فقد قص الله علينا قصته معهما، وأنه لم يزل يخدعهما ويمنيهما الخلود في الجنة حتى حلف لهما بالله جهد يمينه أنه ناصح لهما، فجرى عليهما من المحنة والخروج من الجنة ما جرى.
ورد الله كيده، وتدارك الأبوين برحمته ومغفرته، فأعادهما إلى الجنة، وعاد عاقبة مكره عليه ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [فاطر: 43].
وظن عدو الله أن الغلبة والظفر له في الحرب، ولم يعلم بكمين جيش: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [الأعراف: 23] ولا بإقبال دولة: ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [طه: 122].
ظن اللعين بجهله أن الله سبحانه يتخلى عن صفيه وحبيبه الذي خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، من أجل أكلة أكلها.
[ ص: 411 ] وما علم أن الطبيب قد علم المريض الدواء قبل المرض، فلما أحس المرض بادر إلى استعمال الدواء.
ثم كاد أحد ولدي آدم، ولم يزل يتلاعب به حتى قتل أخاه، وأسخط أباه، وعصى مولاه.
فسن للذرية قتل النفوس، وقد ثبت في «الصحيح» عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «ما من نفس تقتل ظلما، إلا كان على ابن آدم كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل».
ثم جرى الأمر على السداد والأمة واحدة، والدين واحد، قال تعالى: وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا [يونس: 190].
قال سعيد، عن كان بين قتادة: آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الهدى، وعلى شريعة من الحق، ثم اختلفوا، ومثله عن وهو الصحيح في الآية. ابن عباس،
وقد روي عن كانوا كفارا، وهذا قول ابن عباس: الحسن، وعطاء، وهو منقطع عن والصحيح عنه خلافه. ابن عباس،
وكان أول ما كاد به عباد الأصنام، من جهة العكوف على القبور، وتصاوير أهلها، ليتذكرهم بها كما قال تعالى: وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا [نوح: 23].
قال في «صحيحه» عن البخاري «هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، لما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم، أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسخ العلم، عبدت». ابن عباس:
وقال عن ابن جرير، محمد بن قيس، قال: «كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا، قال أصحابهم: لو صورناهم، كانوا أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا، وجاء آخرون، دب [ ص: 412 ] إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم».
وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبي: أخبرني أبي، قال: «أول ما عبدت الأصنام أن آدم لما مات جعلوه بنو شيث بن آدم في مغارة في الجبل الذي أهبط إليه آدم بأرض الهند، ويقال للجبل: «ود» وهو أخصب جبل في الأرض.
قال هشام: فأخبرني أبي عن صالح، عن قال: فكان بنو شيث يأتون جسد آدم في المغارة، فيعظمونه ويترحمون عليه. ابن عباس،
فقال رجل من بني قابيل: يا بني قابيل! إن لبني «شيث» دورا، يدورون حوله ويعظمونه، وليس لكم شيء، فنحت لهم صنما، وكان أول من عملها.
قال هشام: فأخبرني أبي قال: كان «ود»، و«سواع»، و«يغوث»، و«يعوق»، و«نسر» قوما صالحين، فماتوا في شهر، فجزع عليهم ذوو أقاربهم، فقال: رجل من بني قابيل: يا قوم! هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام على صورهم، غير أني لا أقدر أن أجعل فيها أرواحا؟ قالوا: نعم، فنحت لهم خمسة أصنام، ونصبها لهم.
وكان الرجل يأتي أخاه وعمه فيعظمه ويسعى حوله، حتى ذهب ذلك القرن، وكانت عملت على عهد يرد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم.
ثم جاء قرن آخر عظموهم أشد من تعظيم القرن الأول، ثم جاء من بعدهم القرن الثالث فقالوا: ما عظم أولونا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله، فعبدوهم، واشتد كفرهم، فبعث الله إليهم «إدريس» فدعاهم، فكذبوه، فرفعه مكانا عليا.
ولم يزل أمرهم يشتد، كما قال عن الكلبي، أبي صالح، عن حتى أدرك ابن عباس، نوح، فبعثه الله نبيا، وهو يومئذ ابن أربعمائة سنة وثمانين سنة، فدعاهم إلى الله في نبوته عشرين ومائة سنة، فعصوه وكذبوه، فأمره الله أن يصنع الفلك، [ ص: 413 ] ففرغ منها، وركبها، وهو ابن ستمائة سنة، وغرق من غرق، ومكث بعد ذلك ثلاثمائة سنة وخمسين سنة، فكان بين آدم ونوح ألفا سنة، ومئتا سنة.
فأهبط الماء هذه الأصنام من أرض إلى أرض حتى قذفها إلى أرض جدة، فلما نضب الماء، بقيت على الشط، فسفت الريح عليها حتى وارتها.
قلت: ظاهر القرآن يدل على خلاف هذا، وأن نوحا لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وأن الله أهلكهم بالغرق بعد أن لبث فيهم هذه المدة.
قال وكان الكلبي: عمرو بن لحي كاهنا، وله رئي من الجن، فقال له: عجل السير والظعن من تهامة، بالسعد والسلامة، ائت «جدة» تجد فيها أصناما معدة، فأوردها تهامة، ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب.
فأتى «جدة»، فاستثارها، فحملها حتى ورد تهامة، وحضر الحج، فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة، فأجابه عوف بن عذرة بن زيد اللات، فدفع إليه «ودا» فحمله، وكان بوادي القرى بـ «دومة الجندل»، وسمى ابنه «عبد ود»، فهو أول من سمي به، وجعل عوف ابنه «عامرا» سادنا، فلم يزل بنوه يسدنونه حتى جاء الله بالإسلام.
قال فحدثني الكلبي: مالك بن حارثة: أنه رأى «ودا»، قال: وكان أبي يبعثني باللبن، إليه فيقول: اسقه إلهك، فأشربه.
قال: ثم رأيت كسره، فجعله جذاذا. خالد بن الوليد
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث لهدمه. خالد بن الوليد
فحالت بينه وبين هدمه بنو عذرة، وبنو عامر، فقاتلهم، فقتلهم، وهدمه وكسره.
قال فقلت الكلبي: لـ«عامر بن حارثة»: صف لي «ودا» حتى كأني أنظر إليه، قال: كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد زبر (أي: نقش) عليه حلتان، متزر بحلة، مرتد بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسا، وبين يديه حربة، فيها لواء، وقصة فيها نبل (يعني: جعبة).
[ ص: 414 ] وأجابت عمرو بن لحي «مضر»، و«نزار»، فدفع إلى رجل من هذيل يقال له: الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر «سواعا» كان بأرض يقال لها «وهاط» من بطن نخلة، يعبده من يليه من مضر، وفي ذلك يقول رجل من العرب:
تراهم حول قبلتهم عكوفا كما عكفت هذيل على سواع
وأجابته «مذحج» فدفع إلى أنعم بن عمرو المرادي «يغوث» وكان بأكمة باليمن يعبده «مذحج» ومن والاها.
وأجابت همدان مالك بن مرثد بن خثيم «يعوق» وكان بقرية يقال لها: «خيوان» يعبده «همدان» ومن والاها من اليمن.
وأجابت «حمير» فدفع إلى رجل من ذي رعين يقال له: معد يكرب «نسرا» وكان بموضع من «سبأ» يقال له: «بلخع» فعبده «حمير» ومن والاها، فلم يزل يعبدونه حتى هودهم ذو نواس.
فلم تزل هذه الأصنام تعبد حتى بعث الله النبي -صلى الله عليه وسلم- فهدمها وكسرها.