مسألة [ المكلف به في النهي ] لا خلاف في أن المكلف به في الأمر الفعل . واختلف في ؟ والأول قول أصحابنا ، ومعنى " لا تزن " عندهم تلبس ضد من أضداد الزنى أي : افعل فعلا غيره مباحا أي فعل كان . وقال المكلف به في النهي هل المكلف به ضد المنهي عنه ، أو عدم الفعل : معناه لا تفعل الزنى من غير تعرض للضد حتى لو خلا عن المأمور وعن كل ترك له استحق الذم على أنه لم يفعل . قال أبو هاشم القاضي : ولما باح بهذا خالفه أصحابنا من المعتزلة وقالوا : ما زلت منكرا على الجبرية إثبات الثواب والعقاب على ما ليس بخلق لهم وليس بفعل لهم على التحقيق ، ثم صرت إلى ثبوت الذم من غير إقدام على فعل . وسمي بهذه المسألة الذمي حيث إنه علق بالذم المعدوم ، وهذا يهدم جملة قواعده في التعديل والتجويز . ومنشأ الخلاف في هذه المسألة أن النظر هل هو إلى صورة اللفظ فليس فيه إلا العدم ؟ فإذا قال : لا تتحرك ، فعدم الحركة هو متعلق النهي ، أو يلاحظ أن الطلب إنما وضع لما هو مقدور مما ليس بمقدور ، ولا يطلب عدمه ، والعدم نفي صرف ، فلا يكون مقدورا ، فلا يتعلق به طلب ، فتعين تعلق الطلب بالضد . أبو هاشم
[ ص: 376 ] فالجمهور لحظوا المعنى لحظ اللفظ ، والمعنى أتم في الاعتبار من صورة اللفظ . ونقل وأبو هاشم التبريزي عن الغزالي موافقة ، وهو معذور في ذلك ، فإنه قال في المنخول " قبيل باب العموم : وأما التروك فعبارة عن أضداد الواجبات ، كالقعود عند الأمر بالقيام ، ثم بعض ترك القيام لا بالقعود ، ووافقنا عليه أبي هاشم الذمي من حيث إنه علق الذم بالمعدوم . انتهى . وهذا النقل عن أبو هاشم مردود ، فإن من أمر بالقيام فلم يمتثل ، عصى عنده لكونه لم يفعل القيام لا لكونه فعل الترك ، وكونه لم يفعل نفي لا حقيقة له ، وعليه يذم ، ولهذا سمي الذمي . وظاهر كلامه في المستصفى " في هذه المسألة التفصيل بين الترك المجرد المقصود لنفسه من غير أن يقصد معه ضده بالمكلف فيه بالفعل كالصوم ، فالكف منه مقصود ، ولهذا وجب فيه النية وبين الترك المقصود من جهة إيقاع ضده كالزنا والشرب فالمكلف فيه بالضد . وتبعه أبي هاشم العبدري في شرحه .
قال : ومنشأ الخلاف هل الترك مقدور للعبد فيصح التكليف كالفعل أم لا ؟ قال : وهي حينئذ كلامية فكان ينبغي تقديم البحث في أنه مقدور أم لا على هذه ، لكنهم لم ينظروا إلا لكيفية وقوعه في الشرع . وقال بعض المحققين : التحرير في هذه المسألة أن يقال : المطلوب في النهي الانتهاء ويلزم من الانتهاء فعل ضد المنهي عنه ولا يعكس ، فقال : المطلوب ضد المنهي عنه ، ويلزم منه الانتهاء ; لأن الانتهاء متقدم في الرتبة في الفعل على فعل الضد فكان معه كالسبب مع المسبب ، فالانتهاء وفعل الضد في زمان واحد ، لكن الانتهاء متقدم بالرتبة تقدم العلة على المعلول حتى لو [ ص: 377 ] فرض أن الانتهاء يحصل بدون فعل الضد حصل المطلوب به ، ولم يكن حاجة إلى فعل الضد لكن ذلك فرض غير ممكن ، فالمقصود بالذات إنما هو الانتهاء ، وأما فعل الضد فلا يقصد إلا بالالتزام بل قد لا يقصد أصلا ، ولا يستحضر المتكلم ، ومتى قصد فعل الضد وطلبه من حيث هو كان أمرا ; لا نهيا عن ضده . وعلى هذا ينبغي حمل قول الجمهور .
