الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ تحقيق مرادهم بالسبب ]

                                                      الرابع : ليس المراد بالسبب هنا السبب الموجب للحكم ، كزنى ماعز فرجم ; بل السبب في الجواب . قاله ابن السمعاني . وسبق منقول أبي الحسين بن القطان عن الفقهاء في ذلك . وقال صاحب المصادر : ليس المراد بالسبب هنا ما يولد الفعل ، بل المراد به الداعي إلى الخطاب بذلك القول ، والباعث عليه . فعلى هذا لا بد في خطاب الحكم من أن يكون مقصورا على سببه ، أي داعيته ، وكلام الشافعي في " اختلاف الحديث " كما سبق في بئر بضاعة يصرح بأنه ليس المراد بالسبب عين ما وقع الحكم بسببه ، بل هو أو مثله ، أو ما هو أولى بالحكم منه ، حيث قال : وكان العلم أنه على مثلها أو أكثر منها . ومن هنا قال بعضهم : لا متمسك للمستدلين بآية السرقة ، واللعان ، والظهار ، [ ص: 293 ] وغيرها ، على التعميم ، وعدم القصر على السبب ، فإن القطع ، وأحكام اللعان ، والظهار ، ثبتت فيمن كان مثل من نزلت فيه ، وذلك ليس من العموم ، وذلك أن تقول : إلحاق مثله ، أو ما هو أولى منه ، إن كان بالقياس ، فخروج عن موضوع المسألة ، وإن كان من اللفظ ، لزم اتحاد القول بالقصر على السبب . والقول بالعموم ، ثم من أي الدلالات هو ؟ فليتأمل ذلك .

                                                      الخامس : قال القاضي : يجب أن تترجم هذه المسألة باللفظ العام إذا ورد على سبب خاص . أو في سبب خاص ، ولا يقال عند سبب خاص . قال : والفرق بينهما أنك إذا قلت : عند سبب خاص ، فليس للسبب تعلق به أصلا ، وفرق بين قولك : ضربت العبد على قيامه ، وضربته عند قيامه . ففي الأول جعلت القيام سببا للضرب بخلاف الثاني . قال ابن القشيري : وهي مناقشة لفظية .

                                                      السادس : هذا العام وإن كان حجة في موضع السبب أو السؤال وغيره ، لكن دلالته على صورة السبب أقوى ، فلهذا قال الأكثرون : إنها قطعية الدخول ، فهو نص في سببه ، ظاهر فيما زاد عليه ، وإنما جعلوها قطعية في السبب لاستحالة تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ولا يصح منه عليه السلام أن يسأل عن بيان ما يحتاج إلى بيانه فيضرب عن بيانه ويبين غيره مما لم يسأل عنه ، وعلى هذا فيجوز تخصيص هذا العام بدليل كغيره من العمومات المبتدأة ، لكن لا يجوز تخصيص صورة السبب بالاجتهاد ، لأن العام يدل عليه بطريق العموم ، وكونه واردا لبيان حكمه .

                                                      وحكي عن أبي حنيفة أنه جوز إخراج صورة السبب عن عموم اللفظ ، إجراء له مجرى العام المبتدأ ، فإنه يجوز تخصيص بعض آحاده مطلقا ، واستنبط ذلك من مصيره إلى أن الحامل لا تلاعن ، مع أن الآية نزلت [ ص: 294 ] في امرأة العجلاني ، وكانت حاملا ، ومن مصيره إلى أن ولد المشرقية يلحق بفراش المغربي مع عدم الاحتمال ، تلقيا من قوله : { الولد للفراش } ، وقد ورد في عبد بن زمعة إذ تداعى ولد وليدة أبيه ، وكانت رقيقة ، ولدته على فراش أبيه ، وعنده أن الأمة إذا أتت بولد لا يلحق السيد إلا إن أقر به . فقال بالخبر فيما لم يرد فيه ، وهو الحرة ، فألحقه بصاحب فراشها ، ولم يقل به فيما ورد فيه ، وهو الأمة فلم يلحق ولدها بصاحب فراشها ، فاستعمل عموم اللفظ في غير ما ورد فيه ، وأخرج ما ورد فيه عن حكمه . وأعجب من هذا أنه عمل بعموم الحديث مطلقا ، حيث ألحق الولد بالفراش في الحرة ، وإن تحقق نفيه كالمغربية مع المشرقي . قال الأستاذ أبو منصور : وكذا خلافهم في تكبيرات العيدين ، هي سنة فيهما عند الشافعي ، وأسقطها أبو حنيفة في عيد الفطر ، وفيه نزل قوله تعالى : { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم } وقال الإمام الغزالي في الأولين : الظن أن ذلك لا يصح عن أبي حنيفة ، وكذلك أنكره المقترح ، وقال : لعله لم يبلغه الحديثان . قلت : ولو صح نسبة ذلك إلى أبي حنيفة من هذا للزم نسبته إلى مالك أيضا فإن مالكا قال بالقيافة في ولد الأمة لا الحرة ، مع أن حديث مجزز المدلجي إنما ورد في الحرة . [ ص: 295 ] ونقل عنه أن المحرم بالعمرة لا يباح له التحليل ، لأنه لا يخاف الفوت بخلاف الحج ، مع أن آية الإحصار إنما نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم محرم بالعمرة ، وتحلل بسبب الإحصار .

