[ ص: 25 ] فصل
يتعلق بما قبله الكذب هو : إخباره عن الشيء خلاف ما هو عليه لهذا يقول أصحابنا في اليمين الغموس هي التي يحلف بها كاذبا عالما بكذبه وهذا هو المشهور في الأصول وهو قول الشافعية ، وغيرهم ولهذا قال عليه السلام في الخبر المشهور في الصحيحين وغيرهما { } فقيده بالعمد قيل : هو دعاء بلفظ الأمر أي : بوأه الله ذلك ، وقيل : هو خبر بلفظ الأمر ، يدل عليه ما في الصحيح أو الصحيحين { من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار } وعند بعض يلج النار المتكلمين شرط الكذب العمدية ، وعند بعضهم أيضا يعتبر للصدق والاعتقاد وإلا فهو كاذب وعلى القول الأول إن طابق الحكم الخارجي فصدق وإلا فكذب وبحث المسألة في الأصول هذا في الماضي والحال فإن تعلق بالمستقبل فكذلك على رواية المروذي المذكورة .
وقال عبد الله : سمعت هارون المستملي يقول لأبي : بم تعرف الكذابين ؟ قال بالمواعيد أو بخلف المواعيد ، وكذلك قال في الفصول بعد ذكره لخبر ابن عقيل { أبي هريرة } وقال : هذا صحيح ; لأن أحدهم يعد ويخلف ، وذكر غير واحد قال أكذب الناس الصباغون والصواغون : قول أحمد إذا استثنى بعده فله ثنياه ليس هو في الأيمان إنما تأويله قول الله تعالى : { ابن عباس ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت } .
فهذا استثناء من الكذب ; لأن وهو أشد من اليمين ; لأن اليمين تكفر والكذب لا يكفر قال الجمهور : إن المعنى إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فقل إن شاء الله ولو كان بعد سنة ، مع أن جمهور العلماء قالوا : لا يصح الاستثناء إلا متصلا قال الكذب ليس فيه كفارة : الصواب له أن ابن جرير فيقول : إن شاء الله ليخرج بذلك مما يلزمه في هذه الآية فيسقط عنه الحرج فأما الكفارة فلا تسقط بحال إلا أن يستثني [ ص: 26 ] متصلا بكلامه . ومن قال له ثنياه ولو بعد سنة أراد سقوط الحرج الذي يلزمه بترك الاستثناء دون الكفارة . يستثني ولو بعد حنثه في يمينه
قال ابن الجوزي : فائدة الاستثناء خروج الحالف من الكذب إذا لم يفعل ما حلف عليه . قال موسى عليه السلام { ستجدني إن شاء الله صابرا } ولم يصبر فسلم منه بالاستثناء .
وفي المغني في الطلاق أن الحالف على الممتنع كاذب حانث ، واحتج بقوله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } إلى قوله { وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين } وقد قال تعالى { ألم تر إلى الذين نافقوا } إلى قوله { والله يشهد إنهم لكاذبون } .
قال أبو جعفر النحاس : نظيرها { يا ليتنا نرد } الآية قاله ردا على من قال بخلاف ذلك وقد قال تعالى : { وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا } . الآية .
وفي صحيح البخاري { قال يوم فتح سعد بن عبادة مكة يا اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل أبا سفيان الكعبة . فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كذب أبو سفيان ولكن هذا يوم يعظم الله فيه سعد الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة } . أن
وروى عن مسلم { جابر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو لحاطب فقال : يا رسول الله ليدخلن حاطبا النار فقال النبي صلى الله عليه وسلم كذبت لا يدخلها فإنه قد شهد حاطب بدرا والحديبية } قال في شرح مسلم : وفي هذا الحديث حديث أن عبدا يرد عليه ، وإن لفظ الكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به سواء كان من ماض أو مستقبل ، وهذا قاله حاطب وأظنه احتج هو وغيره بقول النبي صلى الله عليه وسلم { ابن قتيبة } فدل على أن إخلاف الوعد ليس [ ص: 27 ] بكذب وإلا لاقتصر على اللفظ الأول . آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف
ولقائل أن يقول : هذا لا يمنع من كونه كذبا وهو من عطف الخاص على العام وإنما ذكر بلفظ خاص صريح لئلا يتوهم متوهم أنه ليس بكذب وإنه لم يدخل في اللفظ ثم غايته أن يدخل من طريق الظاهر ، وقد ثبت أنه كذب باستعمال الكتاب والسنة فوجب القول به ولا تعارض .
