مذهب  الشافعي  في جواب يكون أعم من السؤال    : والصحيح عنده القول بالعموم ، وفروع مذهبه تدل عليه ، وقد نص في " الأم " في كتاب الطلاق على أن العمل للألفاظ ولا تعمل الأسباب شيئا ، لأن السبب قد يكون ، ويحدث الكلام على غير السبب ، ولا يكون مبتدأ الكلام الذي حكم ، وخدش بعضهم في هذا ، فإن  الشافعي  إنما ذكر ذلك في معرض أن الغضب وغيره من الأسباب التي يرد عليها الطلاق لا يدفع وقوع الطلاق ، ونحن نقول : بل العبرة في كلام  الشافعي  بعموم اللفظ  [ ص: 278 ] لا بخصوص السبب ، وقوله : لا عمل للأسباب على عمومه ، ولا يخصه سياقه . 
وقال في " الأم " في باب بيع العرايا للأغنياء  ما نصه : والذي أذهب إليه أنه لا بأس بذلك ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين أحلها لم يذكر أنها تحل لأحد دون أحد ، كما قال : تحل لك ، ولمن كان مثلك ، كما قال في التضحية بالجذعة : { تجزيك ولا تجزي عن أحد بعدك   } ، وكما حرم الله الميتة فلم يرخص فيها إلا للمضطر ، وكثير من الفرائض نزل بأسباب قوم ، وكان لهم وللناس عامة إلا ما بين الله أنه أحل لغيره ضرورة أو حاجة . انتهى . 
وقد نقل الماوردي  عنه عند الكلام في " أن قرينة الغضب لا تجعل الكناية صريحا " أنه إذا كان لفظه عاما لم أعتبر خصوص السبب ، وإن كان خاصا لم أعتبر عموم السبب . 
وقال الرافعي  في كتاب الأيمان : لو من عليه بمال ، فقال : والله لا أشرب لك ماء من عطش ، انعقدت اليمين على الماء وحده ، وقال  مالك    : بكل ما ينتفع به من ماله . قال  الشيخ أبو حامد    : وسبب الخلاف أن الاعتبار عندنا باللفظ ، وبه أعتبر عمومه وإن كان السبب خاصا ، وخصوصه وإن كان السبب عاما ، وعنده الاعتبار بالسبب دون اللفظ . 
وقد أنكر الإمام فخر الدين  في مناقب  الشافعي  على من نقل عنه القول الأول ، وقال : معاذ الله أن يصح هذا النقل عنه ، كيف وكثير من الآيات نزل في أسباب خاصة ؟ ثم لم يقل  الشافعي  بأنها مقصورة على تلك الأسباب . والسبب في وقوع هذا النقل الفاسد أنه يقول بأن دلالته على سببه أقوى ; لأنه لما وقع السؤال عن تلك الصورة لم يجز أن لا يكون اللفظ جوابا عنه ، ولا تأخر البيان عن وقت الحاجة ،  وأبو حنيفة  عكس ذلك ،  [ ص: 279 ] 
وقال : دلالته على سبب على النزول أضعف ، وحكم بأن الرجل لا يلحقه ولد أمته وإن وطئها ، ما لم يقر بالولد ، مع أن قوله صلى الله عليه وسلم : { الولد للفراش ، وللعاهر الحجر   } إنما ورد في أمة ، والقصة مشهورة في عبد ابن زمعة  ، فبالغ  الشافعي  في الرد على من يجوز إخراج السبب ، وأطنب في أن الدلالة عليه قطعية ، كدلالة العام عليه بطريق العموم ، وكونه واردا لبيان حكمه ، فتوهم المتوهم أنه يقول إن العبرة بخصوص السبب . 
قلت    : وأما إمام الحرمين  فاستدل على أن  الشافعي  يقول بخصوص السبب ، بأنه لم يجعل قوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا    } الآية . قاصرا للمحرمات في هذه الأشياء ، قال : لورود الآية في الكفار الذين كانوا يحلون الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، ويتحرجون عن كثير من مباحات الشرع ، فكانت سجيتهم تخالف وضع الشرع وتضاده ، وكان الغرض منه إبانة كونهم على مضادة الحق ، فكأنه تعالى قال : لا حرام إلا ما حللتموه ، والقصد الرد عليهم فقط . 
