وليست الغيرة عذرا في غيبة ونحوها  في ظاهر كلام  أحمد  ، والأصحاب لعموم الأدلة ، ويتوجه احتمال ، وهو معنى كلام  ابن عقيل  في الفنون فإنه قال : قل أن يصح رأي مع فورة طبع ، فوجب التوقف إلى حين الاعتدال ، وهو أيضا معنى ما اختاره الشيخ تقي الدين ،  فإنه اختار أن لا يقع طلاق من غضب حتى تغير ، ولم يزل عقله كالمكره ، وذلك لما في الصحيحين عن  عائشة  رضي الله عنها قالت : { استأذنت هالة بنت خويلد  أخت خديجة  على رسول الله  صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة  فارتاح لذلك فقال : اللهم هالة بنت خويلد  ، فقلت : وما تذكر من عجوز من عجائز قريش  حمراء الشدقين هلكت في الدهر فأبدلك الله خيرا منها    } ؟ الغيرة بفتح الغين مصدر غار الرجل يغار غيرة وغيرا وغارا . والغيرة بكسر الغين الميرة والنفع . . 
 [ ص: 248 ] وقولها : حمراء الشدقين أي : لم يبق بشدقها بياض شيء من الأسنان قد سقطت من الكبر . 
قال  الطبري  وغيره من العلماء : الغيرة مسامح للنساء فيها لا عقوبة عليهن فيها لما جبلن عليه من ذلك ، ولهذا لم يزجر عائشة  وقال القاضي عياض :  عندي أن ذلك جرى من عائشة  لصغر سنها ، وأول شبيبها ، ولعلها لم تكن بلغت حينئذ ، كذا قال وهذا لا يمنع الإنكار زجرا وتأديبا كسائر المحرمات . 
وفي الصحيحين أيضا عن  عائشة  رضي الله عنها قالت : قال لي رسول  [ ص: 249 ] الله  صلى الله عليه وسلم : { إني أعرف إذا كنت راضية عني وإذا كنت علي غضبى قالت : فقلت : ومن أين تعرف ذلك ؟ قال : أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين : لا ورب محمد  ، وإذا كنت غضبى قلت : لا ورب إبراهيم  قلت : أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك    } قال القاضي عياض    : مغاضبة عائشة  للنبي  صلى الله عليه وسلم هو مما سبق من الغيرة التي عفي عنها للنساء في كثير من الأحكام لعدم انفكاكهن منها حتى قال  مالك  وغيره من علماء المدينة :  يسقط عنها الحد إذا قذفت زوجها بالفاحشة على جهة الغيرة  قال واحتج بما روي عن النبي  صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما تدري الغيراء أعلى الوادي من أسفله    } قال القاضي عياض    : ولولا ذلك كان على  عائشة  رضي الله عنها في ذلك من الحرج ما فيه ، لأن الغضب على النبي  صلى الله عليه وسلم وهجره كبيرة . عظيمة ولهذا قالت لا أهجر إلا اسمك . فدل على أن قلبها وحبها كما كان ، وإنما الغيرة في النساء لفرط المحبة . انتهى كلامه . 
وفي الصحيحين أيضا عن  عائشة  رضي الله عنها قالت : { كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم إذا خرج أقرع بين نسائه ، فطارت القرعة على  عائشة  وحفصة  فخرجنا معه جميعا ، وكان رسول الله  صلى الله عليه وسلم إذا كان الليل سار مع  عائشة  يتحدث معها فقالت حفصة   لعائشة :  ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك فتنظرين ، وأنظر قلت : بلى فركبت حفصة  على بعير  عائشة  وركبت  عائشة  على بعير حفصة  فجاء رسول الله  صلى الله عليه وسلم إلى جمل  عائشة  وعليه حفصة  فسلم ، ثم سار معها حتى نزلوا ، فافتقدته  عائشة  فغارت فلما نزلت جعلت تجعل رجليها بين الإذخر وتقول يا رب سلط علي عقربا أو حية تلدغني ، رسولك ولا أستطيع أقول له شيئا    } . 
قال أبو زكريا النووي  في شرح  مسلم :  هذا الذي فعلته ، وقالته حملها عليه فرط الغيرة على رسول الله  صلى الله عليه وسلم وقد سبق أن أمر الغيرة معفو عنه انتهى كلامه ، وما قاله لا يوافق مذهب  الشافعي    . 
 [ ص: 250 ] وروى  أحمد  عن  عبد الرزاق  عن  معمر  عن  يحيى بن أبي كثير  عن زيد بن سلام  عن  عبد الله بن زيد  عن الأزرق  عن عقبة  مرفوعا {   : غيرتان إحداهما يحبها الله عز وجل ، والأخرى يبغضها الله عز وجل : الغيرة في الريبة يحبها الله ، والغيرة في غيرها يبغضها الله عز وجل ، والمخيلة إذا تصدق الرجل يحبها ، والمخيلة في الكبر يبغضها الله عز وجل وقال : ثلاث دعوات مستجابات دعوة المظلوم ، ودعوة الوالد ، ودعوة المسافر    } . 
