[ ص: 502 ] ثم دخلت سنة تسع وأربعين وسبعمائة
استهلت وسلطان البلاد المصرية والشامية الملك الناصر ناصر الدين حسن بن الناصر بن المنصور ، ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين بيبغا ، ووزيره منجك ، وقضاته عز الدين بن جماعة الشافعي ، وتقي الدين الأخنائي المالكي ، وعلاء الدين بن التركماني الحنفي ، وكاتب سره القاضي وموفق الدين المقدسي الحنبلي ، علاء الدين بن محيي الدين بن فضل الله العمري ، ونائب الشام المحروس بدمشق الأمير سيف الدين أرغون شاه الناصري ، وحاجب الحجاب الأمير طيدمر الإسماعيلي ، والقضاة بدمشق; قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي ، وقاضي القضاة نجم الدين الحنفي ، وقاضي القضاة جمال الدين المسلاتي المالكي ، وقاضي القضاة علاء الدين بن منجا الحنبلي ، وكاتب سره القاضي ناصر الدين الحلبي الشافعي ، وهو قاضي العساكر بحلب ، ومدرس الأسدية بها أيضا ، مع إقامته بدمشق المحروسة .
وتواترت الأخبار بوقوع الوباء في أطراف البلاد ، فذكر عن بلاد القرم أمر هائل ، وموتان فيهم كثير ، ثم ذكر أنه انتقل إلى بلاد الفرنج حتى قيل : إن أهل [ ص: 503 ] قبرص مات أكثرهم أو ما يقارب ذلك ، وكذا وقع بغزة أمر عظيم في أوائل هذه السنة . وقد جاءت مطالعة نائب غزة إلى نائب دمشق أنه مات من يوم عاشوراء إلى مثله من شهر صفر نحو من بضعة عشر ألفا ، وقرئ " " في ربعة يوم الجمعة بعد الصلاة سابع ربيع الأول في هذه السنة ، وحضر القضاة ، وجماعة من الناس ، وقرأت بعد ذلك المقرئون ، ودعا الناس برفع الوباء عن البلاد ، وذلك أن الناس لما بلغهم من حلول هذا المرض في السواحل ، وغيرها من أرجاء البلاد - يتوهمون ويخافون من وقوعه بمدينة البخاري دمشق حماها الله وسلمها ، مع أنه قد بلغهم أنه قد مات جماعة من أهلها بهذا الداء . وفي صبيحة يوم الأحد تاسعه اجتمع الناس بمحراب الصحابة ، وقرءوا متوزعين " سورة نوح " ثلاثة آلاف مرة ، وثلاثمائة وثلاثة وستين مرة ، عن رؤيا رجل أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرشده إلى قراءة ذلك كذلك .
وفي هذا الشهر أيضا كثر الموت في الناس بأمراض الطواعين ، وزاد الأموات في كل يوم على المائة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وإذا وقع في أهل بيت لا يكاد يخرج منه حتى يموت أكثرهم ، ولكنه بالنظر إلى كثرة أهل البلد قليل ، وقد توفي في هذه الأيام من هذا الشهر خلق كثير ، وجم غفير ، ولا سيما من النساء فإن الموت فيهن أكثر من الرجال بكثير كثير ، وشرع الخطيب في القنوت في سائر الصلوات ، والدعاء برفع الوباء من المغرب ليلة الجمعة سادس شهر ربيع الآخر من هذه السنة ، وحصل للناس بذلك خضوع ، وخشوع ، وتضرع ، وإنابة ، وكثرت [ ص: 504 ] الأموات في هذا الشهر جدا ، وزادوا على المائتين في كل يوم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وتضاعف عدد الموتى منهم ، وتعطلت مصالح الناس ، وتأخرت الموتى عن إخراجهم ، وزاد ضمان الموتى جدا ، فتضرر الناس ولا سيما الصعاليك; فإنه يؤخذ على الميت شيء كثير جدا ، فرسم نائب السلطنة بإبطال ضمان النعوش ، والمغسلين ، والحمالين ، ونودي بإبطال ذلك في يوم الاثنين سادس عشر ربيع الآخر ، ووقفت نعوش كثيرة في أرجاء البلد ، واتسع الناس بذلك ، ولكن كثرت الموتى ، فالله المتسعان .