وقال بعض أهل اللغة : لا يستعمل الكذب إلا في إخبار عن الماضي بخلاف ما هو به . وإذا قد تبين هذا فإذا أخبر عن وجود شيء يعلمه ، أو يظنه جاز وإن علم عدمه أو ظنه لم يجز وكذلك إن شك فيه ; لأن الشك لا يصلح مستندا للإخبار وسواء طابق الخارج مع الظن أو الشك أو لا .
وقد ذكر الأصحاب أنه وأنه خبر مؤكد باليمين ، وكذا لغو اليمين يجوز أن يجوز في القسامة العمل بالظن وكذا ما ظنه بخط أبيه من الدين يعمل به ويحلف ، وأنه تجوز يحلف بالظن في المشهور كما لو شاهد سبب اليد مع بيع ، أو غيره مع احتمال كون البائع غير مالك والشهادة آكد من الخبر ، وأنه يخبر بدخول الوقت بعلم ، أو ظن وغير ذلك من المواضع وذلك دليل على أنه يخبر بعلم وظن خاصة وهذا أوضح ودليله مشهور كقوله صلى الله عليه وسلم الشهادة بالملك لمن بيده عين يتصرف فيها تصرف الملاك للأنصار الذين قتل منهم القتيل بخيبر { يحلف خمسون منكم على رجل منهم قالوا أمر لم نشهده فكيف نحلف ؟ } الحديث .
{ بالله إن جابر ابن صياد الدجال فقال له ابن المنكدر : أتحلف بالله قال : إني سمعت يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم عمر } وذلك في الصحيحين وغيرهما ، وقد ظهر من هذا أنه لو أخبر بوجود شيء يظنه فلم يكن جاز أنه كاذب على القول الأول ، ولو أخبر به وهو يظن عدمه فكان لم يحرم مع أنه صادق ، وأن قول الأصحاب رحمهم الله واللفظ للمغني لا كفارة في يمين على ماض ; لأنها تنقسم على ثلاثة أقسام : وحلف
ما هو صادق فيه فلا كفارة فيه إجماعا .
وما تعمد الكذب فيه فهو [ ص: 28 ] . يمين الغموس
وما يظنه حقا فيتبين بخلافه فلا كفارة .
وذكر في هذين القسمين رواية ظهر أنه لو أنه لا كفارة ; لأنه صادق وإن لم يجز إقدامه على اليمين لكن هل يدخل يمينه في خلاف ظنه في الغموس ؟ شك أو حلف على خلاف ما يظنه فطابق
ظاهر كلامهم لا يدخل وقد قال في المغني في مسألة الشهادة المذكورة : الظن يسمى علما قال تعالى : { فإن علمتموهن مؤمنات } .
وخرج من كلامهم إذا لم يطابق مع الشك فإنه ليس بصادق ولم يتعمد الكذب فلا ظن له فيقال إن وجبت الكفارة فيما يظنه فتبين بخلافه فهنا أولى ، فظاهر تخصيص هذه الصورة بعدم الكفارة يقتضي الوجوب في غيرها ; لأن الظن هو المانع من الوجوب وإلا لوجبت لظاهر الآية .
وقد علل في المغني عدم وجوبها في الظن بأنه لم يقصد المخالفة كالناسي وهذا لم يقصد المخالفة مع أن ظاهر قوله : لا كفارة في يمين على ماض أنه لا كفارة في هذه الصورة مع أنه لو أراد الحصر ، ووجوب الكفارة فيها لقال إن كان صادقا فلا كفارة وإن لم يكن صادقا فإن تعمد الكذب أو ظن شيئا فبان بخلافه فلا كفارة وإلا وجبت إلا أن يدوم شكه فلا كفارة ; لأنه الأصل ، والأول أظهر .
وقد جزم في المغني وغيره بهذا المعنى في الطلاق فقال : وإن قال وكان أخوها عاقلا لم يحنث وإن لم يكن عاقلا حنث كما لو قال : والله إن أخاك لعاقل ، وإن شك في عقله لم تطلق ; لأن الأصل بقاء النكاح فلا يزال بالشك ، وإن قال : أنت طالق ما أكلت هذا الرغيف لم يحنث إن كان صادقا ويحنث إن كان كاذبا كما لو قال : والله ما أكلته . أنت طالق إن أخاك لعاقل
وقال في المغني فيما إذا أنه يصير بمنزلة المدعي في جواز الدعوى على المنكر قال : ويشترط في جواز الدعوى أن يعلم صدق المدعي فإن لم يعلم لم يحل له دعوى شيء لا يعلم بثبوته فمراده بالعلم الظن ليتفق كلامه أو يكون في المسألة عنده قولان ذكر في كل مكان قولا بحسب ما رآه في كلام الأصحاب أو ما أداه اجتهاده في ذلك الوقت . صالح أجنبي عن المنكر