ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين
ففيها عبد الرحمن ابن أم الحكم الثقفي بلاد الروم وشتى بها . وفيها غزا جنادة بن أبي أمية - جزيرة رودس ، فأقام بها طائفة من المسلمين كانوا أشد شيء على الكفار ، يعترضون لهم في البحر ، ويقطعون سبيلهم ، وكان افتتح المسلمون - وعليهم معاوية يدر عليهم الأرزاق والأعطيات الجزيلة ، وكانوا على حذر شديد من الفرنج ، يبيتون في حصن عظيم عندهم فيه حوائجهم ودوابهم وحواصلهم ، ولهم نواطير على البحر ينذرونهم إن قدم عدو أو كادهم أحد وما زالوا كذلك حتى كانت إمارة يزيد بن معاوية بعد أبيه ، فأقفلهم من تلك الجزيرة ، وقد كانت للمسلمين بها أموال كثيرة وزراعات غزيرة .
سعيد بن العاص والي المدينة . قاله وحج بالناس في هذه السنة أبو معشر . والواقدي
وفي هذه السنة جبلة بن الأيهم الغساني ، كما ستأتي ترجمته في آخر هذه التراجم . توفي
وفيها الربيع بن زياد الحارثي اختلف في صحبته ، وكان نائب توفي زياد على خراسان وكان قد ذكر حجر بن عدي فتأسف عليه ، وقال : والله لو ثارت العرب له لما قتل صبرا ، ولكن أقرت العرب فذلت . ثم لما كان يوم الجمعة دعا الله على المنبر أن يقبضه إليه ، فما عاش إلى الجمعة الأخرى ، واستخلف على [ ص: 260 ] عمله ابنه عبد الله بن الربيع ، فأقره زياد على ذلك ، فمات بعد ذلك بشهرين ، واستخلف على عمله بخراسان خليد بن عبد الله الحنفي ، فأقره زياد .
ورويفع بن ثابت
صحابي جليل ، شهد فتح مصر ، وله آثار جيدة في فتح بلاد المغرب ، ومات ببرقة واليا من جهة مسلمة بن مخلد نائب مصر .
زياد بن أبي سفيان - ويقال له زياد ابن أبيه و : وفيها توفي زياد ابن سمية . وهي أمه - في رمضان من هذه السنة مطعونا ، وكان سبب ذلك أنه كتب إلى معاوية يقول له : إني قد ضبطت لك العراق بشمالي ، ويميني فارغة . وهو يعرض له أن يستنيبه على بلاد الحجاز أيضا ، فلما بلغ أهل الحجاز ذلك جاءوا إلى ، فشكوا إليه ذلك ، وخافوا أن يلي عليهم عبد الله بن عمر بن الخطاب زياد ، فيعسفهم كما عسف أهل العراق ، فقام ابن عمر فاستقبل القبلة ، فدعا على زياد والناس يؤمنون ، فطعن زياد بالعراق في يده فضاق ذرعا بذلك ، واستشار شريحا القاضي في قطع يده ، فقال له شريح : إني لا أرى لك أن تفعل ذلك بنفسك ، فإنه إن لم يكن في الأجل فسحة لقيت الله أجذم قد قطعت يدك جزعا من لقائه ، وإن كان لك أجل بقيت في الناس أجذم فيعير ولدك بذلك . فصرفه عن ذلك ، فلما خرج شريح من عنده عاتبه بعض الناس وقالوا : هلا تركته فقطع يده ؟ فقال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المستشار مؤتمن " . ويقال : إن [ ص: 261 ] زيادا جعل يقول : أأنام أنا والطاعون في فراش واحد ؟ فعزم على قطع يده ، فلما جيء بالمكاوي والحديد خاف من ذلك ، فترك ذلك . وذكر أنه جمع مائة وخمسين طبيبا ليداووه مما يجد من الحر في باطنه ، منهم ثلاثة أطباء ممن كان يطب فعجزوا عن رد القدر المحتوم والأمر المحموم ، فمات في ثالث شهر رمضان في هذه السنة . وقد قام في إمرة كسرى بن هرمز العراق خمس سنين . ودفن بالثوية خارج الكوفة ، وقد كان برز منها قاصدا الحجاز أميرا عليها ، فلما بلغ خبر موته عبد الله بن عمر قال : اذهب إليك يا ابن سمية ، فلا الدنيا بقيت لك ، ولا الآخرة أدركت .