وفي يوم الاثنين الثالث والعشرين منه نودي في البلد أن يصوم الناس ثلاثة أيام ، وأن يخرجوا في اليوم الرابع ، وهو يوم الجمعة إلى عند مسجد القدم يتضرعون إلى الله ، ويسألونه في رفع الوباء عنهم ، فصام أكثر الناس ، ونام الناس في الجامع ، وأحيوا الليل كما يفعلون في شهر رمضان ، فلما أصبح الناس يوم الجمعة السابع والعشرين منه ، خرج الناس من كل فج عميق إلى الصحراء ، واليهود ، والنصارى ، والسامرة ، والشيوخ ، والعجائز ، والصبيان ، والفقراء ، والأمراء ، والكبراء ، والقضاة ، من بعد صلاة الصبح ، فما زالوا هنالك يدعون الله تعالى حتى تعالى النهار جدا ، وكان يوما مشهودا .
وفي يوم الخميس عاشر جمادى الأولى صلى الخطيب بعد صلاة الظهر على ستة عشر ميتا جملة واحدة ، فتهول الناس من ذلك ، وانذعروا ، وكان الموت يومئذ كثيرا ، ربما يقارب الثلاثمائة بالبلد وحواضره ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وصلي بعد الصلاة على خمسة عشر ميتا بجامع دمشق ، وصلي بجامع الخيل على إحدى عشرة نفسا ، رحمهم الله .
[ ص: 505 ] وفي يوم الاثنين الحادي والعشرين منه رسم نائب السلطنة بقتل الكلاب من البلد ، وقد كانت كثيرة بأرجاء البلد ، وربما ضرت الناس ، وقطعت عليهم الطرقات في أثناء الليل ، أما تنجيسها الأماكن فكثير قد عم الابتلاء به ، وشق الاحتراز منه ، وقد جمعت جزءا من الأحاديث الواردة في قتلهم ، واختلاف الأئمة في نسخ ذلك ، وقد كان عمر - رضي الله عنه - يأمر في خطبته بذبح الحمام ، وقتل الكلاب . ونص مالك في رواية ابن وهب على جواز إذا أذن الإمام في ذلك للمصلحة . قتل كلاب بلدة بعينها ،
وفي يوم الاثنين الثامن والعشرين منه توفي زين الدين عبد الرحمن ابن شيخنا الحافظ المزي ، بدار الحديث النورية ، وهو شيخها ، ودفن بمقابر الصوفية مع والده ، رحمهما الله تعالى .
وفي منتصف شهر جمادى الآخرة قوي الموت وتزايد ، وبالله المستعان ، ومات خلائق من الخاصة والعامة ممن نعرفهم ، وغيرهم ، رحمهم الله ، وأدخلهم جنته ، وكان يصلى في أكثر الأيام في الجامع على أزيد من مائة ميت ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وبعض الموتى لا يؤتى بهم إلى الجامع ، وأما حول البلد وأرجائها فلا يعلم عدد من يموت بها إلا الله عز وجل .
وفي يوم الاثنين السابع والعشرين منه توفي الصدر شمس الدين بن الصباب التاجر السفار ، باني المدرسة الصابية التي هي دار قرآن بالقرب من المدرسة الظاهرية ، وهي قبلي العادلية الكبيرة ، وكانت هذه البقعة برهة من الزمان خربة [ ص: 506 ] شنيعة ، فعمرها هذا الرجل ، وجعلها دار قرآن ودار حديث للحنابلة ، ووقف هو وغيره عليها أوقافا جيدة ، رحمه الله تعالى .
وفي يوم الجمعة ثاني شهر رجب صلي بعد الجمعة بالجامع الأموي على غائب; وهو القاضي علاء الدين ابن قاضي شهبة ، ثم صلي على إحدى وأربعين نفسا جملة واحدة ، فلم يتسع داخل الجامع لصفهم بل خرجوا ببعض الموتى إلى ظاهر باب السر ، وخرج الخطيب والنقيب فصلى عليهم كلهم هناك ، وكان وقتا مشهودا ، وعبرة عظيمة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وفي هذا اليوم توفي التاجر المسمى بأفريدون ، الذي بنى المدرسة التي بظاهر باب الجابية تجاه تربة بهادرآص ، حائطها من حجارة ملونه ، وجعلها دارا للقرآن العظيم ، ووقف عليها أوقافا جيدة ، وكان مشهورا مشكورا ، رحمه الله وأكرم مثواه .
