التفسير :
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام : "لم لا تزورنا أكثر مما تزورنا ؟ " فأنزل الله عز وجل : وما نتنـزل إلا بأمر ربك ، وعنه أيضا ، وعن مجاهد : أن ذلك نزل حين احتبس جبريل عليه السلام بعد سؤال الكفار النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف ، وما سألوا عنه ، وقال : "غدا أخبركم " ، فأبطأ عنه الوحي .
[ ص: 272 ] وقوله : له ما بين أيدينا وما خلفنا : قال ابن عباس ، وابن جريج : ما مضى أمامنا من أمر الدنيا ، وما يكون بعدنا من أمرها وأمر الآخرة ، وما بين ذلك البرزخ .
الأخفش : ما بين أيدينا : ما كان قبل أن نخلق ، وما خلفنا : ما يكون بعد أن نموت ، وما بين ذلك : ما يكون منذ خلقنا إلى أن نموت .
وما كان ربك نسيا : قيل : المعنى : لم ينسك وإن تأخر عنك الوحي ، وقيل : المعنى : أنه عالم بجميع الأشياء متقدمها ومتأخرها ، لا ينسى منها شيئا .
وقوله : هل تعلم له سميا أي : مثلا وشبها ، عن ابن عباس وغيره ، وعن ابن عباس أيضا : المعنى : هل تعلم أحدا سمي الرحمن إلا الله عز وجل ؟ وقيل : المعنى : هل تعلم أحدا يقال له : (الله ) إلا هو ؟ وقيل : المعنى : أن اسمه المذكور في هذه الآية لا يسمى به غيره ، وهو قوله : رب السماوات والأرض .
[ ص: 273 ] وقوله : ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا : روي : أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه .
و (اللام ) في لسوف أخرج حيا : للتأكيد ؛ كأنه قيل له : إذا ما مت لسوف تبعث حيا ، فقال : أإذا ما مت لسوف أخرج حيا ؟ ! أي : قال ذلك منكرا ، فجاءت (اللام ) في الجواب كما كانت في القول الأول ، ولو كان مبتدئا ؛ لم تدخل (اللام ) ؛ لأنها للتأكيد والإيجاب ، وهو منكر للبعث .
وقوله : فوربك لنحشرنهم والشياطين أي : لنحشرنهم من قبورهم بأوليائهم الشياطين .
وقوله : ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا أي : جثيا على ركبهم ، عن مجاهد ، وقتادة ؛ أي : أنهم لشدة ما هم فيه لا يقدرون عن القيام .
{ثم لننـزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا : قال مجاهد ، وغيره : المعنى : نبدأ بالأكبر جرما ، فالأكبر .
مجاهد : من كل شيعة : من كل أمة ، وقد تقدم اشتقاقها .
ومعنى قوله : {عتيا} : تمردا ، وأصله : (عتوا ) .
وقوله : ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا أي : نحن أعلم بالذين هم أحق بالعذاب ، و (الصلي ) : (فعول ) ؛ من قولهم : (صليت تصلى ) .
[ ص: 274 ] وقوله : وإن منكم إلا واردها : قال ابن عباس : ورودها : دخولها ، واستدل بقوله : ونذر الظالمين فيها جثيا ، وقيل : يردها المؤمنون وهي خامدة .
وقيل : إن الضمير المنصوب في {واردها} للقيامة ، ودل عليها : {لنحشرنهم} ، يقوي ذلك قوله في من سبقت له الحسنى : أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها [الأنبياء : 101- 102 ] .
وقيل : ورودها : البلوغ إليها ، والممر عليها ، قاله قتادة وغيره ، ومنه قوله : ولما ورد ماء مدين [القصص : 23 ] ، وهو لم يدخل الماء ، وذلك مستعمل في اللغة .
وعن قتادة قال : يرد الناس جهنم وهي سوداء مظلمة ، فأما المؤمنون ؛ فأضاءت لهم حسناتهم ، فنجوا منها ، وأما الكفار ؛ فأوبقتهم سيئاتهم ، فاحتبسوا بذنوبهم .
