[ المذاهب في المدة التي يجب فيها البحث عن مخصص ]
الأمر الخامس : حكاها في " المستصفى " . إذا أوجبنا البحث عن المخصص فاختلف في المدة التي يجب فيها البحث على أربعة مذاهب
أحدها : يكفيه أدنى نظر وبحث كالذي يبحث عن متاع في بيت ولا يجده ، فيغلب على ظنه عدمه .
والثاني : يكفيه غلبة الظن بالانتفاء عند الاستقصاء في البحث .
والثالث : لا بد من اعتقاد جازم بأنه لا دليل ، ولا يكفي الظن .
ورابعها : لا بد من القطع بانتفاء الأدلة ، وإليه ذهب القاضي ، [ ص: 65 ] والقطع به ممكن ، ومنع غيره ذلك الإمكان ، لأن غاية المجتهد بعد الاستقصاء الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود ، ولا يلزم منه إلا الظن بعدم الوجود لا القطع بعدمه ، لعدم انضباط الأدلة ، واحتمال الشذوذ .
وقال القاضي : ولا يكفي عدم وجدان المخصص لمجتهد سابق ، ولا قوله ، ولو كان الحكم خاصا لنصب الله عليه دليلا للمكلفين وليكفهم ذلك . واعلم أن هذا القول قريب من الذي قبله فإن المعتقد أيضا لا يجوز النقيض وإلا لكان ظانا ، لكن يفترقان في أن المعتقد على الثالث يكون مصيبا في الحكم ، وإن تبين له الغلط بعد ذلك ، يرى أن الاعتقاد من غير علم لا يكون مطلوبا في الشريعة ، قاله والقاضي الإبياري والمختار وفاقا لإمام الحرمين وابن سريج والغزالي والمحققين الأول ، فقال : عليه تحصيل علم أو ظن باستقصاء البحث ، أما الظن فبانتفاء الدليل في نفسه ، وأما القطع فبانتفائه في حقه يتخير عن نفسه عن الوصول إليه بعد بذل وسعه ، وهذا الظن بالصحابة في مسألة المخابرة ونحوها ، وكذلك الواجب في القياس والاستصحاب وكل ما هو مشروط بنفي دليل آخر .
ويجتمع من كلام الأصحاب في المسألة أقوال أخر ، فقد قال : الماوردي والروياني كلاهما في الأقضية : ليس لزمان الاجتهاد والنظر وقت مقدر ، وإنما هو معتبر بما يؤدي الاجتهاد إليه من الرجاء والإياس وقال في كتابه : ليس لمدة البحث زمن محدد ، ولكنها معقولة ، وهذا كما أن المجتهد إذا لم يجد نصا في الحادثة يجتهد حتى يجد ما يتعلق به ، وليس له في ذلك زمن محدد ، ومعلوم أن من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلو آية بلفظ عام ، كان عليه أن يستوعبها سماعا فلعله استثنى عقب الكلام . فإذا استوعبها ، ولم يجد فيها استثناء ولا خصوصا اعتقد عمومها ، وعمل بما يوجبه لفظها . [ ص: 66 ] وليس لمدة الاستماع وقت محدد ، ولكن بانتهاء الكلام ، فكذلك من سمع آية عامة نظر ، ولا مدة لنظره أكثر من زمان يخطر بباله ما قد علمه من الأصول فيه ، فإن لم يجد في ذلك ما يدل على خصوصها واحتاج إلى التقييد أجراها على العموم ، وإن لم يحتج سأل من يعلم أن عنده علما أو ازداد في التأمل بما عنده من الأصول ، فلعله أن يتنبه به على خصوص إن كان فيها كما سأل الصحابة عن قوله تعالى : { القفال الشاشي ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } وقالوا أينا لم يظلم ؟ فأنزل الله تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } وسألوا النبي عليه السلام عن قوله : { } فقالوا أينا لا يكره الموت ؟ فكشف لهم عن المعنى . وليس كل ما قدر حصره بمقدار ، تعلق الحكم به ، كما تقول في التواتر : أن يكون عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب ، قال : وفي ذلك إبطال قول من نظر إلى إبطال النظر في معنى العموم لجهل المدة التي يقع فيها النظر . من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاءه كره لقاءه
وقال في " شرح الكفاية " : ولا يوجب التوقف أبدا ; بل هو كالحاكم يتوقف حتى يسأل عن عدالة الشهود ، ويجوز أن يكون النظر الأول هو الواجب دون التكرار ، كالمجتهد تنزل به الحادثة . القاضي أبو الطيب
قال الشيخ في " شرح الإلمام " : الموجبون للبحث عن المخصص ، إن أرادوا به أنه لا بد للمجتهد من نظره فيما تأخر من النصوص ، أو ما يتيسر له مراجعته مما ستعرفه باحتمال التخصيص فذلك صحيح ، وإن أرادوا به [ ص: 67 ] التوقف حتى يقع على ما لعله لم يبلغه من النصوص ، ولا يشعر به مع قرب المراجعة فلا يصح ، والدليل عليه أن علماء الأمصار ما برحوا يفتون بما بلغهم من غير توقف على البحث في الأمصار والبلاد عما لعله أن يكون تخصيصا . وبهذا يجاب عن قول القائل بالوجوب إنه لو كان كذلك لكانت رتبة الاجتهاد ممكنة لكل أحد حصلت له أدنى أهلية ، لأنا أولا شرطنا أن يكون أهلا للاجتهاد ، وذلك يقتضي اطلاعه على جملة من النصوص زائدة لا يصل إليها من له أدنى أهلية . انتهى .