الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الكذابون الثلاثون

وأما الكاذبون الثلاثون، فقال القرطبي: وقد جاء عددهم معينا في حديث حذيفة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يكون في أمتي كذابون دجالون، سبع وعشرون، منهم أربع نسوة» أخرجه أبو نعيم، وقال: هذا حديث غريب. انتهى.

وحديث ثوبان أصح من هذا.

قال عياض: عد من تنبأ من زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الآن، فمن اشتهر بذلك وعرف، واتبعه جماعة، فوجد هذا العدد فيهم، ومن طالع كتب الأخبار والتاريخ، عرف صحة هذا.

وقال الحافظ: قد ظهر مصداق ذلك في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- فخرج مسيلمة الكذاب باليمامة، والأسود العنسي باليمن، وفي خلافة أبي بكر طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة، وسجاح في بني تميم.

[ ص: 336 ] وقتل الأسود قبل أن يموت النبي -صلى الله عليه وسلم- وقتل مسيلمة في خلافة أبي بكر، وتاب طليحة ومات على الإسلام في زمن عمر -رضي الله عنه- ونقل أن سجاح تابت أيضا.

ثم خرج المختار بن أبي عبيد الثقفي، وغلب على الكوفة في خلافة ابن الزبير، وأظهر محبة أهل البيت، ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين، فتتبعهم، وقتل كثيرا ممن باشر ذلك وأعان عليه، فأحبه الناس، ثم ادعى النبوة، وزعم أن جبريل -عليه السلام- يأتيه.

ومنهم: الحارث الكذاب، خرج في خلافة عبد الملك بن مروان، فقتل، وخرج في خلافة بني العباس جماعة.

وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقا؛ فإنهم لا يحصون كثرة؛ لكون غالبهم ينشأ عن جنون أو سوداء، وإنما المراد: من قامت لهم شوكة، وبدا له شبهة كمن وصفنا.

وقد أهلك الله تعالى من وقع له منهم ذلك، وبقي منهم من يلحقه بأصحابه، وآخرهم الدجال الكبير. انتهى.

وأقول: ذكر صاحب «حجج الكرامة» أسماء هذه الثلاثين الكذابين غالبا، وعد منهم ذلك الرجل النابغ في هذا العصر، ونص عليه بأنه دجال كذاب وضاع، زاعم فيه أنه نبي، وهذا يرده قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: «وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي».

قال الحسن: أي الذي ختم به النبوة؛ أي: إنه آخر الأنبياء؛ كما قال تعالى: ولكن رسول الله وخاتم النبيين [الأحزاب: 40] وإنما ينزل عيسى ابن مريم -عليهما السلام- في آخر الزمان حاكما بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- مصليا إلى قبلته، فهو كأحد أمته، بل هو أفضل هذه الأمة.

قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده! لينزلن فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية».

[ ص: 337 ] وأيضا في حديث الباب بشارة عظمى ببقاء أهل الحق في هذه الأمة إلى قيام الساعة.

وفيه وعد بكون طائفة منها منصورة، لا يضرها من خذلها، ولا من خالفها.

قال يزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل: إن لم يكونوا هؤلاء أهل الحديث، فلا أدري من هم؟.

قال ابن المبارك، وعلي بن المديني، وأحمد، والبخاري، وغيرهم: إنهم أهل الحديث.

وعن ابن المديني أيضا في رواية: هم العرب، واستدل برواية من روى: «هم أهل الغرب» وفسر الغرب بالدلو العظيمة؛ لأن العرب هم الذين يستقون بها.

قال النووي: يجوز أن تكون هذه الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين ما بين شجاع وبصير بالحرب، ومحدث وفقيه، ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، وأن يكونوا في بعض دون بعض منه.

ويجوز إخلاء الأرض من بعضهم أولا فأولا، إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا، جاء أمر الله. انتهى حاصله، مع زيادة فيه، قاله الحافظ.

وقد ذكر بعض أهل العلم في كتابه «حجج الكرامة» جماعة من هذه الطائفة من زمن الصدر الأول إلى زمانه هذا، اسما باسم، وعينهم بحسب القرائن الحالية، والشهود الصادقة من المنافع والفضائل.

قال القرطبي: وفيه دليل على أن الإجماع حجة؛ لأن الأمة إذا اجتمعت، فقد دخل فيهم الطائفة المنصورة. انتهى.

قلت: نعم، إذا اجتمعت الأمة، ولكنه عسير جدا، ولا نعلم مسألة من [ ص: 337 ] المسائل الفروعية كانت الأمة اجتمعت عليها إلا هذه الأصول، أصول الإسلام إجمالا من الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والجهاد.

بل افترقت في هذه أيضا حتى صارت أحزابا متحزبة، وجنودا مجندة، منها المؤتلف والمختلف، والمتعارف والمتناكر، وحتى عادت اثنتين وسبعين فرقة.

فالمراد بهذه الطائفة: هم الذين هم على ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في حياته وحياتهم، وأتباعه بالإحسان بعد مماته ومماتهم من أي قوم كانوا وفي أي زي ظهروا، أو بأي قول قالوا، وهؤلاء قليل جدا كما تشير إلى هذا عبارة الحديث.

قال بعض أهل العلم: فيه الآية العظيمة: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم.

وفيه البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية.

واحتج بهذا الحديث الإمام أحمد على أن الاجتهاد لا ينقطع ما دامت هذه الطائفة موجودة.

قلت: ووجودها باق إلى أن يأتي الله بأمره؛ كما في الحديث: «حتى يأتي أمر الله».

قال بعض العلماء: الظاهر: أن المراد به ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة، ثم لا يبقى إلا أشرار الناس؛ كما روى الحاكم: أن عبد الله بن عمرو قال: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر أهل الجاهلية.

قال عقبة بن عامر لعبد الله: اعلم ما تقول، وأما أنا، فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك».

فقال عبد الله: ويبعث الله ريحا، ريحها ريح المسك، ومسها مس الحرير، [ ص: 339 ] فلا تترك أحدا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة.


وفي «صحيح مسلم»: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله».

وعلى هذا، فالمراد بقوله في حديث عقبة وما أشبهه «حتى تأتيهم الساعة»: ساعتهم، وهي وقت موتهم بهبوب الريح، ذكره الحاكم.

وقد اختلفوا في محل هذه الطائفة، فقال ابن بطال: إنها تكون في بيت المقدس، كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة: قيل: يا رسول الله! وأين هم ؟ قال: «بيت المقدس».

وقال معاذ بن جبل: هم بالشام.

وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام، أو في بيت المقدس دائما، بل قد تكون في موضع آخر، في بعض الأزمنة.

قال في «فتح المجيد»: ويشهد له الواقع، وحال أهل الشام، وأهل بيت المقدس من أزمنة طويلة، لا يعرف فيهم من قام بهذا الأمر بعد شيخ الإسلام ابن تيمية -رضي الله عنه- وأصحابه في القرن السابع، وأول الثامن.

فإنهم -في زمانهم- كانوا على الهدى المستقيم، وعلى الحق القويم، يدعون إليه، ويناظرون عليه، ويجاهدون فيه، ويحتملون المشاق والمصائب عليه، ويصبرون على ما يصيبهم في سبيل الله.

وقد يجيء من أمثالهم بعد بالشام من يقوم مقامهم بالدعوة إلى الحق، والتمسك بالسنة، والله على كل شيء قدير. انتهى.

التالي السابق


الخدمات العلمية