وقيل : (الورود ) : الجواز على الصراط .
مجاهد : الحمى حظ كل مؤمن من النار ، وروي نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، روى أبو هريرة : أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل مريض عاده : "إن الله عز وجل يقول : هي ناري ، أسلطها على عبدي المؤمن ؛ لتكون حظه من النار في الآخرة " .
وقيل : إن الخطاب للمشركين خاصة ، فهو من العموم الذي يراد به الخصوص ؛ [ ص: 275 ] والمعنى : وإن منكم أيها الكفار الذين قال قائلهم : أإذا ما مت لسوف أخرج حيا إلا واردها .
ومعنى ثم ننجي الذين اتقوا : ننجيهم من ورودها ، فلا يردونها .
وقوله : أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا : (الندي ) : المجلس ، عن ابن عباس ، وعنه أيضا : المنظر ، وهو المجلس في اللغة ، وكذلك (النادي ) ، وقد تقدم القول فيه .
وقوله : هم أحسن أثاثا ورئيا : قال ابن عباس : (الأثاث ) : المتاع ، و (الرئي ) : المنظر ، وواحد (الأثاث ) : (أثاثة ) ؛ كـ (حمام وحمامة ) ، قاله الأحمر .
الفراء : لا واحد له ، ويجمع (آثة ) ، و (أثث ) .
ومن قرأ : {وريا} غير مهموز ؛ جاز أن يكون أصله الهمز ، فخففت الهمزة ، وجاز أن يكون من (ري الشارب ) ، وهو مذكور في الهمز في الأصول .
ومن قرأ : {وزيا} ؛ بالزاي ؛ فهو الهيئة والحسن ، ويجوز أن يكون من (زويت ) ؛ أي : جمعت ، فيكون أصلها : (زويا ) ، فقلبت الواو ياء ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "زويت لي الأرض " ؛ أي : جمعت .
[ ص: 276 ] وقوله : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا : لفظه لفظ الأمر ، ومعناه : التهدد والوعيد ، والمعنى : فليعش ما شاء ، وليوسع لنفسه في العمر ، فمصيره إلى الموت والعذاب .
وقوله : حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة أي : إما أن ينصر عليهم المسلمون فيعذبوهم بالسيف ، وإما أن تقوم الساعة ؛ فيصيروا إلى النار .
وقوله : فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا أي : سيعلمون إذا صاروا في النار من هو شر مكانا ، وسيعلمون إذا نصر الله المسلمين من هو أضعف جندا .
وقوله : ويزيد الله الذين اهتدوا هدى : قيل : يفعل ذلك بهم مجازاة لهم ، وقيل : يزيدهم هدى بتصديقهم بالناسخ والمنسوخ الذي كفر به غيرهم .
وقوله : أفرأيت الذي كفر بآياتنا الآية :
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما : نزلت في العاصي بن وائل السهمي ، قيل : إن خباب بن الأرت طالبه بحق كان له عليه ، فقال : لا أعطيك حتى تكفر بمحمد ، فقال : لا أكفر بمحمد حتى تموت وتبعث ، فقال : وإني لمبعوث ؟ فقال خباب : نعم ، قال : فإنه سيكون لي ثم مال وولد ، فأقضيك ؛ فنزلت الآية .
[ ص: 277 ] الحسن : نزلت في الوليد بن المغيرة .
وقوله : أم اتخذ عند الرحمن عهدا : قال قتادة ، والثوري : أي : عملا صالحا ، وقيل : التوحيد ، وقيل : الوعد .
وقوله : ونرثه ما يقول : قال ابن عباس وغيره : المعنى : نرثه المال والولد بعد إهلاكنا إياه .
وقيل : المعنى : نبقي عليه الإثم ، فكأنه موروث .
وقيل : المعنى : نحفظ عليه ما يقول حتى نوفيه عقوبته عليه .
وقوله : ليكونوا لهم عزا أي : أعوانا .