وأما قول : إن المطلوب نفس " لا تفعل " فهو وإن تبادر إلى الذهن من جهة أن حرف النهي ورد على الفعل ، فقد طلب منه عدمه لكن نفس أن " لا تفعل " عدم محض فلا يكلف به ولا يطلب ، وإنما يطلب ، من المكلف ما له قدرة على تحصيله ، فلعل مراد أبي هاشم الذي هو من الانتهاء ، والانتهاء فعل ، فإن أراد ذلك تقارب المذهبان ، ويكون الجمهور نظروا إلى حقيقة ما هو مكلف به ، أبي هاشم نظر إلى المقصود به ، وهو إعدام دخول المنهي عنه في الوجود ، وإن لم يرد وأبو هاشم ذلك وأراد أن العدم الصرف الذي لا صنع للمكلف في تحصيله فهو باطل . تنبيهان الأول : [ الفرق بين المسألتين ] سألوا الفرق بين هذه المسألة وبين المتقدمة أن النهي عن الشيء أمر بضده ، ولا شك أن قولنا : الأمر بالشيء نهي عن ضده هو معنى أن المطلوب فعل الضد ، ومعنى أنه ليس أمرا بضده هو أن المطلوب انتفاء المنهي عنه ، فالمسألتان واحدة . وأجاب أبو هاشم الأصفهاني بأن الكلام في تلك المسألة بحث لفظي ، وفي هذه معنوي ، ورد بأن الأمر لفظا أن المطلوب المعنوي مأمور به على ما قاله فيحصل الاشتباه .
[ ص: 378 ] وقال القرافي : فيه وجهان : أحدهما : أن قولنا : النهي عن الشيء أمر بضده بحث في المتعلقات - بكسر اللام - فإن النهي متعلق بالمنهي عنه ، والأمر متعلق بالمأمور ، وقولنا : المطلوب في النهي فعل الضد بحث في المتعلقات - بفتح اللام - . ورد بأنهما وإن تغايرا لكنه تغاير صوري ، ولا يلزم منه عدم تداخل إحدى المسألتين في الأخرى . الثاني : أن البحث في تلك من جهة دلالة الالتزام أي : أنه من نهى عن الشيء مطابقة دل على طلب ضده التزاما ، والبحث في هذه من جهة دلالة المطابقة فما مدلولهما المطابق هل هو العدم أو ضده ؟ . قيل : والمختار أن الكلام في المسألتين في الالتزام لا المطابقة على ما سبق تقريره . ووجه الجمع أن قولهم : المطلوب بالنهي فعل الضد مرادهم به الضد العام ، وهو الانتهاء الحاصل بواحد من الأضداد المنهي عنه . وقوله : النهي عن الشيء أمر بضده قد بينوا أنه بطريق الالتزام مراد به الضد الخاص ، وهو أحد الأضداد الذي يحصل به الانتهاء أو بغيره ، فإن أرادوا الضد العام لزم من كل من المسألتين إلى الأخرى لكن لا يكون تكرارا بل هما مسألتان ، وإن لزم من معرفة إحداهما حكم الأخرى فلا يضر ، وإنما يحسن السؤال لو كانوا وضعوا مسألة " النهي عن الشيء أمر بضده " أو لا ، وليس ذلك في المحصول " بل الأمر بالشيء نهي عن ضده ، وتكلم غيره في أن النهي عن الشيء هل هو أمر بضده ؟ التنبيه الثاني : علم من كلامهم فرض الخلاف فيما إذا كان للمنهي عنه ضد وجودي يفهم ، فإن لم يكن كذلك مثل أن نحو " لا تفعل " فلا يجوز التكليف به إلا على القول بالتكليف بالمحال . ينهى عن شيء لا يفهم غير ترك ذلك [ ص: 379 ] الشيء