المسألة الرابعة
أن عند أصحابنا ، ويوجبه عند الحنفية ، وقيل : بالوقف . لنا أن العطف لا يقتضي الاشتراك في هذه الأحكام . ومثال المسألة : احتجاج أصحابنا على أن المسلم لا يقتل بالذمي بقوله عليه الصلاة والسلام : { المعطوف إذا كان خاصا لا يوجب التخصيص المذكور في المعطوف عليه } ، وهو عام في الحرب والذمي ، لأنه نكرة في سياق النفي . [ ص: 308 ] وقالت الحنفية : بل هو خاص ، والمراد به الحربي ، بقرينة عطف الخاص عليه ، وهو قوله : { لا يقتل مؤمن بكافر } لأنه عليه السلام عطف عليه قوله : { ولا ذو عهد في عهده } فيكون معناه ولا ذو عهد في عهده بكافر ، على حد قوله تعالى : { ولا ذو عهد في عهده آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون } ثم إن الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي فقط بالإجماع . لأن المعاهد يقتل بالمعاهد ، فيجب أن يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم أيضا هو الحربي ، تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه . وهذا التقدير ضعيف لوجوه .
أحدها : أن العطف لا يقتضي الاشتراك بين المتعاطفين من كل وجه .
الثاني : أن قوله : { } كلام تام ، فلا يحتاج إلى إضمار قوله : بكافر ، لأن الإضمار خلاف الأصل ، والمراد حينئذ أن العهد عاصم من القتل . ولا ذو عهد في عهده
وقد ذهب أبو عبيد في " غريب الحديث " إلى ذلك فقال : إن قوله : { } جملة مستأنفة ، وإنما قيده بقوله : " في عهده " ، لأنه لو اقتصر على قوله : " ولا ذو عهد " لتوهم أن من وجد منه عهد ، ثم خرج منه ، لا يقتل ، فلما قال : " في عهده " علمنا اختصاص النهي بحالة العهد . ولا ذو عهد في عهده
فإن قيل : ما وجه الارتباط بين هاتين الجملتين على رأيكم ؟ إذ لا يظهر [ ص: 309 ] مناسبة لقولنا : { } مطلقا مع قولنا : { ولا ذو عهد في عهده } . أجاب لا يقتل مسلم بكافر : بأن عداوة الصحابة للكفار كانت شديدة جدا ، فلما قال عليه السلام { أبو إسحاق المروزي } خشي أن يتجرد هذا الكلام ، فتحملهم العداوة الشديدة بينهم على قتل كل كافر من معاهد وغيره ، فعقبه بقوله ما معناه : ولا ذو عهد في زمن عهده لا يقتل مسلم بكافر
الثالث : أن حمل الكافر المذكور على الحربي لا يحسن ، لأن هدر دمه من المعلوم من الدين بالضرورة ، فلا يتوهم أحد قتل مسلم به ، ويبعد هذا الجواب قليلا أمران :
أحدهما أن مدلول الحديث مستغنى عنه بما دل عليه قوله تعالى : { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } فالحمل على فائدة جديدة أولى .
وثانيها : أن صدر الحديث نفى فيه القتل قصاصا لا مطلق القتل ، فقياس آخره أن يكون كذلك .
الرابع : سلمنا صحة التقدير ، لكن لا نسلم لزوم تساوي الدليل والمدلول عليه ، لأنهما كلمتان لو لفظ بهما ظاهرتين أمكن أن يراد بإحداهما غير ما أريد به بالأخرى ، فكذلك منع ذكر إحداهما ، وتقدير الأخرى ، ويؤيده عموم : " والمطلقات " وخصوص " وبعولتهن " مع عود الضمير عليه .