قال : ولولا سبق  الشافعي  إلى ذلك ما كان يستجيز مخالفة تلك في مصيره إلى حصر المحرمات فيما ذكره الله تعالى في هذه الآيات . انتهى . وتبعه ابن القشيري    .  [ ص: 280 ] وذكر غيره مواضع في كلام  الشافعي  يؤخذ منها ذلك . 
منها : أنه قال في قوله عليه السلام : { الماء لا ينجسه شيء   } ; خرج على سبب وهو بئر بضاعة  ، فقصره على سببه . وقال في اختلاف الحديث : أما حديث بئر بضاعة  ، فإن بئر بضاعة  كثيرة الماء واسعة ، كان يطرح فيها من الأنجاس ما لا يغير لها لونا ولا طعما ولا ريحا ، فقيل : أنتوضأ منها ويطرح فيها كذا ؟ فقال عليه السلام مجيبا : { الماء لا ينجسه شيء   } ، وكان جوابه محتملا كل ماء ، وإن قل . وبينا أن في الماء مثلها إذا كان مجيبا عليها ، فلما روى  أبو هريرة  عن النبي عليه السلام أن يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا دل على أن جوابه في بئر بضاعة  عليها ، وكان العلم أنه على مثلها أو أكثر منها ، ولا يدل حديث بئر بضاعة  وحده على أن ما دونها من الماء لا ينجس ، وكانت آنية الناس صغارا ، وكان في حديث الولوغ دليل على أن قدر ماء الإناء ينجس بمخالطة النجاسة له ، وإن لم يغير . انتهى . 
وقال في قوله : { إنما الربا في النسيئة   } : إنه خرج على سؤال سائل ، فقصره . 
ومنها قوله : إن جلد الكلب لا يطهر بالدباغ ، وجعل قوله : { أيما إهاب دبغ فقد طهر   } خاصا بالمأكول ، فقد قصره على سببه .  [ ص: 281 ] 
ومنها أنه خصص النهي عن قتل النساء والصبيان بالحربيات ، لخروجه على سبب ، وهو { أنه صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة في بعض غزواته ، فقال : لم قتلت وهي لا تقاتل ؟   } ونهى عن قتل النساء والولدان ; فعلم أنه أراد الحربيات . وتخلص بذلك عن استدلال  أبي حنيفة  به على منع قتل المرتدة    . فقد ألغى  الشافعي  التعميم وقصره على السبب . ومنها قال الماوردي  في الحاوي : لا يختلف أصحابنا أن الصوم في السفر أفضل من الفطر  ، لأن الفطر مضمون بالقضاء ، وأما قوله عليه الصلاة والسلام : { ليس من البر الصيام في السفر   } ، فهذا ورود على سبب وهو أنه عليه الصلاة والسلام مر برجل ، وقد أحدق به الناس ، فسأل عنه ، فقيل مسافر ، قد أجهده الصوم ، فقال { ليس من البر الصيام في السفر   } ، وعندنا أن من أجهده الصوم ففطره أولى . ا هـ . قلت    : وهذا كله لا ينبغي السبق به إلى نسبة  الشافعي  إلى اعتبار خصوص السبب ، أما ما ذكره إمام الحرمين  ، فليس ذلك مصيرا إلى اعتبار السبب لوجهين : 
أحدهما : أنه لم يأخذ التخصيص هنا من السبب ، وإنما أخذه من التأويل في اللفظ ، وله محامل وقصده بذلك تطرق التأويل إلى الآية التي تمسك بها  مالك  ، ولولا فتح هذا الباب لكانت الآية نصا في الحصر ، وهي من أواخر ما نزل من القرآن ، ولا نسخ فيها ، ويدل على ذلك إجماع الصحابة على تحريم الحشرات والقاذورات والعذرات ، ولم تنطو الآية عليها ، وكيف تجري الآية مع هذا على العموم .  [ ص: 282 ] 
والثاني : أن النزاع في هذه المسألة حيث لا دليل يصرف إلى السبب ،  والشافعي  إنما قصر الآية على سببها لما وردت السنة بمحرمات كثيرة كالحمر الأهلية ، وكل ذي ناب من السباع ، وذكر الآية الأخرى على جمع الخبائث ، فجمع  الشافعي  بين الأدلة كلها ، بأن قصر آية الإبهام على سببها ، وقد أشار  الشافعي  إلى ذلك في الرسالة وهو أعلم بمراده . 
وأما حديث { الماء لا ينجسه شيء   } و { إنما الربا في النسيئة   } فإنما فعل ذلك كما قال أبو الحسين بن القطان  وغيره ، لأنه رأى الأخبار تعارضت ، فلم يمكن استعمالها على ظاهرها ، فحملها على السبب للتعارض . 
وأما مسألة الدباغ فلم يقصر الحكم على السبب ، وإلا لقصره على خصوص الشاة ، بل سائر جلد المأكول عنده سواء ، وإنما أخرج جلد الكلب عن العام بدليل ، وكذا مسألة القطع . 
وأما ما قاله في النهي عن قتل النساء والصبيان ، فإنه إنما قصره على سببه لما عارضه قوله : { من بدل دينه فاقتلوه   } ، ولم يكن به من تخصيص أحدهما بالآخر ، فوجب تخصيص الوارد على سببه ، وحمل الآخر على عمومه ، لأن السبب من أمارات التخصيص . ذكره الماوردي  في الحاوي . 
وأما ما قاله الماوردي  حديث : { ليس من البر الصيام في السفر   } فإنما اعتبر السبب لقصد الجمع بين الأحاديث كنظير ما سبق في بئر بضاعة  ، كيف وقد نص في كتاب اللعان على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب في إقامة الدليل عليه .  [ ص: 283 ] وأما حديث : { الخراج بالضمان   } ، فقال  القفال الشاشي  في أصوله : قصره أصحابنا على سببه ، وهو فيه عبد بيع ، فظهر فيه عيب ، فجهل لمشتريه خراجه لضمانه إياه لو تلف . قال : فجعل أصحابنا ذلك حكما في البيوع دون الغصوب وإن كانت الغصوب مضمونة ، وقد خالفهم في ذلك غيرهم . ا هـ . 
وقال  القاضي الحسين  في تعليقه : الغاصب يضمن منفعة المغصوب استوفاها أم لا ، خلافا  لأبي حنيفة  ، واحتج بحديث : { الخراج بالضمان   } ، وأجاب  الشافعي  بأن الخبر ورد في خراج الملك فإنه ورد في المشتري إذا استعمل المبيع ، ثم اطلع على عيب ، فأراد الرد . ا هـ . هذا من القفال   والقاضي  اعتبارا للسبب . واعترض بعضهم بأن  الشافعي  روى هذا الحديث بلفظ : أن { النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان   } ، وحينئذ فليس مما نحن فيه ، إذ لا عموم لمثل هذه الصيغة على الأصح ، كما فيمن قضى بالشفعة . قلت    : لكن رواه أبو داود  عن  عائشة  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الخراج بالضمان   } . وهذه صيغة عامة ، ثم رأيت  الشافعي  قال في البويطي  والحجة في أن على الغاصب غلة ما اغتصبه ، وإن لم يسكن الدار ، ولم يركب الدابة حديث مجالد بن خلاف  حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم : { الخراج بالضمان   } ، وإنما ذلك في عبد ، وليس بعيبه ، فقضى النبي عليه السلام بالغلة لمالك الرقبة ، فذلك يقضي بالغلة لمالك الرقبة ، وهو المغصوب منه ، لأنه مالك الشيء . ا هـ . وهذا الاستدلال يرفع الإشكال ، وقد قال ابن السمعاني  في القواطع : قيل : إن  الشافعي  أشار إلى اعتبار خصوص السبب في بئر بضاعة  ، وقال في قوله : { الماء لا ينجسه شيء   } مقصود على سببه . وقال  [ ص: 284 ] في قوله : { لا قطع في ثمر ولا كثر   } أنه خرج على عادة أهل المدينة  في ثمارهم وأنها لم تكن في مواضع محوطة . وسائر الأصحاب قالوا : إنما قال  الشافعي  هذا لأدلة دلت عليه ، فأما إذا لم يكن هناك دليل على التخصيص فمذهبه إجراء اللفظ على عمومه . ا هـ . 
