استهلت وقد ألح طاهر بن الحسين بن مصعب وهرثمة بن أعين ، ومن معهما من الجنود في بغداد والتضييق على وهرب محمد الأمين القاسم بن الرشيد ، وعمه حصار منصور بن المهدي إلى المأمون فأكرمهما ، وولى أخاه القاسم جرجان واشتد الحصار ببغداد ونصبت عليها المجانيق والعرادات وضاق الأمين بهم ذرعا ، ولم يبق معه ما ينفق في الجند ، فاضطر إلى ضرب آنية الفضة والذهب دراهم ودنانير ، وهرب كثير من جنده إلى طاهر ، وقتل من أهل البلد خلق كثير ، وأخذت أموال كثيرة من التجار ، وبعث إلى قصور كثيرة ، ودور شهيرة ، وأماكن ومحال كثيرة فحرقها لما رأى في ذلك من المصلحة فعل كل هذا فرارا من الموت ، ولتدوم الخلافة له فلم تدم ، وقتل ، وخربت دياره كما سيأتي قريبا وفعل طاهر مثل ما فعل محمد الأمين الأمين ، حتى كادت بغداد تخرب بكمالها ، فقال بعض الشعراء في ذلك :
من ذا أصابك يا بغداد بالعين ألم تكوني زمانا قرة العين ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم
وكان قربهم زينا من الزين [ ص: 95 ] صاح الغراب بهم بالبين
فافترقوا ماذا لقيت بهم من لوعة البين أستودع الله قوما ما ذكرتهم
إلا تحدر ماء العين من عيني كانوا فمزقهم دهر وصدعهم
والدهر يصدع ما بين الفريقين
واستحوذ طاهر على ما كان في الضياع من الغلات والحواصل للأمراء وغيرهم ، ودعاهم إلى الأمان ، وخلع الأمين ، والبيعة للمأمون ، فاستجاب له جماعة ؛ منهم عبد الله بن حميد بن قحطبة ، ويحيى بن علي بن ماهان ، ومحمد بن أبي العباس الطوسي ، وكاتبه خلق من الهاشميين والأمراء ، وصارت قلوبهم معه .
واتفق في بعض الأيام أن ظفر أصحاب الأمين ببعض أصحاب طاهر ، فقتلوا منهم طائفة عند قصر صالح ، فلما جرى ذلك بطر الأمين ، وأقبل على اللهو والشرب واللعب ، ووكل الأمور ، وتدبيرها إلى محمد بن عيسى بن نهيك ، ثم قويت شوكة أصحاب طاهر وضعف جانب الأمين جدا ، وانحاز الناس إلى جيش طاهر ، وكان جانبه آمنا جدا ، لا يخاف أحد فيه من سرقة ولا نهب ، ولا [ ص: 96 ] غير ذلك ، وقد احتاز طاهر أكثر محال بغداد وأرباضها ، ومنع الملاحين أن يحملوا طعاما إلى من خالفه ، ليضيق عليهم ، فغلت الأسعار عندهم جدا ، وندم من لم يكن خرج من بغداد قبل ذلك ، ومنعت التجار من القدوم إلى بغداد بشيء من البضائع أو الدقيق ، وصرفت السفن إلى البصرة وغيرها ، وقد جرت بين الفريقين حروب كثيرة ؛ فمن ذلك وقعة درب الحجارة ، كانت لأصحاب قتل فيها خلق من أصحاب محمد الأمين طاهر ، كان الرجل من العيارين والحرافشة من البغاددة يأتي عريانا ، ومعه بارية مقيرة ، وتحت كتفه مخلاة فيها حجارة ، فإذا ضربه الفارس من بعيد بالسهم اتقاه بباريته فلا يؤذيه ، وإذا اقترب منه رماه بحجر في المقلاع فأصابه ، فهزموهم بذلك .
أسر فيها ووقعة الشماسية هرثمة بن أعين فشق ذلك على طاهر ، وأمر بعقد جسر على دجلة فوق الشماسية ، وعبر بنفسه ، ومن معه إلى الجانب الآخر فقاتلهم بنفسه أشد القتال حتى أزالهم عن مواضعهم ، واسترد منهم هرثمة ، وجماعة ممن كانوا أسروهم من أصحابه ، فشق ذلك على وقال في ذلك : محمد الأمين
[ ص: 97 ]
منيت بأشجع الثقلين قلبا إذا ما طال ليس كما يطول
له مع كل ذي بدن رقيب يشاهده ويعلم ما يقول
فليس بمغفل أمرا عنادا إذا ما الأمر ضيعه الغفول
وحج بالناس فيها العباس بن موسى بن عيسى الهاشمي ، ودعا للمأمون .