[ ص: 132 ] أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي
وقد أفردنا له ترجمة مطولة في أول كتابنا " " طبقات الشافعيين " " ، ولنذكر هاهنا ملخصا من ذلك ، وبالله المستعان .
هو الإمام العالم أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي ، القرشي المطلبي ، والسائب بن عبيد أسلم يوم بدر وابنه شافع بن السائب من صغار الصحابة ، وأمه أزدية . وقد رأت حين حملت به كأن المشتري خرج من فرجها حتى انقض بمصر ، ثم وقع في كل بلد منه شظية . وقد ولد الشافعي بغزة ، وقيل : بعسقلان . وقيل : باليمن سنة خمسين ومائة ، ومات أبوه وهو صغير ، فحملته أمه إلى مكة وهو ابن سنتين ، لئلا يضيع نسبه ، فنشأ بها ، وقرأ القرآن وهو ابن سبع سنين ، وحفظ " " الموطأ " " وهو ابن عشر ، وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة ، وقيل : ابن ثماني عشرة سنة . أذن له شيخه مسلم بن خالد الزنجي . وعني باللغة والشعر ، وأقام في هذيل نحوا من عشر سنين ، وقيل : عشرين سنة ، فتعلم منهم لغات العرب وفصاحتها ، وسمع الحديث الكثير على جماعة من المشايخ والأئمة ، وقرأ بنفسه " " الموطأ " " على مالك من حفظه فأعجبته قراءته وهمته ، وأخذ عنه علم الحجازيين بعد أخذه ، عن مسلم [ ص: 133 ] بن خالد الزنجي .
وروى عنه خلق كثير قد ذكرنا أسماءهم مرتبين على حروف المعجم . وقرأ القرآن على إسماعيل بن قسطنطين ، عن شبل ، عن ابن كثير عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن جبريل ، عن الله عز وجل .
وأخذ الفقه عن الشافعي مسلم بن خالد الزنجي ، عن عن ابن جريج عطاء ، عن ابن عباس ، وابن الزبير وغيرهما ، عن جماعة من الصحابة ؛ منهم عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وغيرهم ، كلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتفقه أيضا على وزيد بن ثابت مالك عن مشايخه ، وتفقه به جماعة قد ذكرناهم ومن بعدهم إلى زماننا في مصنف مفرد ، ولله الحمد والمنة .
وقد روى ابن أبي حاتم ، عن أبي بشر الدولابي ، عن محمد بن إدريس وراق الحميدي ، عن عن الحميدي ، أنه ولي الحكم الشافعي بنجران من أرض اليمن ، ثم تعصبوا عليه ووشوا به إلى الرشيد هارون أنه يروم الخلافة ، فحمل على بغل في قيد إلى بغداد فدخلها في سنة أربع وثمانين ومائة وعمره ثلاثون سنة فاجتمع بالرشيد فتناظر هو ومحمد بن الحسن بين يديه ، وأحسن القول فيه محمد بن الحسن ، وتبين للرشيد براءته مما نسب إليه ، وأنزله محمد بن الحسن عنده .
وكان أبو يوسف قد مات قبل ذلك بسنة وقيل : بسنتين وأكرمه [ ص: 134 ] محمد بن الحسن ، وكتب عنه وقر بعير . ثم أطلق له الشافعي الرشيد ألفي دينار وقيل : خمسة آلاف دينار وعاد إلى الشافعي مكة ففرق عامة ما حصل له في أهله وذوي رحمه من بني عمه ، ثم عاد إلى الشافعي بغداد في سنة خمس وتسعين ومائة فاجتمع به جماعة من العلماء هذه المرة ؛ منهم أحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، والحسين بن علي الكرابيسي ، والحارث بن سريج النقال ، وأبو عبد الرحمن الشافعي ، والزعفراني وغيرهم . ثم رجع إلى مكة .
ورجع إلى بغداد أيضا سنة ثمان وتسعين ومائة ، ثم انتقل منها إلى مصر فأقام بها إلى أن مات في هذه السنة ؛ سنة أربع ومائتين ، كما سيأتي . وصنف بها كتابه " " الأم " " ، وهو من كتبه الجديدة ؛ لأنها من رواية الربيع بن سليمان وهو مصري . وقد زعم إمام الحرمين وغيره أنها من القديم . وهذا بعيد وعجيب من مثله ، والله أعلم .
وقد أثنى على غير واحد من كبار الأئمة ، منهم الشافعي عبد الرحمن بن مهدي وسأله أن يكتب له كتابا في الأصول فكتب له " " الرسالة " " ، وكان يدعو له في الصلاة دائما ، وشيخه مالك بن أنس وقال : هو إمام ، وقتيبة بن سعيد وسفيان بن عيينة ، وكان يدعو له أيضا في صلاته . ويحيى بن سعيد القطان ، وأبو عبيد وقال : ما رأيت أفصح ولا أعقل ولا أورع من [ ص: 135 ] الشافعي ، ويحيى بن أكثم القاضي ، وإسحاق بن راهويه ، ومحمد بن الحسن ، وغير واحد ممن يطول ذكرهم وشرح أقوالهم .
