الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إجماع أهل [العلم] على بطلان إطلاق لفظ «عالم» على المقلد

ولا يدري هذا المسكين أن المقلد لا يكون عالما عابدا، فضلا عن أن يكون مجددا أو مجتهدا.

هذا إمام المغرب ابن عبد البر نص على أن إطلاق لفظ «العالم» على مقلد مذهب من المذاهب ليس بصحيح؛ لأن التقليد جهل وسفه، والمقلد جاهل سفيه، ونقل على ذلك إجماع أهل العلم.

ولعل المراد بالأئمة المضلين في الحديث: هؤلاء المقلدون الذين يظنون أنهم مجددون مجتهدون، وهم عن مدارك الشرع ومعالم السنة والكتاب بمراحل شاسعة، ويزعمون أنهم بالفنون جميعها عالمون.

غاية مرادهم: أن يشار إليهم بالبنان، ونهاية رجائهم: أن يعدوا عند الأحمقين في الأعيان، هذا هو الرياء الجلي، والسمعة الواضحة.

والرياء شرك، ويدل عليه حديث أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «بحسب امرئ من الشر أن يشار إليه بالأصابع، في دين أو دنيا، إلا من عصمه الله» رواه البيهقي في «شعب الإيمان».

قال في «اللمعات»: أما في الدنيا فظاهر، وأما في الدين فلأنه مظنة حب الرياسة واعتقاد الناس وتعظيمهم.

[ ص: 362 ] والشهوات الخفية النفسانية، ومكائد النفس وغوائلها، ومكر الشيطان، مما قل أن ينجو منها إلا الصديقون، فالخمول والذهول هو الأولى والأسلم. انتهى.

وأما من لم يرد الجاه، ولم يحب الشهرة، لكن طال ثناء الناس عليه، وكان صالحا، فهذا نعمة من الله عليه.

وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: قال تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» أخرجه مسلم.

يعني: من قصد بعمله غيره من المخلوقين، كائنا من كان، تركته وشركه. ولابن ماجه: «فأنا منه بريء، الذي أشرك».

وعن أبي سعيد بن أبي فضالة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» رواه أحمد.

وفي حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن معاذ بن جبل يرفعه: «إن يسير الرياء شرك» إلى قوله: «إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إذا غابوا لم يفقدوا، وإن حضروا لم يدعوا ولم يقربوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة» رواه ابن ماجه، والبيهقي في «شعب الإيمان».

وعن شداد بن أوس، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك» رواه أحمد.

وعنه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أتخوف على أمتي الشر والشهوة الخفية» قال: قلت: يا رسول الله! أتشرك أمتك من بعدك ؟ قال: «نعم، أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا، ولا حجرا ولا وثنا، ولكن يراؤون بأعمالهم».

[ ص: 363 ] والشهوة الخفية: أن يصبح أحدهم صائما، فتعرض له شهوة من شهواته، فيترك صومه. رواه أحمد والبيهقي في «شعب الإيمان».

قال ابن رجب -رحمه الله-: العمل لغير الله أقسام: فتارة يكون رياء محضا؛ كحال المنافقين كما قال تعالى: إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا [النساء: 142].

وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن بالله وباليوم الآخر، في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة، أو الحج، أو غيرهما من الأعمال الظاهرة، أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.

وتارة يكون العمل لله، ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله، فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه، وذكر أحاديث تدل على ذلك، منها: هذا الحديث، وحديث شداد بن أوس مرفوعا: «من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك» وإن الله -عز وجل- يقول: «أنا خير قسيم لمن أشرك بي شيئا، فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا غني» رواه أحمد، وذكر أحاديث في المعنى، ثم قال:

فإن خالط نية الجهاد مثلا نية غير الرياء، مثل أخذ الأجرة للخدمة، أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة، نقص بذلك أجر جهادهم، ولم يبطل بالكلية.

قال الإمام أحمد: التاجر والمستأجر والمكاري، أجرهم على قدر ما يخلص من نياتهم في غزواتهم، ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله في سبيل الله لا يخلط به غيره.