وقوله : كلا سيكفرون بعبادتهم : {كلا} : ردع ، وزجر ، وتنبيه ، ورد لكلام متقدم ، وقد تقع لتحقيق ما بعدها والتنبيه عليه ؛ كقوله : كلا إن الإنسان ليطغى [العلق : 6 ] ، فلا يوقف عليها على هذا ، ويوقف عليها في المعنى الأول ، فإن صلح فيها المعنيان جميعا ؛ جاز الوقف عليها والابتداء بها .
ويكونون عليهم ضدا أي : أعوانا في خصومتهم وتكذيبهم ، عن مجاهد .
الضحاك : يكونون لهم أعداء .
ابن زيد : يكونون عليهم بلاء .
[ ص: 278 ] وقوله : ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين أي : قيضنا لهم الشياطين ، ولم نعصمهم منهم ؛ مجازاة لهم على كفرهم .
ومعنى تؤزهم أزا : تزعجهم إلى المعاصي ، عن قتادة ، وغيره .
وقوله : فلا تعجل عليهم أي : لا تعجل بطلب العذاب لهم .
إنما نعد لهم عدا قال ابن عباس : أي : نعد أنفاسهم في الدنيا ، كما نعد سنيهم .
وقوله : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا : (الوفد ) : الركبان ، ووحد ؛ لأنه مصدر .
علي ، وابن عباس : يحشرون على أقدامهم ، ثم يؤتون بنوق عليها أرحلة الذهب ، وأزمتها الزبرجد ، ثم ينطلق بهم إلى الجنة .
ابن جريج : {وفدا} : على النجائب .
وقيل : يفدون على ما يحبون من إبل ، أو خيل ، أو سفن .
وقيل : إنما قال : {وفدا} ؛ لأن من شأن الوفود عند العرب أن يقدموا بالبشارات ، وينتظروا الجوائز ؛ فالمتقون ينتظرون العطاء والثواب .
وقوله : ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا : (السوق ) : الحث على السير .
قال ابن عباس ، وأبو هريرة ، وغيرهما : {وردا} : عطاشا ، وقيل : يعني به : ورودهم على النار ؛ فقيل لهم : (ورد ) ؛ كما يقال للواردين : (الماء ) .
[ ص: 279 ] وقوله : لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا : قيل : المعنى : لا يملك الشفاعة يومئذ إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ، فـ {من} : بدل من الضمير في {يملكون} ، وقيل : هي استثناء منقطع ؛ بمعنى : لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا ؛ فإنه يشفع فيه .
و (العهد ) : قال ابن عباس : هو شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن يتبرأ من الحول والقوة إلى الله ، ولا يرجو إلا الله .
ابن جريج : هو العمل الصالح .
الليث : هو حفظ كتاب الله عز وجل .
مقاتل : هو الصلاة .
وقوله : لقد جئتم شيئا إدا أي : منكرا عظيما ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما .
تكاد السماوات يتفطرن منه أي : يتشققن .
وتخر الجبال هدا أي : تسقط بصوت شديد .
أن دعوا للرحمن ولدا أي : لأن دعوا .
وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ؛ لأن الولد يشبه الوالد ، والله تعالى ليس بذي جنس ، وليس كمثله شيء .
وقوله : سيجعل لهم الرحمن ودا : قال مجاهد : يحبهم ويحببهم إلى خلقه ، وروي معناه عن ابن عباس .
[ ص: 280 ] وروي : أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف حين هاجر ، واستوحش من فراق أصحابه .
وقوله : فإنما يسرناه بلسانك أي : أنزلناه بلغتك ، وسهلناه .
وقوله : وتنذر به قوما لدا : قال قتادة : ذوي جدل .
أبو صالح : عوجا عن الحق .
مجاهد : (الألد ) : الظالم الذي لا يستقيم .
الحسن : (اللد ) : الصم .
أبو عبيدة : (الألد ) : الذي لا يقبل الحق ، ويدعي الباطل .
وقوله : هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا} : ابن عباس وغيره : (الركز ) : الصوت : وهو في اللغة : الصوت الخفي .