إذا علمت هذا ، فاعلم أنه قد اختلف طرق الأصوليين في ترجمة هذه المسألة ، فمنهم من ترجمها كما ذكرنا ، وادعى أنه الصواب كما سيأتي ، ومنهم من ترجمها كالآمدي في " الأحكام " بأن وهذه تشمل ما لا خلاف فيه ، وهي ما لو قال : لا [ ص: 310 ] يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد في عهده بحربي ، فلا يقول أحد باقتضاء العطف على العام العموم ، حتى لا يقتل المعاهد بكافر ، حربيا كان أو ذميا . العطف على العام : هل يقتضي العموم في المعطوف ؟
ومنهم من ترجمها كالإمام فخر الدين والبيضاوي والهندي ، وغيرهم ، بأن عطف الخاص لا يقتضي تخصيصه . وناقشهم النقشواني وغيره بأن هذه العبارة تشمل صورتين :
إحداهما : ، كقولك : لا تضرب رجلا ولا امرأة ، ثم تبين لنا أن المراد بالمرأة غير القاذفة أو شاربة الخمر ، ووزانه هنا أن يقال : لا يقتل مسلم بكافر ، ثم يخصص الكافر في المعطوف عليه بدليل . عام معطوف على عام ، قام الدليل على أنه مخصوص
والثانية : : كقولنا لا تضرب رجلا ولا امرأة كهلة ؟ فهل يخص الرجل بالكهل أيضا ؟ ووزانه هنا أن يقال : لا يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد بحربي . قالوا : ومثالهم إنما هو من القسم الأول ولم يتعرضوا للثانية ، عطف خاص بلفظه على عام بلفظه ، فهل يقتضي ذلك تخصيص الأول والإمام ترجم للثانية ومثاله إنما يطابق الأولى ، وحينئذ فكان من حقه أن يقول : إن تخصيص المعطوف ، يقتضي تخصيص علته ، ونازعه الأصفهاني شارح " المحصول " وقال : بل كلامهم يشمل الصورتين ، فإنهم أطلقوا الخاص ومرادهم سواء كان خاصا لفظا أو دل الدليل على أنه مخصوص ، وتبعه الشيخ شمس الدين الأصفهاني من المتأخرين في مصنف مفرد في هذه المسألة قال : والحق أن ترجمة الإمام تعم المسألتين ، فإن الخاص أعم من أن يكون خصوصه بدليل منفصل أو غيره . [ ص: 311 ] لكن الحق أن المسألة وإن كانت عامة ، تقع على ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون الخاص مذكورا في المعطوف من غير تقدير .
الثاني : أن يكون مقدرا لكن لا يكون تقديره مستفادا من المعطوف عليه .
والثالث : أن يكون تقديرا من حيث العموم مستفادا من المعطوف عليه ، ومن حيث الخصوص مستفادا من تخصيص بمنفصل ، والحديث من الوجه الثالث والبيان في الجميع لا يتفاوت . انتهى . والحق أن يقال : المقصود بالمسألة إنما هو أن إحدى الجملتين إذا عطفت على الأخرى ، وكانت الثانية تقتضي إضمارا كقوله : { } على ما تدعيه الحنفية ، فإنها لا تستقيم عندهم بدون إضمار ، وإلا يلزم قتل المعاهد مطلقا ، فهل يضمر ما تقدم ذكره ؟ ثم إن كان عاما اقتضى العطف عليه تقدير العام ، فكان العطف على العام يقتضي العموم لذلك ، أو يضمر مقدار ما يستقل به الكلام فقط ، لأن ما وراءه تقدير لا حاجة إليه ، قالت الحنفية : بالأول ، وأصحابنا بالثاني . ولا ذو عهد في عهده
وقد أجاد ابن السمعاني في " القواطع " حيث افتتح المسألة بقوله : المعطوف لا يجب أن يضمر فيه جميع ما يمكن إضماره مما في المعطوف عليه ; بل بقدر ما يفيد ويستقل به ، وعند الحنفية جميع ما سبق مما يمكن إضماره . انتهى . وكذا ابن الصباغ في " العدة " حيث قال : وإذا وجب ذلك ، وكان المضمر في المعطوف عليه مخصوصا ، فهل يجب أن يكون المضمر في المعطوف عليه مخصوصا أم لا ؟ والحاصل أن الخلاف في أنه هل يجب تقدير ما ذكر في الأولى ، أو ما يستقل به الكلام فقط ؟ فنحن لا نقدر إلا ما يستقل به الكلام فقط ، [ ص: 312 ] والحنفية يجعلون المضمر في الثانية هو المضمر في الأولى . وقالوا : حرف العطف يجعل المعطوف والمعطوف عليه كالشيء الواحد ، وذلك يقتضي التسوية بينهما في أصل الحكم وتفاصيله ، وساعدهم جماعة من أصحابنا ، حتى قال هل يجب أن يضمر في المعطوف جميع ما يمكن إضماره مما في المعطوف عليه ؟ ابن السمعاني : كلامهم ظاهر جدا . وقال : إنه الصحيح . ابن الحاجب
وفصل بعض الحنابلة بين أن يقيد المعطوف بقيد غير قيد المعطوف عليه ، فلا يضمر فيه ، وأن يطلق فيضمر فيه ، ونقل بعض المتأخرين من أصحابهم أنهم إنما يقولون بتخصيص العام المعطوف عليه بخصوص الخاص المعطوف فيما هو مخصوص المادة كالحديث ، ونحوه وهو أن يكون المذكور في الموضعين . أما إذا لم يتعين ، كما لو قال : ضربت زيدا وعمرا قائما في الدار ، فإن المعطوف هنا خاص ، وهو أن ضربت في حال قيامه وحال كونه في الدار ، والمعطوف عليه عام ، فلا يقولون بتخصيص المعطوف عليه .