                                                      وقال بعض المتأخرين : قولهم : إن دخول السبب قطعي ينبغي أن يكون محله فيما إذا دلت قرائن حالية أو مقالية على ذلك ، أو على أن اللفظ عام يشمله بطريق الوضع لا محالة ، وإلا فقد ينازع الخصم في دخوله وضعا بحسب اللفظ العام ، ويدعي أنه قصد المتكلم بالعام إخراج السبب وبيان أنه ليس داخلا في الحكم ، فإن للحنفية أن يقولوا في عبد بن زمعة : الولد للفراش ، وإن كان واردا في أمة ، فهو وارد لبيان حكم ذلك الولد ، وبيان حكمه إما بالثبوت أو الانتفاء فإذا ثبت أن الفراش هي الزوجة ، لأنها هي التي يتخذ لها الفراش غالبا ، وقال : الوالد للفراش ، كان فيه حصر أن الولد للحرة ، ومقتضى ذلك لا يكون للأمة ، فكان فيه بيان الحكمين جميعا نفي السبب عن المسبب ، وإثباته لغيره ، ولا يليق دعوى القطع هنا ، وذلك من جهة اللفظ .

                                                      وهذا في الحقيقة نزاع في أن اسم الفراش هل هو موضوع للحرة والأمة الموطوءة أو الحرة فقط ؟ الحنفية يدعون الثاني ، فلا عموم عندهم له في الأمة ، فتخرج المسألة عن هذا البحث . نعم ، قاله : { هو لك يا عبد بن زمعة ، وللعاهر الحجر } يقتضي أنه ألحقه به على حكم السبب ، فيلزم أن يكون من قوله الفراش . [ ص: 296 ] قلت : ومن المسائل التي يعاكس فيها أبو حنيفة والشافعي أصلهما ذهاب الشافعي ومالك إلى أن التحلل في الحج مخصوص بحصر العدو ومنعاه في المرض ، لأن قوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } نزل في الحديبية ، وكان الحصر بعدو ، فاعتبر خصوص السبب ، وخالفهما أبو حنيفة في ذلك فاعتبر عموم اللفظ لأن الآية دالة على جواز خروجه من الحج بالأعذار ، فإن الإحصار عند المعتبرين من أهل اللغة موضوع لإحصار الأعذار ، والحصر موضوع لحصر العدو .

                                                      قال الشيخ عز الدين ولا يحسن أن يقال : إن محل السبب يقتضي حصر العدو ، لأن اللفظ إذا دل على حصر العدو ، كانت دلالته على حصر الأعذار من طريق أولى ، فنزلت لتدل على إحصار العدو بمنطوقها ، وعلى إحصار العذر بمفهومها ، فتناولت الأمرين جميعا . فإن قيل : قد قرر بها ما يدل على أنها نزلت في حصر العدو ، وهو قوله تعالى : { فإذا أمنتم } والأمن إنما يستعمل في زوال الخوف من الأعداء دون زوال المرض والأعذار ، وأجاب أن الآية لما دلت على التحلل بالحصر رجع الأمر إلى ما دلت عليه بطريق الأولى لا بطريق اللفظ ، وإن جعلنا حصر وأحصر لغتين دل أحصر على الأمرين ، ورجع لفظ الأمن إلى أحدهما دون الآخر .

                                                      قال : والذي ذكره مالك والشافعي لا نظير له في الشريعة السمحة ، [ ص: 297 ] فإن من انكسرت رجله وتعذر عليه العود إلى الحج أو العمرة ، يبقى في بقية عمره حاسر الرأس ، مجردا عن اللباس ، محرما عليه كل ما يحرم على المحرم ، بعيد شرعا . واعلم أن مذهب مالك أن الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها ، ورد عليه إمام الحرمين بحديث : { التسبيح للرجال ، والتصفيق للنساء } . قال : ولو جاز الكلام في مصلحتها لما أمر المأمور في ذلك إذا ناب الإمام شيء ، ويلزم مالكا إخراج محل السبب من العموم ، فإن الحديث ورد على شيء ناب أبا بكر في صلاته ، لما صلى بهم وصفقوا ، فلما فرغ من الصلاة قال صلى الله عليه وسلم : { إنما التسبيح للرجال } ، فلا يجوز إخراج السبب ، ويعتبر اللفظ ، حتى لو استأذن عليه شخص وهو في الصلاة ، أو رأى أعمى يقع في بئر فإنه يفهمه بالتسبيح .