قال أيضا فيمن يأخذ جعلا على الجهاد: إذا لم يخرج لأجل الدراهم، فلا بأس، كأنه خرج لدينه، إن أعطي شيئا، أخذه.

روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: إذا أجمع أحدكم على [ ص: 364 ] الغزو، فعوضه الله رزقا، فلا بأس بذلك، وأما إن أعطي درهما غزا، وإن لم يعط لم يغز، فلا خير في ذلك.

وروي عن مجاهد: أنه قال في حج الجمال، وحج الأجير، وحج التاجر: هو تام لا ينقص من أجرهم شيء.

أي: لأن قصدهم الأصلي هو الحج، دون التكسب.

قال: وإن كان أصل العمل لله، ثم طرأ عليه نية الرياء، فإن كان خاطرا ودفعه فلا يضره، بغير خلاف، وإن استرسل معه، فهل يحبط عمله أم لا؟ ويجازى على أصل نيته في ذلك؟ اختلاف بين العلماء من السلف، حكاه أحمد، وابن جرير، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن وغيره.

وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه، فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن» رواه مسلم. انتهى حاصل كلام ابن رجب رحمه الله.

وفي حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- يرفعه: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟» قالوا: بلى، قال: «الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته؛ لما يرى من نظر رجل» رواه أحمد.

ورواه ابن ماجه بلفظ عن أبي سعيد الخدري، قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟» فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الشرك الخفي، أن يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته؛ لما يرى من نظر رجل».

قال في «اللمعات»: هذا على سبيل التمثيل، وليس الرياء منحصرا فيه.

وإنما كان هذا أخوف؛ لأن في الدجال علامات ظاهرة على كذبه عند أهل العلم، وأما الرياء، ففي أمره غاية الخفاء.

[ ص: 365 ] قال بعض المشايخ: إدراك الرياء أصعب من دبيب النمل في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء، أو كما قال. انتهى.

وروى ابن خزيمة في «صحيحه» عن محمود بن لبيد، قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أيها الناس! إياكم وشرك السرائر» قالوا: يا رسول الله! وما شرك السرائر؟ قال: «يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته جاهدا؛ لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر».

وفي رواية عنه عند أحمد: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر»، قالوا: يا رسول الله! وما الشرك الأصغر؟ قال: «الرياء».

وزاد البيهقي في «شعب الإيمان»: «يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا، هل تجدون عندهم جزاء أو خيرا؟» انتهى.

وإنما سماه: «خفيا»، و«سرائر»؛ لأن صاحبه يظهر أن عمله لله، وقد قصد به غيره، أو شركه فيه، وزين صلاته لأجله.

قال شداد بن أوس: كنا نعد الرياء على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الشرك الأصغر، رواه ابن أبي الدنيا في كتاب «الإخلاص»، وابن جرير في «التهذيب»، والطبراني، والحاكم وصححه.

قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: وأما الشرك الأصغر، فكيسير الرياء؛ والتصنع للخلق، والحلف لغير الله، وقول الرجل للرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا.

وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. انتهى.

ولا خلاف في أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله، وكذلك المتابعة كما قال فضيل بن عياض -رحمه الله- في قوله تعالى: ليبلوكم أيكم أحسن عملا [الملك: 2].

[ ص: 366 ] أي: أخلصه وأصوبه.

قيل: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا، ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا، لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، فالخالص: ما كان لله، والصواب: ما كان على السنة. انتهى.

وما أجمع هذا القول من هذا الفاضل العارف، وأنفعه، وأخصره، وأحقه بأن تعيه أذن واعية!

قال في «فتح المجيد»: وفي الحديث من الفوائد: شفقه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته، ونصحه لهم، وأن الرياء أخوف ما يخاف على الصلحاء من فتنة الدجال.

فإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخاف على سادات الأولياء مع قوة إيمانهم وتمام علمهم فغيرهم ممن هو دونهم بأضعاف أضعاف أولى بالخوف من هذا الشرك الأصغر والأكبر. انتهى.

فتأمل -يا هذا- في حالك، واعلم أن إلى الله مصيرك، فمن نصيرك؟ وفي القبر مقيلك، فما قيلك؟.

التالي السابق


الخدمات العلمية