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثني أبي ، عن هشام بن محمد ، حدثني يحيى بن ثعلبة أبو المقوم الأنصاري ، عن أمه عن عائشة ، عن أبيها عبد الرحمن بن السائب الأنصاري ، قال : جمع زياد أهل الكوفة ، فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر ; ليعرضهم على البراءة من علي بن أبي طالب . قال : عبد الرحمن فإني لمع نفر من أصحابي من الأنصار ، والناس في أمر عظيم من ذلك وفي حصر . قال : فهومت تهويمة - أي نعست نعسة - فرأيت شيئا أقبل طويل العنق ، له عنق مثل عنق البعير ، أهدب أهدل فقلت : ما أنت ؟ [ ص: 262 ] فقال : أنا النقاد ذو الرقبة ، بعثت إلى صاحب هذا القصر . فاستيقظت فزعا ، فقلت لأصحابي : هل رأيتم ما رأيت ؟ قالوا : لا . فأخبرتهم ، وخرج علينا خارج من القصر فقال : إن الأمير يقول لكم : انصرفوا عني ، فإني عنكم مشغول . وإذا الطاعون قد أصابه .
وروى ابن أبي الدنيا أن زيادا لما ولي الكوفة سأل عن أعبد أهلها ، فدل على رجل يقال له : أبو المغيرة الحميري . فجاء به فقال له : الزم بيتك ولا تخرج منه وأنا أعطيك من المال ما شئت . فقال : لو أعطيتني ملك الأرض ما تركت خروجي لصلاة الجماعة . فقال : الزم الجماعة ولا تتكلم بشيء . فقال : لا أستطيع ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فأمر به فضربت عنقه . وهذا غريب جدا .
ولما احتضر قال له ابنه : يا أبة ، قد هيأت لك ستين ثوبا أكفنك فيها . فقال : يا بني ، قد دنا من أبيك أمر ; إما لباس خير من لباسه وإما سلب سريع .
وصعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم الدارمي
كان سيدا في الجاهلية وفي الإسلام ، يقال : إنه أحيا في الجاهلية ثلاثمائة وستين موءودة . وقيل : أربعمائة . وقيل : ستا وتسعين موءودة . فلما أسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لك أجر ذلك إذ من الله عليك بالإسلام " .
[ ص: 263 ] ويروى عنه أنه أول ما أحيى الموءودة أنه ذهب في طلب ناقتين شردتا له . قال : فبينما أنا في الليل أسير إذا أنا بنار تضيء مرة وتخبو أخرى ، فجعلت لا أهتدي إليها ، فقلت : اللهم لك علي إن أوصلتني إليها أن أدفع عن أهلها ضيما إن وجدته بهم . قال : فوصلت إليها ، وإذا شيخ كبير يوقد نارا ، وعنده نسوة مجتمعات ، فقلت : ما أنتن ؟ فقلن : إن هذه امرأة قد حبستنا منذ ثلاث ، تطلق ولم تخلص . فقال الشيخ صاحب المنزل : وما خبرك ؟ فقلت : إني في طلب ناقتين شردتا لي . فقال : قد وجدتهما ، إنهما لفي إبلنا . قال : فنزلت عنده . قال : فما هو إلا أن نزلت إذ قلن : وضعت . فقال الشيخ : إن كان ذكرا فارتحلوا ، وإن كان أنثى فلا تسمعنني صوتها . فقلت : علام تقتل ولدك ورزقه على الله ؟ فقال : لا حاجة لي بها . فقلت : أنا أفتديها منك وأتركها عندك حتى تبين عنك أو تموت . قال : بكم ؟ قلت . بإحدى ناقتي . قال : لا . قلت : فبهما . قال : لا إلا أن تزيدني بعيرك هذا ، فإني أراه شابا حسن اللون . قلت : نعم ، على أن تردني إلى أهلي . قال : نعم . فلما خرجت من عندهم ، رأيت أن الذي صنعته نعمة من الله من بها علي هداني إليها ، فجعلت لله علي أن لا أجد موءودة إلا افتديتها كما افتديت هذه . قال : فما جاء الإسلام حتى أحييت مائة موءودة إلا أربعا ، ونزل القرآن بتحريم ذلك على المسلمين .
