التشفع بالمخلوق
وأما التشفع بالمخلوق، فلا خلاف بين المسلمين أنه يجوز طلب الشفاعة من المخلوقين فيما يقدرون عليه من أمور الدنيا.
وثبت بالسنة المتواترة واتفاق جميع الأمة: أن نبينا صلى الله عليه وسلم- هو الشافع المشفع، وأنه يشفع للخلائق يوم القيامة، وأن الناس يستشفعون به، ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربه.
ولم يقع الخلاف إلا في كونها لمحو ذنوب المذنبين، أو لزيادة ثوابالمطيعين، ولم يقل أحد من المسلمين بنفيها قط.
وفي «سنن أبي داود»: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم-: إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله، فقال: «شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه».
فأقره على قوله: نستشفع بك على الله، وأنكر عليه قوله: نستشفع بالله عليك.
[ ص: 170 ] معنى الاستغاثة والاستعانة والتشفع والتوسل
قال: الكلام على هذه الأطراف يتوقف على إيضاح ألفاظ هي منشأ الاختلاف، والالتباس.
فمنها: الاستغاثة -بالغين المعجمة والثاء المثلثة - ومنها: التوسل، ومنها: الاستعانة بالعين المهملة والنون - ومنها: التشفع.
فأما الاستغاثة، فهي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة ؛ كالاستنصار، وهوطلب النصر.
ولا خلاف أنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على الغوث فيه من الأمور، ولا يحتاج مثل ذلك إلى استدلال، فهو في غاية الوضوح، وما أظنه يوجد فيه خلاف.
ومنه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه . [القصص: 10]، وكما قال: وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر [الأنفال: 72]، وكما قال: وتعاونوا على البر والتقوى [المائدة: 22].
وأما ما لا يقدر عليه إلا الله، فلا يستغاث فيه إلا به؛ كغفران الذنوب، والهداية، وإنزال المطر، والرزق، ونحو ذلك كما قال تعالى: ومن يغفر الذنوب إلا الله [آل عمران: 135].
وقال: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [القصص: 56].
وقال: يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض [فاطر: 3].
وعلى هذا يحمل ما أخرجه في «معجمه الكبير»: الطبراني - رضي الله عنه -: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم- من هذا المنافق. أبو بكر
فقال صلى الله عليه وسلم-: «إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله». أنه كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- منافق يؤذي المؤمنين، فقال
[ ص: 171 ] فمراده صلى الله عليه وسلم-: أنه لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأما ما يقدر عليه المخلوق؛ ليعينه على حمل حجر، أو يحول بينه وبين عدوه الكافر، أو يدفع عنه سبعا صائلا، أو لصا، أو نحو ذلك، فهو جائز .
وقد ذكر أهل العلم: أنه يجب على كل مكلف أن يعلم أن وأن كل غوث من عنده. لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله سبحانه،
وإذا حصل شيء من ذلك على يد غيره، فالحقيقة له سبحانه، ولغيره مجاز.
والغياث. ومن أسمائه: المغيث،
قال الحليمي: الغياث: من الغيث، وأكثر ما يقال: غياث المستغيثين، ومعناه: المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه، ومجيبهم، ومخلصهم.
وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين. يقال: أغاثه غياثا، وهو في معنى المجيب والمستجيب، قال تعالى «اللهم أغثنا، اللهم أغثنا». إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم [الأنفال: 9].
إلا أن «الإغاثية» أحق بالأفعال، و «الاستجابة» بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- في بعض فتاواه ما لفظه: والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم- ما هو اللائق بمنصبه، لا ينازع فيه مسلم، ومن نازع في هذا المعنى، فهو إما كافر، وإما مخطئ ضال.
وأما بالمعنى الذي نفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فهو أيضا مما يجب نفيها.
ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله، فهو أيضا كافر، إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها.
ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي: وقول الشيخ أبي عبد الله القرشي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون. استغاثة المخلوق بالمخلوق،كاستغاثة الغريق بالغريق،
[ ص: 172 ]