[ ص: 45 ] ففيها كان عبيد الله بن زياد على يدي إبراهيم بن الأشتر النخعي ; وذلك أن مقتل خرج من إبراهيم بن الأشتر الكوفة يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة في السنة الماضية ، ثم استهلت هذه السنة وهو سائر لقصد ابن زياد في أرض الموصل فكان اجتماعهما بمكان يقال له : الخازر بينه وبين الموصل خمسة فراسخ ، فبات ابن الأشتر تلك الليلة ساهرا لا يغتمض بنوم ، فلما كان قريب الصبح نهض فعبأ جيشه وكتب كتائبه ، وصلى بأصحابه الفجر في أول وقت ، ثم ركب فناهض جيش ابن زياد وزحف بجيشه رويدا وهو ماش في الرجالة حتى أشرف من فوق تل على جيش ابن زياد ، فإذا هم لم يتحرك منهم أحد ، فلما رأوهم نهضوا إلى خيلهم وسلاحهم مدهوشين ، فركب ابن الأشتر فرسه وجعل يقف على رايات القبائل فيحرضهم على قتال ابن زياد ويقول : هذا قاتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد جاءكم الله به وأمكنكم الله منه اليوم ، فعليكم به ، فإنه قد فعل في ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يفعله فرعون في بني إسرائيل ! هذا ابن زياد قاتل الحسين الذي حال بينه وبين ماء الفرات أن يشرب منه هو وأولاده ونساؤه ، ومنعه أن ينصرف إلى بلده أو يأتي يزيد بن [ ص: 46 ] معاوية حتى قتله ! ويحكم ، اشفوا صدوركم منه ، وارووا رماحكم وسيوفكم من دمه ، هذا الذي فعل في آل نبيكم ما فعل ، قد جاءكم الله به . ثم أكثر من هذا القول وأمثاله ، ثم نزل تحت رايته .
وأقبل ابن زياد في جيش كثيف قد جعل على ميمنته حصين بن نمير وعلى الميسرة عمير بن الحباب السلمي ، وكان قد اجتمع بابن الأشتر ووعده أنه معه وأنه سينهزم بالناس غدا وعلى خيل ابن زياد شرحبيل بن ذي الكلاع ، وابن زياد في الرجالة يمشي معهم ، فما كان إلا أن تواقف الفريقان حتى حمل حصين بن نمير بالميمنة على ميسرة أهل العراق فهزمها ، وقتل أميرها علي بن مالك الجشمي فأخذ رايته من بعده ولده قرة بن علي فقتل أيضا ، واستمرت الميسرة ذاهبة فجعل ابن الأشتر يناديهم : إلي يا شرطة الله ، أنا ابن الأشتر . وقد كشف عن رأسه ليعرفوه فالتاثوا به وانعطفوا عليه ، واجتمعوا إليه ، ثم حملت ميمنة أهل الكوفة على ميسرة أهل الشام وقيل : بل انهزمت ميسرة أهل الشام وانحازت إلى ابن الأشتر ، ثم حمل ابن الأشتر بمن معه وجعل يقول لصاحب رايته : ادخل برايتك فيهم . وقاتل ابن الأشتر يومئذ قتالا عظيما ، وكان لا يضرب بسيفه رجلا إلا صرعه ، وكثرت القتلى بينهم وقيل : إن [ ص: 47 ] ميسرة أهل الشام ثبتوا وقاتلوا قتالا شديدا بالرماح ثم بالسيوف ، ثم أردف الحملة ابن الأشتر ، فانهزم جيش الشام بين يديه ، فجعل يقتلهم كما تقتل الحملان ، وأتبعهم بنفسه ومن معه من الشجعان ، وثبت عبيد الله بن زياد في موقفه حتى اجتاز به ابن الأشتر فقتله ، وهو لا يعرفه ، لكن قال لأصحابه : التمسوا في القتلى رجلا ضربته بالسيف فنفحني منه ريح المسك ، شرقت يداه وغربت رجلاه وهو واقف عند راية منفردة على شاطئ نهر خازر ، فالتمسوه فإذا هو عبيد الله بن زياد وإذا هو قد ضربه ابن الأشتر فقطعه نصفين ، فاحتزوا رأسه وبعثوه إلى المختار إلى الكوفة مع البشارة بالنصر والظفر بأهل الشام . وقتل من رءوس أهل الشام أيضا حصين بن نمير ، و شرحبيل بن ذي الكلاع ، وأتبع الكوفيون أهل الشام فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم أكثر ممن قتل ، واحتازوا ما كان في معسكرهم من الأموال والخيول .
وقد كان المختار بشر أصحابه بالنصر قبل أن يجيء الخبر فما ندري أكان ذلك تفاؤلا منه أو اتفاقا وقع له أو كهانة - وأما على ما كان يزعم أصحابه أنه أوحي إليه بذلك فلا ، فإن من اعتقد ذلك كفر ، ومن أقرهم على ذلك كفر - لكن قال : إن الوقعة كانت بنصيبين . فأخطأ مكانها ، فإنها إنما كانت بأرض الموصل ، وهذا مما انتقده عامر الشعبي على أصحاب المختار حين جاءه الخبر بالفتح ، وقد خرج المختار من الكوفة ليتلقى البشارة ، فأتى المدائن فصعد [ ص: 48 ] منبرها ، فبينما هو يخطب إذ جاءته البشارة وهو هنالك . قال الشعبي : فقال لي بعض أصحابه : أما سمعته بالأمس يخبرنا بهذا ؟ فقلت له : إنه زعم أن الوقعة كانت بنصيبين من أرض الجزيرة وإنما قال البشير : إنهم كانوا بالخازر من أرض الموصل . فقال : والله لا تؤمن يا شعبي حتى ترى العذاب الأليم .
ثم رجع المختار إلى الكوفة وفى غيبته هذه تمكن جماعة ممن كان قاتله يوم جبانة السبيع والكناسة من الخروج إلى البصرة ; ليجتمعوا بمصعب بن الزبير ، وكان منهم شبث بن ربعي ، وأما ابن الأشتر فإنه بعث بالبشارة ورأس عبيد الله إلى المختار ، واستقل هو في تلك البلاد فبعث أخاه لأمه عبد الرحمن بن عبد الله على نيابة نصيبين ، وبعث عمالا إلى الموصل ، وأخذ سنجار ودارا وما والاها من الجزيرة .
وقال : كان مقتل أبو أحمد الحاكم عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء سنة ست وستين والصواب سنة سبع وستين .
[ ص: 49 ] وقد قال سراقة بن مرداس البارقي يمدح ابن الأشتر على قتله ابن زياد :
أتاكم غلام من عرانين مذحج جريء على الأعداء غير نكول فيا ابن زياد بؤ بأعظم مالك
وذق حد ماضي الشفرتين صقيل ضربناك بالعضب الحسام بحده
إذا ما أبأنا قاتلا بقتيل جزى الله خيرا شرطة الله إنهم
شفوا من عبيد الله أمس غليلي