي أيضا يجري ذلك مجرى الحياة في العلم ، فإن العلم إذا وجد اقتضى وجود الحياة . وممن جزم أن الخلاف في هذه المسألة إنما هو بالنسبة إلى الكلام اللساني لا النفساني القرافي ، وتبعه عليه التبريزي في التنقيح " ، فقال : لا يتحقق هذا الخلاف في كلام الله - تعالى ; لأن مثبتي كلام النفس مطبقون على اتحاد كلام الله من أمر ونهي ووعد ووعيد واستفهام إلى جميع الأقسام الواقعة في الكلام ، فهو - تعالى - آمر بعين ما هو ناه عنه ، ولا شك أن قول القائل : " تحرك " غير قوله : " لا تسكن " وإنما النظر في قوله : " افعل " إنما يتضمن ذلك - على خلاف فيه - طلب الفعل فهو طالب ترك ضده أم لا ؟ وكذا قال الصفي الهندي : هذا النزاع غير متصور في كلام الله - تعالى - على رأي من يرى اتحاده ، بل في كلام المخلوقين وفي كلام الله - تعالى - على رأي من يرى تعدده .
[ ص: 359 ] وقال ابن القشيري : الكلام في هذه المسألة مع مثبتي كلام النفس أما من نفاه فلا يمكنه أن يقول : الأمر عين النهي فإن صيغة " افعل " غير صيغة " لا تفعل " لكنهم قالوا : يقتضيه من طريق المعنى قال : وصار إلى هذا ضعفة الفقهاء ، ومن لم يتحقق عنده كلام النفس .
ثم قال : الخلاف في أمر المخلوق ، أما كلام الله فهو قديم ، وهو صفة واحدة يكون أمرا بكل مأمور ، ونهيا عن كل نهي ، خبرا عن كل مخبر ، ثم قال في آخر المسألة : والقول بأن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده يلزم المصير إلى مذهب ; لأن من ضرورة ارتكاب المباح أن يترك محظورات ، فوجه النظر إلى مقصود الآمر والناهي والمبيح لا فيما يقع من ضرورة الجبلة ، وهذا نهاية المسألة . الكعبي