وفي يوم السبت ثالث رجب صلي على الشيخ علي المغربي ، أحد أصحاب الشيخ تقي الدين ابن تيمية بالجامع الأفرمي بسفح قاسيون ، ودفن بالسفح رحمه الله ، وكانت له عبادة ، وزهادة ، وتقشف ، وورع ، ولم يتول في هذه الدنيا وظيفة بالكلية ، ولم يكن له مال ، بل كان يؤتى بشيء من الفتوح يستنفقه قليلا قليلا ، وكان يعاني التصوف ، وترك زوجة وثلاثة أولاد ، رحمه الله .
وفي صبيحة يوم الأربعاء سابع رجب صلي على القاضي زين الدين بن النجيح نائب القاضي الحنبلي - بالجامع المظفري ، ودفن بسفح قاسيون ، [ ص: 507 ] وكان مشكورا في القضاء ، لديه فضائل كثيرة ، وديانة ، وعبادة ، وكان من اصحاب الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، وكان قد وقع بينه وبين القاضي مشاجرات بسبب أمور ، ثم اصطلحا فيما بعد ذلك . الشافعي
وفي يوم الاثنين ثاني عشره بعد أذان الظهر حصل بدمشق ، وما حولها ريح شديدة أثارت غبارا شديدا اصفر الجو منه ، ثم اسود حتى أظلمت الدنيا ، وبقي الناس في ذلك نحوا من ربع ساعة يجأرون إلى الله عز وجل ، ويستغفرون ، ويبكون ، مع ما هم فيه من شدة الموت الذريع ، ورجا الناس أن هذا الحال يكون ختام ما هم فيه من الطاعون ، فلم يزدد الأمر إلا شدة ، وبالله المستعان .
وبلغ المصلى عليهم في الجامع الأموي إلى نحو المائة وخمسين ، وأكثر من ذلك ، خارجا عمن لا يؤتى بهم إليه من أرجاء البلد وممن يموت من أهل الذمة ، وأما حواضر البلد وما حولها فأمر كثير ، يقال : إنه بلغ ألفا في كثير من الأيام ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وصلى بعد الظهر من هذا اليوم بالجامع المظفري على الشيخ إبراهيم بن المحب ، الذي كان يحدث في الجامع الأموي وجامع تنكز ، وكان مجلسه كثير الجمع; لصلاحه ، وحسن ما كان يؤديه من المواعيد النافعة ، ودفن بسفح قاسيون ، وكانت جنازته حافلة ، رحمه الله تعالى .
وعملت المواعيد بالجامع الأموي ليلة سبع وعشرين من رجب ، يقولون : ليلة المعراج ، ولم يجتمع الناس فيه على العادة; لكثرة من مات منهم; ولشغل [ ص: 508 ] كثير من الناس بمرضاهم وموتاهم .
واتفق في هذه الليلة أنه تأخر جماعة من الناس في الخيم ظاهر البلد ، فجاءوا ليدخلوا من باب النصر على عادتهم في ذلك ، فكأنه اجتمع خلق منهم بين البابين ، فهلك كثير منهم كنحو ما يهلك الناس في هذا الحين على الجنائز ، فانزعج نائب السلطنة ، فخرج فوجدهم ، فأمر بجمعهم ، فلما أصبح الناس أمر بتسميرهم ثم عفا عنهم ، وضرب متولي البلد ضربا شديدا ، وسمر نائبه في الليل ، وسمر البواب بباب النصر ، وأمر أن لا يمشي أحد بعد عشاء الآخرة ، ثم سمح لهم في ذلك .
واستهل شهر شعبان والفناء في الناس كثير جدا ، وربما أنتنت البلد ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وتوفي الشيخ شمس الدين بن الصلاح مدرس القيمرية الكبيرة بالمطرزيين يوم الخميس ثالث عشر شعبان .