                                                      السابع : أورد على قولهم إن السبب داخل قطعا أنه قبل نزول الآية ، والحكم إنما يثبت من حين نزولها فكيف ينعطف على ما مضى ؟ وقد أجمعت الأمة على أن أوس بن الصامت شمله الظهار وأمثاله من الأسباب ، وهذا الإشكال وارد على سبب . ويخص آية الظهار واللعان إشكال آخر وهو أن " الذين " في قوله تعالى : { والذين يظاهرون من نسائهم } مبتدأ وخبره " فتحرير " أي فكفارتهم تحرير ، وحذف لدلالة الكلام عليه . وجاز دخول الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، وتضمن الخبر معنى الجزاء . فإذا أريد التنصيص على أن الخبر مستحق بالصلة دخلت الفاء حتما للدلالة على ذلك ، وإذا لم تدخل احتمل أن يكون مستحقا به أو بغيره . كما لو قيل : الذين يظاهرون عليهم تحرير رقبة ، وإن كنا نقول : إن ترتب الحكم على الوصف مشعر بالعلية ، ولكن ليس بنص ودخول الفاء نص . [ ص: 298 ] إذا عرفت هذا فالآية لا تشمل إلا من وجد منه الظهار بعد نزولها ، لأن نفي الشرط مستقبل فلا يدخل فيه الماضي ، وقد أوجب النبي عليه السلام الكفارة على أوس بن الصامت ، وذلك لا شك فيه من جهة أنه السبب .

                                                      وأجيب عنه بأن إثبات أحكام هذه الآيات لمن وجد منه السبب قبل نزولها لأن هذه الأفعال كانت معلومة التحريم ، كالسرقة والزنى ، ووجوب الحد فيهما لا يتوقف على العلم ، والفاعل لها قبل نزول الآية إذا كان هو السبب في نزولها من حكم المقارن لها ، لأنها نزلت مبينة لحكمه فلذلك ثبت حكمها فيه دون غيره ممن تقدم الماضي والمستقبل ، وسبب النزول حاضر أو في الحكم الحاضر ، وأما دلالة الفاء على الاختصاص بالمستقبل فقد يمنع .

                                                      الثامن : أن العموم الخارج مخرج التشريع أولى من الخارج على سبب ، كقوله عليه السلام : { إنما الربا في النسيئة } مع قوله : { لا تبيعوا الذهب بالذهب } ، فهذا خرج مخرج التشريع ، والأول أمكن خروجه على سؤال سائل ترك الراوي ذكر سببه قاله أبو الحسين بن القطان .

                                                      وقال الغزالي : يصير احتمال التخصيص للخارج على سبب أقرب مما [ ص: 299 ] لم يخرج على سبب ، ويقنع فيه بدليل أخف وأضعف . وقد يصرف بقرينة اختصاص بالواقعة ، ويأتي فيها ما ذكر في باب التراجيح .

                                                      التاسع : لك أن تسأل عن الفرق بين هذه المسألة ، وبين قولهم : إن الحكم إذا شرع لحكمة أو سبب ، ثم زال ذلك السبب ، هل يبقى الحكم تمسكا بعموم اللفظ أو لا يبقى نظرا للعلة ؟ وجهان مذكوران في استحباب الذهاب إلى العيد من طريق ، الرجوع من أخرى . وترجيحهم الميل إلى تعميم الحكم كما في الرمل ، والاضطباع في الطواف . وجعل الرافعي منه أن العرايا لا تختص بالمحاويج على الصحيح ، وإن كان سبب على الرخصة ورد في المحاويج تمسكا بعموم الأحاديث .

                                                      العاشر : إذا اعتبرنا السبب فلا ينبغي جعله من العام المخصوص ، بل من العام الذي أريد به الخصوص ، وسيأتي الفرق بينهما . فائدة

                                                      نزول الآية لمحل لا يقتضي تعلقها به ، وقد يخرج فيها قولان للشافعي ، فإنه ذهب في القديم إلى أن المتمتع له صيام أيام التشريق عن تمتعه ، لقوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة } إلى قوله تعالى : { فصيام ثلاثة أيام في الحج }

                                                      قال الماوردي : ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية نزلت في يوم التروية ، وهو الثامن من ذي الحجة ، فعلم أنه أراد بها أيام التشريق .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية