[ ص: 385 ] فصل
إذا تبين هذا،
فتكون محبته وكراهته موافقتين لمحبة الله وكراهته، وهذا من لوازم العبودية. فالعبد أحوج شيء إلى معرفة ما يضره؛ ليتجنبه، وما ينفعه؛ ليحرص عليه، فيحب النافع، ويبغض الضار.
وهاهنا طريقان: العقل، والشرع.
أما العقل: فقد وضع الله سبحانه في العقول استحسان الصدق، والعدل، والإحسان، والبر، والعفة، والشجاعة، ومكارم الأخلاق، وأداء الأمانات، وصلة الأرحام، ونصيحة الخلق، والوفاء بالعهد، وحفظ الجوار، ونصر المظلوم، والإعانة على نوائب الحق، واستقباح أضداد ذلك.
ونسبة هذا الاستقباح والاستحسان إلى العقول والفطر كنسبة استحسان شرب الماء البارد عند الظمأ، وأكل الطعام اللذيذ النافع عند الجوع، وليس ما يدفئه عند البرد.
فكما لا يمكنه أن يدفع عن نفسه وطبعه استحسان ذلك ونفعه، فكذلك لا يدفع عن نفسه وفطرته استحسان صفة الكمال ونفعها، واستقباح أضدادها.
ومن قال بأن ذلك لا يعلم بالعقل والفطرة، وإنما عرف بمجرد السمع، فقوله باطل، قد بينا بطلانه في كتاب «المفتاح» من ستين وجهة، وبينا هناك دلالة القرآن والسنة والعقول والفطر على فساد هذا القول.
الطريق الثاني لمعرفة الضار والنافع من الأعمال: السمع، وهو أوسع، وأبين وأصدق من الأول؛ لخفاء صفات الأحوال وأحوالها ونتائجها.
وإن العالم بذلك -على التفصيل- ليس هو إلا الرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأعلم الناس وأصحهم عقلا ورأيا واستحسانا: من كان عقله ورأيه، واستحسانه وقياسه، موافقا للسنة، كما قال مجاهد: قال تعالى: أفضل العبادة الرأي الحسن، وهو اتباع السنة، ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق [سبأ: 6].
[ ص: 386 ] وكان السلف يسمون أهل الآراء المخالفة للسنة، وما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مسائل العلم الخبرية، ومسائل الأحكام العملية: أهل الشبهات والأهواء؛ لأن الرأي المخالف للسنة جهل لا علم، وهوى لا دين.