وممن توفي في هذه السنة من المشاهير المذكورين نصارى العرب ، وهو جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن أبي شمر ، [ ص: 264 ] واسمه المنذر بن الحارث ، وهو ابن مارية ذات القرطين ، وهو ابن ثعلبة بن عمرو بن جفنة ، واسمه كعب بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس جبلة بن الأيهم الغساني ملك ، ومارية هي بنت أرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة ، ويقال غير ذلك في نسبه ، وكنية جبلة أبو المنذر الغساني الجفني ، وكان ملك غسان ، وهم نصارى العرب أيام هرقل ، وغسان أولاد عم الأنصار ; أوسها وخزرجها ، وكان جبلة آخر ملوك غسان ، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا مع شجاع بن وهب يدعوه إلى الإسلام ، فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال : قيل : إنه لم يسلم قط . وهكذا صرح به ابن عساكر الواقدي وسعيد بن عبد العزيز .
وقال الواقدي : شهد اليرموك مع الروم أيام عمر بن الخطاب ، ثم أسلم بعد ذلك في أيام عمر ، فاتفق أنه وطئ رجلا من مزينة بدمشق ، فلطمه ذلك المزني ، فرفعه أصحاب جبلة إلى أبي عبيدة فقالوا : هذا لطم جبلة . قال أبو عبيدة : فليلطمه جبلة . فقالوا : أوما يقتل ؟ ! قال : لا . قالوا : فما تقطع يده ؟ ! قال : لا ، إنما أمر الله بالقود . فقال جبلة أترون أني جاعل وجهي بدلا لوجه مزني جاء من ناحية المدينة ؟ بئس الدين هذا . ثم ارتد نصرانيا ، وترحل بأهله حتى دخل أرض الروم ، فبلغ ذلك عمر فشق عليه ، وقال لحسان : إن صديقك جبلة ارتد عن الإسلام . فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون . ثم قال : ولم ؟ قال : لطمه رجل من مزينة . فقال : وحق له . فقام إليه عمر بالدرة فضربه بها . ورواه [ ص: 265 ] الواقدي ، عن معمر وغيره ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، وساق ذلك بأسانيده إلى جماعة من الصحابة . وهذا القول هو أشهر الأقوال .
وقد روى ابن الكلبي وغيره أن عمر لما بلغه إسلام جبلة فرح بإسلامه ، ثم بعث يستدعيه ليراه بالمدينة ، وقيل : بل استأذنه جبلة في القدوم عليه ، فأذن له ، فركب في خلق كثير من قومه ، قيل : مائة وخمسون راكبا . وقيل : خمسمائة . وتلقته هدايا عمر ونزله قبل أن يصل إلى المدينة بمراحل ، وكان يوم دخوله يوما مشهودا ، دخلها وقد ألبس خيوله قلائد الذهب والفضة ، ولبس هو تاجا على رأسه ، مرصعا باللآلئ والجواهر ، وفيه قرطا مارية جدته ، وخرج أهل المدينة رجالهم ونساؤهم ينظرون إليه ، فلما سلم على عمر رحب به عمر وأدنى مجلسه ، وشهد الحج مع عمر في هذه السنة ، فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وطئ إزاره رجل من بني فزارة فانحل ، فرفع جبلة يده فهشم أنف ذلك الرجل ، ومن الناس من يقول : إنه قلع عينه . فاستعدى عليه الفزاري عمر ، ومعه خلق كثير من بني فزارة ، فاستحضره عمر ، فاعترف جبلة فقال له عمر : أقده . فقال جبلة : كيف وأنا ملك وهو سوقة ؟ فقال : إن الإسلام جمعك وإياه ، فلست تفضله إلا بالتقوى . فقال جبلة قد كنت أظن أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية . فقال عمر : دع ذا عنك ، فإنك إن لم ترض الرجل أقدته منك . فقال : إذن أتنصر . فقال : إن تنصرت ضربت عنقك . فلما رأى الجد قال : سأنظر في أمري هذه الليلة . فانصرف من عند عمر ، فلما ادلهم الليل ركب [ ص: 266 ] في قومه ومن أطاعه ، فسار إلى الشام ، ثم دخل بلاد الروم ، ودخل على هرقل في مدينة القسطنطينية فرحب به هرقل وأقطعه بلادا كثيرة ، وأجرى عليه أرزاقا جزيلة ، وأهدى إليه هدايا جميلة ، وجعله من سماره ، فمكث عنده دهرا ; ثم إن عمر كتب كتابا إلى هرقل مع رجل يقال له : جثامة بن مساحق الكناني . فلما بلغ هرقل كتاب عمر بن الخطاب قال له هرقل : هل لقيت ابن عمك جبلة ؟ قال : لا . قال : فالقه . فذكر اجتماعه به ، وما هو فيه من النعمة والسرور والحبور الدنيوي ، في لباسه وفرشه ومجلسه وطيبه ، وجواريه حواليه الحسان من الخدم والقيان ، ومطعمه وشرابه وسرره وداره التي تعوض بها عن دار الإسلام ، وذكر أنه دعاه إلى الإسلام والعود إلى الشام فقال : أبعد ما كان مني من الارتداد ؟ فقال : نعم ، إن الأشعث بن قيس ارتد وقاتلهم بالسيف ، ثم لما رجع إلى الحق قبلوه منه ، وزوجه الصديق بأخته أم فروة . قال : فالتهى عنه بالطعام والشراب ، وعرض عليه الخمر فأبى عليه ، وشرب جبلة من الخمر شيئا كثيرا حتى سكر ، ثم أمر جواريه القيان ، فغنينه بالعيدان من قول حسان ، يمدح بني عمه من غسان ، والشعر في والد جبلة هذا الحيوان .
لله در عصابة نادمتهم يوما بجلق في الزمان الأول أولاد جفنة حول قبر أبيهم
قبر ابن مارية الكريم المفضل [ ص: 267 ] يسقون من ورد البريص عليهم
صهبا تصفق بالرحيق السلسل بيض الوجوه كريمة أحسابهم
شم الأنوف من الطراز الأول يغشون حتى ما تهر كلابهم
لا يسألون عن السواد المقبل
لمن الدار أقفرت بمعان بين فرع اليرموك فالصمان
فالقريات من بلاس فداريا فسكاء فالقصور الدواني
فحمى جاسم إلى مرج ذي الصفر مغنى قبائل وهجان
تلك دار العزيز بعد ألوف وحلول عظيمة الأركان
صلوات المسيح في ذلك الدي ر دعاء القسيس والرهبان
ذاك مغنى لآل جفنة في الده ر محاه تعاقب الأزمان
فأراني هناك حق مكين عند ذي التاج مجلسي ومكاني
ثكلت أمهم وقد ثكلتهم يوم حلوا بحارث الجولان
[ ص: 268 ] قد - دنا الفصح فالولائد ينظم ن سراعا أكلة المرجان
تنصرت الأشراف من عار لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني فيها لجاج ونخوة وبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
أدين بما دانوا به من شريعة وقد يصبر العود الكبير على الدبر
إن ابن جفنة من بقية معشر لم يغذهم آباؤهم باللوم
لم ينسني بالشام إذ هو ربها كلا ولا متنصرا بالروم
يعطي الجزيل ولا يراه عنده إلا كبعض عطية المحروم
وأتيته يوما فقرب مجلسي وسقى فرواني من الخرطوم
وذكر أكثر هذه الأخبار الشيخ في " المنتظم " ، وأرخ وفاته هذه السنة ، أعني سنة ثلاث وخمسين ، وقد ترجمه أبو الفرج بن الجوزي في " تاريخه " فأطال الترجمة وأفاد ، ثم قال في آخرها : بلغني أن الحافظ ابن عساكر جبلة توفي في خلافة معاوية بأرض الروم ، بعد سنة أربعين من الهجرة .