الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال الله تعالى: يا صاحبي السجن [يوسف: 41] جعلهما مصاحبين للسجن؛ لطول مقامهما فيه. وقيل: المراد: يا صاحبي في السجن؛ لأن السجن ليس بمصحوب فيه، وإن ذلك من باب: يا سارق الليلة. [ ص: 61 ] وعلى الأول يكون من باب الإضافة إلى الشبيه بالمفعول به، والمعنى: يا ساكني السجن؛ كقوله: أصحاب الجنة، وأصحاب النار.

قال قتادة: لما عرف يوسف أن أحدهما مقتول، دعاهما إلى حظهما من ربهما، وإلى نصيبهما من آخرتهما، فقال: متفرقون خير الاستفهام للإنكار، مع التوبيخ، والتقريع، ومعنى التفرق هاهنا: هو التفرق في الذوات والصفات والعدد؛ أي: هل الأرباب المتفرقون في ذواتهم، المختلفون في صفاتهم، أو المتنافون في عددهم خير لكما يا صاحبي السجن أم الله الواحد القهار والذي لا يغالبه مغالب، ولا يعانده معاند؟

وقيل: استفهام تقرير؛ أي: طلب الإقرار بجواب الاستفهام؛ أي: أقروا واعلموا أن الله هو الخير، والأول أولى، أورد يوسف عليهما هذه الحجة القاهرة على طريق الاستفهام؛ لأنهما كانا ممن يعبد الأصنام. وقد قيل: إنه كان بين أيديهما أصنام يعبدونها عند أن خاطبهما بهذا الخطاب، ولهذا قال لهما: ما تعبدون من دونه إلا أسماء فارغة لا مسميات لها، وإن كنتم تزعمون أن لها مسميات، وهي الآلهة التي تعبدونها. لكنها لما كانت لا تستحق التسمية بذلك، صارت الأسماء كأنها لا مسميات.

وقيل: المعنى: ما تعبدون من دون الله إلا مسميات أسماء. وقيل: خطاب لأهل السجن جميعا، لا لخصوص الصاحبين. وهذا هو الأظهر، وكذلك ما بعده من الضمائر؛ لأنه قصد خطاب صاحبي السجن، ومن كان على دينهم.

سميتموها أنتم وآباؤكم من تلقائكم، بمحض جهلكم، وضلالتكم، وليس لها من الإلهية شيء إلا مجرد الأسماء؛ لكونها جمادات لا تسمع، ولا تبصر، ولا تنفع، ولا تضر. [ ص: 62 ] والتقدير، سميتموها آلهة من عند أنفسكم ما أنزل الله بها أي: بتلك التسمية المستتبعة للعبادة من سلطان من حجة تدل على صحتها إن أي: ما الحكم في أمر العبادة المتفرعة على تلك التسمية إلا لله عز سلطانه؛ لأنه المستحق لها بالذات، إذ هو الذي خلقكم، وخلق هذه الأصنام التي جعلتموها معبودة بدون حجة ولا برهان. أمر ألا تعبدوا إلا إياه حسبما تقضي به قضية العقل أيضا، والجملة مستأنفة، أو حالية، والأول هو الظاهر. والمعنى: أنه أمركم بتخصيصه بالعبادة دون غيره مما تزعمون أنه معبود، ثم بين لهم أن عبادته وحده دون غيره هي دين الله الذي لا دين غيره. فقال: ذلك أي: تخصيصه تعالى بالعبادة الدين القيم أي: المستقيم الثابت العدل الذي تعاضدت عليه البراهين عقلا ونقلا.

ولكن أكثر الناس لا يعلمون [يوسف:40] أن ذلك دينه القويم، وصراطه المستقيم؛ لجهلهم وبعدهم عن الحقائق، أو لا يعلمون ما يصيرون إليه من العذاب، فيشركون. وهذا يدل على أن العقوبة تلزم العبد، وإن جهل، إذا أمكن له العلم بطريقه.

قال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية: فيها وجوه:

الأول: أن كون مالكين متعددين لمملوك واحد يضر كثيرا، إنما يكفيه أن يكون له مالك واحد قوي قادر، يقضي حاجاته كلها، ويصلح جميع أموره.

الثاني: أنه لا حقيقة لهؤلاء المالكين، وأنهم ليسوا في الحقيقة بشيء. إنما تخيلهم المشركون في خيالهم، فظنوا أن الإمطار في يد أحدهم، وإنبات الحب في يد آخر، وإعطاء الأولاد في اختيار آخر، وشفاء المريض في يد آخر. ثم يسمونهم بأسماء من عندهم، ويقولون: إن اسم مالك الشيء الفلاني [ ص: 63 ] كذا، والفلاني كذا، ويعتقدونهم، ويدعونهم عند إرادة إنجاح تلك المرادات وقضاء تلك الحوائج، فتجري هذه الرسوم بعد مدة عموما في الناس كلهم مع أنها خيالات محضة لهؤلاء المشركين، لا حقيقة لها في نفس الأمر. ولا معبود هناك غير الله، ولا مالك ولا اسم لأحد، ولا دخل له في شيء من أفعال الباري تعالى، إنما ذلك خيال بحت، ليس هناك مالك ومختار، مسمى بهذا الاسم المنحوت المتخيل. بل الذي هذه الأفعال في يده اسمه الشريف الجليل «الله» لا محمد، ولا علي، وأما من اسمه محمد أو علي، فليس مختارا لشيء. فمحمد أو علي الذي تكون أمور العالم بيده، لا وجود له حقيقة، ولا شخص مسمى بهذا الاسم في نفس الأمر يكون له هذه القدرة، بل هذا خيال صرف. ولم يأذن الله بهذه الخيالات لأحد من عباده، ولا اعتبار بحكم أحد. وقد منع الله سبحانه من مثل هذه التخيلات، ومن ذاك الذي يعتبر قوله في هذا الباب! وأصل الدين: أن يمتثل أمر الله، ولا يمتثل أمر أحد في مقابلة حكمه، ولكن أكثر الناس لا يسلكون هذا المسلك، إنما يسلكون رسوم كبرائهم، ويقدمونها على حكم الله سبحانه.