وقال  أبو بكر الصيرفي  في أصوله ، وأبو الحسين بن القطان  أيضا : كل خطاب حصل عند حدوث معنى ، فإن كان في الخطاب أو غيره دلالة على أنه أراد الحكم في المعنى فالنظر إلى المعنى ابتداء سواء كان أعم من الاسم أو أخص ، لقيام الدليل على اعتبار المعنى ، وإن لم تقم دلالة فالحكم للاسم حتى يقوم الدليل على خلافه . انتهى . والحاصل أن مذهب  الشافعي  العمل بالعموم إلا أن يقوم دليل يقتضي القصر على السبب ، فحينئذ يرجع إليه كما فعل في الآية ، وفي حديث { الخراج بالضمان   } ، وبئر بضاعة ، وغيرها . وحكاه  القفال الشاشي  وأبو الحسين بن القطان  عن أصحابنا . ولا يلزم من القصر على السبب لدليل العمل به مطلقا ، فمن هاهنا مثار الغلط على  الشافعي  ، فقد عملوا بحديث : { الولد للفراش   } مطلقا في الإماء والحرائر والأمة المملوكة والمنكوحة مع أنه ورد في التداعي في ولد المملوكة ، وعملوا بحديث العرايا مطلقا ، للأغنياء والفقراء ، مع أن الرخصة إنما وردت في الفقراء . وكذلك مشروعية الرمل ثبتت مطلقا ، وإن ورد على سبب خاص ، وقد زال . 
واتفق  الشافعي  والأصحاب على أن المحرم يحصره عدو أنه يتحلل ، سواء كان المانع مسلما أو كافرا لعموم الآية ، وإن كانت قد وردت على سبب  [ ص: 285 ] خاص ، وهو صد المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت ، أو يقال : إن العام الوارد على سبب إما أن يكون ورد مقصودا به حقيقة السبب ، ومؤثرا في دفعه ، وإما أن يرد لقصد التشريع ، والأول هو مراد  الشافعي  بالحمل على الخصوص . ولا ينبغي أن يجري فيه خلاف . والثاني هو المراد بعموم اللفظ . ويشهد لهذا التقرير أن إلكيا الهراسي  لما جزم القول بالحكم بعموم اللفظ ، قال : يعم العام الذي لم يرد على سبب أقوى وهذا دونه ، قال : ولا جرم قال  الشافعي  إن قوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما    } الآية لا نرى دلالته على حصر المحرمات فيما رآه  مالك  ، فإنه نزل على سبب ، وهو عادة العرب  في تناول الموقوذة والمتردية ، فيحتمل أن يكون أراد لا محرم مما يأكلون إلا كذا وكذا يعم ، قد بان الشرع بصيغة في تمهيد قاعدة . ثم يجعل محل السؤال كالفرع له ، أو كالمثال ، فذلك لا يوهن التعلق بعموم اللفظ ، كقوله : { إنما الأعمال بالنيات   } ثم قال : { فمن كانت هجرته   } الحديث . ومحل السؤال الهجرة ، ولكن اللفظ لا يتأثر ولا ينحط عن غيره على ما قاله الإمام  وفيه بحث . ا هـ . ويجتمع مما سبق في المنسوب  للشافعي  في هذه المسألة خمسة طرق : 
أحدها : حكاية قولين له وهي طريقة  القاضي أبي بكر    . 
والثانية : تنزيلهما على حالين وهي الطريقة التي ذكرتها . 
أخيرا . 
والثالثة : القطع باعتبار السبب وهي طريقة إمام الحرمين    . 
والرابعة : القطع باعتبار اللفظ وهي المشهور 
الخامسة : القطع باعتباره فيما لم يقم دليل على القصر على السبب ، وهي في الحقيقة منقحة للرابعة ، والله أعلم . [ بقية المذاهب فيما إذا كان الجواب أعم من السؤال    ] : 
والمذهب الثالث : الوقف فإنه يحتمل البعض ويحتمل الكل فيجب التوقف حكاه  القاضي  في " التقريب " .  [ ص: 286 ] 
الرابع : التفصيل بين أن يكون السبب سؤال سائل فيختص به ، وأن يكون وقوع حادثة فلا . حكاه عبد العزيز  في " شرح البزدوي    " . 
والخامس : إن عارضه عموم خرج ابتداء بلا سبب قصر ذلك على سببه ، وإن لم يعارضه فالعبرة بعمومه . قال  الأستاذ أبو منصور    : هذا هو الصحيح . قال : ولذلك قصرنا نهيه عليه السلام عن قتل النساء على الحربيات دون المرتدات ، لمعارضته قوله : { من بدل دينه فاقتلوه   } ، وقد يقال : هذا عين المذهب الثاني ، لأن المعممين شرطوا عدم المعارض . 
				
						
						