وكان يدعو له في صلاته نحوا من أربعين سنة ، وكان أحمد بن حنبل أحمد يقول في الحديث الذي رواه أبو داود ، من طريق عن عبد الله بن وهب ، عن سعيد بن أبي أيوب ، شراحيل بن يزيد ، عن أبي علقمة ، عن عن النبي صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة ، قال : إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها فعمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى ، على رأس المائة الثانية . وقال والشافعي : حدثنا أبو داود الطيالسي جعفر بن سليمان ، عن النضر بن معبد الكندي أو العبدي ، عن الجارود ، عن أبي الأحوص عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عبد الله بن مسعود لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما ، اللهم إنك أذقت أولها عذابا - أو وبالا - فأذق آخرها نوالا .
وهذا غريب من هذا الوجه ، وقد رواه في " " مستدركه " " ، عن الحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . قال أبي هريرة ، أبو نعيم ، عبد الملك بن محمد الإسفراييني : لا ينطبق هذا إلا على . حكاه [ ص: 136 ] محمد بن إدريس الشافعي الخطيب . وقال عن يحيى بن معين : هو صدوق لا بأس به . وقال مرة : لو كان الكذب له مطلقا لكانت مروءته تمنعه أن يكذب . وقال الشافعي ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : فقيه البدن ، صدوق اللسان . وحكى بعضهم عن الشافعي أبي زرعة أنه قال : ما عند حديث غلط فيه . وحكي عن الشافعي أبي داود نحوه .
وقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة ، وقد سئل : هل سنة لم تبلغ الشافعي ؟ فقال : لا . ومعنى هذا أنها تارة تبلغه بسندها ، وتارة مرسلة ، وتارة منقطعة ، كما هو الموجود في كتبه ، والله أعلم .
وقال حرملة : سمعت يقول : سميت الشافعي ببغداد ناصر السنة . وقال أبو ثور : ما رأينا مثل ولا رأى هو مثل نفسه . وكذا قال الشافعي ، الزعفراني وغيره .
وقال في كتاب جمعه في فضائل داود بن علي الظاهري : الشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره ؛ من شرف نسبه ، وصحة دينه ، [ ص: 137 ] ومعتقده ، وسخاوة نفسه ، ومعرفته بصحة الحديث وسقمه وناسخه ومنسوخه ، وحفظه الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء ، وحسن التصنيف ، وجودة الأصحاب والتلامذة ، مثل للشافعي في زهده وورعه ، وإقامته على السنة . ثم سرد أعيان أصحابه من البغاددة والمصريين . وكذا عد أحمد بن حنبل أبو داود من جملة تلاميذه في الفقه . أحمد بن حنبل
وقد كان رحمه الله من أعلم الناس بمعاني القرآن والسنة ، وأشد الناس انتزاعا للدلائل منهما ، وكان من أحسن الناس قصدا وإخلاصا ، كان يقول : وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ، ولا ينسب إلي شيء منه أبدا ، فأؤجر عليه ولا يحمدوني . وقد قال غير واحد عنه : إذا صح عندكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقولوا به ودعوا قولي فإني أقول به ، وإن لم تسمعوه مني . وفي رواية : فلا تقلدوني . وفي رواية : فلا تلتفتوا إلى قولي . وفي رواية : فاضربوا بقولي عرض الحائط ، فلا قول لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال : لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من [ ص: 138 ] الأهواء . وفي رواية : خير له من أن يلقاه بعلم الكلام . وقال : لو علم الناس ما في علم الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد . وقال أيضا : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ، ويطاف بهم في القبائل وينادى عليهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على علم الكلام .
وقال البويطي : سمعت يقول : عليكم بأصحاب الحديث ؛ فإنهم أكثر الناس صوابا . الشافعي
وكان يقول : إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث ، فكأنما رأيت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جزاهم الله خيرا ، حفظوا لنا الأصل ، فلهم علينا الفضل . ومن شعره في هذا المعنى قوله :
كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا
وما سوى ذاك وسواس الشياطين
وقد روى عنه الربيع وغير واحد من رءوس أصحابه ما يدل على أنه كان [ ص: 139 ] يمر بآيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف ، على طريقة السلف . وقال : أنشدني ابن خزيمة المزني ، قال : أنشدنا لنفسه : الشافعي
ما شئت كان وإن لم أشأ وما شئت إن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت ففي العلم يجري الفتى والمسن
فمنهم شقي ومنهم سعيد ومنهم قبيح ومنهم حسن
على ذا مننت وهذا خذلت وهذا أعنت وذا لم تعن
وعن الربيع قال : أنشدني : الشافعي
قد عوج الناس حتى أحدثوا بدعا في الدين بالرأي لم تبعث بها الرسل
حتى استخف بحق الله أكثرهم وفي الذي حملوا من حقه شغل
وقد كانت وفاته بمصر يوم الخميس ، وقيل : يوم الجمعة ، في آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين ، عن أربع وخمسين سنة . وكان أبيض جميلا طويلا مهيبا ، يخضب بالحناء مخالفة للشيعة ، رحمه الله وأكرم مثواه ، وجعل الجنة مأواه .
وممن توفي فيها أيضا من الأعيان :
إسحاق بن الفرات . ، وأشهب بن عبد العزيز المصري المالكي والحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي الحنفي . وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي . صاحب المسند وأحد الحفاظ . بدر شجاع بن الوليد . وأبو وأبو بكر الحنفي عبد الكبير . وعبد الوهاب بن عطاء الخفاف . ، والنضر بن [ ص: 141 ] شميل أحد أئمة اللغة . ، وهشام بن محمد بن السائب الكلبي أحد علماء التاريخ .