وفي يوم الجمعة رابع عشر شعبان صلي بعد الصلاة على جماعة كثيرة; منهم القاضي عماد الدين بن الشيرازي محتسب البلد ، وكان من أكابر رؤساء دمشق ، وولي نظر الجامع مدة ، وفي بعض الأوقات نظر الأوقاف ، وجمع له في وقت بينهما ، ودفن بسفح قاسيون .
وفي العشر الأخير من شهر شوال توفي الأمير سيف الدين قرابغا دوادار النائب بداره غربي حكر السماق ، وقد أنشأ له إلى جانبها تربة ومسجدا ، [ ص: 509 ] وهو الذي أنشأ السويقة المجددة عند داره ، وعمل لها بابين شرقيا وغربيا ، وضمنت بقيمة كثيرة بسبب جاهه ، ثم بارت وهجرت; لقلة الحاجة إليها ، وحضر الأمراء ، والقضاة ، والأكابر جنازته ، ودفن بتربته هناك ، وترك أموالا جزيلة ، وحواصل كثيرة جدا ، أخذها مخدومه نائب السلطنة .
وفي يوم الثلاثاء سابع شهر ذي القعدة توفي خطيب الجامع ، الخطيب تاج الدين عبد الرحيم ابن القاضي جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني ، بدار الخطابة ، مرض يومين ، وأصابه ما أصاب الناس من الطاعون ، وكذلك عامة أهل بيته من جواريه ، وأولاده ، وتبعه أخوه بعد يومين صدر الدين عبد الكريم ، وصلي على الخطيب تاج الدين بعد الظهر يومئذ عند باب الخطابة ، ودفن بتربتهم بالصوفية عند أبيه ، وأخويه بدر الدين محمد ، وجمال الدين عبد الله ، رحمهم الله .
وفي يوم الخميس تاسعه اجتمع القضاة ، وكثير من الفقهاء المفتين عند نائب السلطنة بسبب الخطابة ، فطلب إلى المجلس الشيخ جمال الدين بن محمود بن جملة ، فولاه إياها نائب السلطنة ، وانتزعت من يده وظائف كان يباشرها ، ففرقت على الناس ، فولي القاضي بهاء الدين أبو البقاء تدريس الظاهرية البرانية ، وتوزع الناس بقية جهاته ، ولم يبق بيده سوى الخطابة ، وصلى بالناس يومئذ الظهر ، ثم خلع عليه في بكرة نهار الجمعة ، وصلى بالناس يومئذ وخطبهم [ ص: 510 ] على قاعدة الخطباء .
وفي يوم عرفة - وكان يوم السبت - توفي القاضي شهاب الدين بن فضل الله ، كاتب الأسرار الشريفة بالديار المصرية والبلاد الشامية ، ثم عزل عن ذلك ، ومات ، وليس يباشر شيئا من ذلك من رياسة ، وسعادة ، وأموال جزيلة ، وأملاك ، ومرتبات كثيرة ، وعمر دارا هائلة بسفح قاسيون بالقرب من الركنية شرقيها ، ليس بالسفح مثلها ، وقد انتهت إليه رياسة الإنشاء ، وكان يشبه بالقاضي الفاضل في زمانه ، وله مصنفات عديدة بعبارات سعيدة ، وكان حسن المذاكرة ، سريع الاستحضار ، جيد الحفظ ، فصيح اللسان ، جميل الأخلاق ، يحب العلماء والفقراء ، ولم يجاوز الخمسين ، توفي بدارهم داخل باب الفراديس ، وصلي عليه بالجامع الأموي ، ودفن بالسفح مع أبيه وأخيه بالقرب من اليغمورية سامحه الله ، وغفر له .
وفي هذا اليوم توفي الشيخ أبو عبد الله بن رشيق المغربي ، كاتب مصنفات شيخنا العلامة ابن تيمية ، كان أبصر بخط الشيخ منه ، إذا عزب شيء منه على الشيخ استخرجه أبو عبد الله هذا ، وكان سريع الكتابة لا بأس به ، دينا عابدا ، كثير التلاوة ، حسن الصلاة ، له عيال وعليه ديون ، رحمه الله وغفر له ، آمين .