والآية قد دلت على أن قبول رسم أحد، والاستناد بحكمه مما خصه الله تعالى لتعظيمه، وجعله شعار حرماته، فمن عامل مع مخلوق هذه المعاملة، فالشرك يثبت عليه، وطريق وصول حكم الرب إلى العباد هو بعثة الرسول إليهم، وإخباره إياهم. [ ص: 64 ] فمن فعل هذا بإمام، أو مجتهد، أو فقيه، أو بمن يسمى: بـ"غوث"، أو قطب، أو أبدال، أو أوتاد، أو مولوي، أو شيخ، أو فقير، أو كامل، أو حاج، أو زائر، أو أب، أو جد، أو سلطان، أو وزير، أو أستاذ، أو قسيس، أو برهمن، أو كاهن، أو نجومي، أو ساحر، وقدم رسوم هؤلاء ومراسمهم وبدعهم ومحدثاتهم على إرشادات الرسول صلى الله عليه وسلم وملفوظاته المدونة في دواوين السنة المطهرة، أو على آية من الكتاب العزيز، واستند في مقابلتها بمرشد له، أو شيخ، أو أستاذ، أو حكيم فلسفي، أو متكلم نظار، أو قياس فاسد، أو رأي كاسد، أو تقليد لمجتهد، وظن أن الشرع نفسه هو حكم الرسول النبي فقط، وليس من جهة الله تعالى، بل هو يشرع من تلقاء نفسه ما يريد، ويقول ما يشاء، فيلزم ذلك على أمته، فهذه الأمور، والاعتقاد بها، مثبتة للشرك على قائلها وصاحبها. بل الحاكم على الحقيقة، والشارع في نفس الأمر هو الله تعالى وحده لا شريك له. كما قال تعالى: إن الحكم إلا لله .

وما شأن الرسول - أي رسول كان، وفي أي عصر كان، إلى خاتم الرسل - إلا إبلاغ حكم الله سبحانه إلى عباده فقط، ودعوتهم إليه باللسان والسنان، واستعمال الأركان. فمن كان قوله من هؤلاء المشار إليهم موافقا لخبر الرسول، ووحيه -سبحانه وتعالى- فهو الحقيق بالقبول. ومن خالف قوله قول الله تعالى، وحديث رسوله رأس شعرة، فهو مردود عليه، مضروب به في وجهه، وإن علا في الرتبة والمكانة إلى غاية، فإن الحق أكبر من كل كبير. انتهى.

فهذه الآية الكريمة الشريفة تأمل فيها، تجدها نصا في نفي الأرباب المتفرقة، وفي أن هذه الأسماء لا مسميات لها في الواقع، وأن الله لم ينزل بها سلطانا، ولم تقم عليها حجة ولا برهان. [ ص: 65 ] وليس لأحد في العالم الفاني والباقي حكم إلا لله وحده لا شريك له في خلقه وأمره، ولا معبود إلا هو وحده، وذلك هو الدين القيم، والصراط السوي، والشرع القويم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فيشركون بالله تعالى في الحكم، والأمر، والتصرف في الخلق، وذلك هو الشرك الجلي الواضح الذي لا يغفره سبحانه أبدا، ويغفر ما دونه لمن يشاء من عباده.

فيا أيها المسكين! تأمل في حالك وقالك، وق نفسك من عذاب الله الأليم، ومن عقابه الشديد. وأنت ما دمت حيا يمكنك الخلاص من هذه الورطة المهلكة. وإذا مت، وذهبت من الدنيا، وكنت مشركا، وكان في اعتقادك شيء من هذه الأمور، ولم تعرف الله، ولم تدرك ما جاء به رسوله -صلى الله عليه وسلم- من النهي عن الشرك وأنواعه فقد خسرت خسرانا مبينا، ولا علاج لك بعد ذلك. واعلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن كل ذنب يرجى عفوه إلا الشرك؛ فإن دخول المشرك في النار خالدا مخلدا مقطوع به، بنص القرآن، ودليل السنة، ولا ينفعك منه الجد. والآيات القرآنية في ذلك كثيرة طيبة جدا لا يحصرها العدد. ومن لم يستشف بالقليل، لم ينفعه الكثير.

هذا القرآن الشريف معجزة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- باهرة باقية دائمة إلى نفخ الصور، وقيام الساعة، فيه شفاء ورحمة للمؤمنين. فعليك به حتى تخرج من سبل الشرك إلى صراط العزيز الحميد.

وهذه دواوين السنة المطهرة على وجه البسيطة منتشرة في أيدي المسلمين، باقية -إن شاء الله تعالى- إلى آخر الدهر، فيها كل هداية، والنهي عن كل ضلالة؛ فمن تمسك بها، فقد رشد واهتدى.

التالي السابق


الخدمات العلمية