 ولابن ماجه  من حديث  أبي هريرة  ذكر الغيرة فقط . قيل : يحيى  لم يسمع من زيد  فدل ذلك على أن هذه الغيرة منهي عنها ، ويوافقه ما رواه  أحمد   والبخاري  وغيرهما من حديث  أبي هريرة    { أنه  عليه السلام قال له رجل : أوصني قال : لا تغضب فردد عليه قال : لا تغضب    } وروى  أحمد  غير حديث في هذا المعنى ، وفي بعضها من رواية حميد  عن عبد الرحمن  عن رجل من الصحابة أن الرجل قال : ففكرت حين قال النبي  صلى الله عليه وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله ، وروي أيضا من حديث  ابن عباس    : { علموا ويسروا ولا تعسروا ، وإذا غضب أحدكم فليسكت ثلاثا    } . 
وروي عن {  عبد الله بن عمر  أنه سأل النبي  صلى الله عليه وسلم ماذا يباعدني من غضب الله عز وجل ؟ قال لا تغضب    } . فنهيه عنه دليل على دخوله تحت الوسع وإلا لم ينه عن المحال ، وما كان سببه محرما أو غير محرم تترتب عليه الأحكام مع وجود العقل إلا المكره لمعنى يختص به ، وظهر من هذا أن هذا السبب إن لم يكن معذورا فيه ، وزال عقله كان كزواله ببنج ونحوه على الخلاف فيه عندنا ، وإلا كان كسكر معذور فيه ، ونوم ونحوه ، وقد { أتى  أبو موسى الأشعري  النبي  صلى الله عليه وسلم يستحمله فوجده غضبان ، وحلف لا يحملهم وكفر    } . الحديث . { وسأله رجل عن ضالة الإبل ، فغضب حتى احمرت وجنتاه ، واحمر وجهه ثم قال : ما لك ولها ؟ دعها    } الحديث وهما في الصحيحين . 
{ وكان  عليه السلام عند بعض نسائه فأهدى بعضهن إليه طعاما فضربت يد الخادم ، فسقطت الصحفة فانفلقت فجمع الطعام ويقول : غارت أمكم  [ ص: 251 ] ثم أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها فدفعها إلى التي كسرت صحفتها ، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرتها .    } رواه  البخاري  من حديث  أنس   والدارقطني  ، فصارت قضية من كسر شيئا فهو له وعليه مثله    .  ولأحمد  وأبي داود   والنسائي  من حديث  عائشة  رضي الله عنها { أخذتني رعدة من شدة الغيرة ، فكسرت الإناء ، ثم ندمت فقلت يا رسول الله : ما كفارة ما صنعت ؟ فقال : إناء مثل إناء ، وطعام مثل طعام    } . 
وروى أبو داود  في باب ترك السلام على أهل الأهواء حدثنا  موسى بن إسماعيل  حدثنا حماد  عن  ثابت البناني  عن سمية  عن  عائشة  أنه { اعتل بعير  لصفية بنت حيي  ، وعند زينب  فضل ظهر فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم لزينب    : أعطيها بعيرك فقالت : أنا أعطي تلك اليهودية ؟ فغضب رسول الله  صلى الله عليه وسلم فهجرها ذا الحجة والمحرم وبعض صفر .    } سمية  تفرد عنها ثابت    ; ولأنه قول  ابن عباس  وغيره وقد ظهر من ذلك الجواب عما تقدم مع أنه يحتمل أن الإنكار اختصره الراوي ، وأنه كان قد تقدم من النبي فاكتفى به . 
والحديث الأخير ليس فيه أن النبي  صلى الله عليه وسلم علم بذلك ، وظهر أيضا الجواب عما قال  البخاري :  باب إذا لطم المسلم يهوديا عند الغضب ، ثم روى قصة الأنصاري لما سمع اليهودي يقول : والذي اصطفى موسى  على البشر ، فغضب فلطمه ، وأخبر النبي  صلى الله عليه وسلم بذلك ; لأن الغضب مع وجود العقل لا يسامح بسببه في الأفعال هذا إن لم يكن جزاء هذا الفعل اختصره الراوي من هذه القصة للعلم به ووضوحه ، لكنه خلاف الظاهر ، ولهذا فهم  البخاري  خلافه ، والله سبحانه أعلم . 
وفي الصحيحين من حديث {  ابن عباس  أنه سأل  عمر  عن المرأتين اللتين تظاهرتا على النبي  صلى الله عليه وسلم    } وذكر القصة ، { ودخول  عمر  على النبي  صلى الله عليه وسلم وقوله : لو رأيتنا يا رسول الله ، وكنا معشر قريش  نغلب النساء فلما قدمنا المدينة  وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوما ، فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت : ما تنكر أن  [ ص: 252 ] أراجعك فوالله إن أزواج النبي  صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ، فقلت : قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عز وجل عليها لغضب رسوله  صلى الله عليه وسلم فإذا هي قد هلكت . فتبسم رسول الله  صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله قد دخلت علىحفصة  فقلت : لا يغرنك أن كانت جارتك أوسم منك وأحب إلى النبي  صلى الله عليه وسلم منك فتبسم أخرى فقلت : أستأنس يا رسول الله ؟ 
قال : " نعم " فجلست فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلا أهبا ثلاثة فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك ، فقد وسع على فارس  والروم  وهم لا يعبدون الله عز وجل ، فاستوى جالسا ثم قال : أو في شك أنت يا ابن الخطاب  ؟ ، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت : استغفر لي يا رسول الله ، وكان قد أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن ، حتى عاتبه الله عز وجل على موجدته أي : غضبه    } . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					