هو عبد الله المأمون بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، القرشي الهاشمي العباسي ، أبو جعفر ، أمير المؤمنين . وأمه أم ولد اسمها مراجل الباذغيسية ، وكان مولده في ربيع الأول سنة سبعين ومائة ليلة توفي عمه الهادي ، وولي أبوه وكان ذلك ليلة الجمعة كما تقدم هارون الرشيد
قال : روى الحديث عن أبيه ، ابن عساكر وهشيم بن بشر ، وأبي معاوية الضرير ، ويوسف بن عطية ، وعباد بن العوام ، وإسماعيل بن علية ، . وحجاج بن محمد الأعور
[ ص: 215 ] وروى عنه أبو حذيفة إسحاق بن بشر وهو أسن منه ويحيى بن أكثم القاضي ، وابنه الفضل بن المأمون ، ومعمر بن شبيب ، وأبو يوسف القاضي ، وجعفر بن أبي عثمان الطيالسي ، وأحمد بن الحارث الشيعي ، واليزيدي ، وعمرو بن مسعدة ، وعبد الله بن طاهر بن الحسين ، ومحمد بن إبراهيم السلمي ،
قال : وقدم ودعبل بن علي الخزاعي . دمشق دفعات ، وأقام بها مدة .
ثم روى من طريق ابن عساكر حدثنا أبي القاسم البغوي ، قال : سمعت أحمد بن إبراهيم الموصلي المأمون في الشماسية ، وقد أجرى الحلبة ، فجعل ينظر إلى كثرة الناس ، فقال ليحيى بن أكثم : أما ترى كثرة الناس ؟ ثم قال : حدثنا يوسف بن عطية ، عن ثابت ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله [ ص: 216 ] ومن حديث أبي بكر الميانجي ، عن الحسين بن أحمد المالكي ، عن عن يحيى بن أكثم القاضي ، المأمون عن هشيم ، عن منصور ، عن الحسن ، عن أبي بكرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : . الحياء من الإيمان
ومن حديث جعفر بن أبي عثمان الطيالسي أنه صلى العصر يوم عرفة خلف المأمون بالرصافة ، فلما سلم كبر الناس ، فجعل يقول : لا يا غوغاء ، لا يا غوغاء ، عدا سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم . فلما كان الغد صعد المنبر فكبر ، ثم قال : أنبأ هشيم بن بشير ، ثنا ابن شبرمة عن الشعبي ، عن عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : أبي بردة بن نيار الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، اللهم أصلحني ، واستصلحني ، وأصلح على يدي . من ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم قدمه لأهله ، ومن ذبح بعد أن يصلي فقد أصاب السنة
[ ص: 217 ] تولى المأمون الخلافة في المحرم لخمس بقين منه بعد مقتل أخيه سنة ثمان وتسعين ومائة ، واستمر في الخلافة عشرين سنة وخمسة أشهر . وقد كان فيه تشيع واعتزال ، وجهل بالسنة الصحيحة ، وقد بايع في سنة إحدى ومائتين بولاية العهد من بعده وخلع السواد ولبس الخضرة كما قدمنا ، فأعظم ذلك العباسيون من البغاددة ، وغيرهم ، وخلعوا لعلي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب ، المأمون وولوا عليهم إبراهيم بن المهدي كما تقدم ثم ظفر المأمون بهم ، واستقام أمره في الخلافة ، وذلك بعد موت علي الرضا بطوس ، وعفا عن عمه إبراهيم بن المهدي كما تقدم بسط ذلك في موضعه .
أما كونه على مذهب الاعتزال ؛ فإنه اجتمع بجماعة ؛ منهم فأخذ عنهم هذا المذهب الباطل ، وكان يحب العلم ، ولم يكن له بصيرة نافذة فيه ، فدخل عليه بسبب ذلك الداخل ، وراج عنده [ ص: 218 ] الباطل ، ودعا إليه وحمل الناس قهرا عليه ، وذلك في آخر أيامه وانقضاء دولته . بشر بن غياث المريسي ،
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : كان المأمون أبيض ربعة حسن الوجه ، قد وخطه الشيب تعلوه صفرة ، أعين طويل اللحية رقيقها ، ضيق الجبين ، على خده خال . أمه أم ولد يقال لها : مراجل .
وروى عن الخطيب البغدادي القاسم بن محمد بن عباد ، قال : لم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء غير عثمان بن عفان والمأمون .
وهذا غريب جدا . قالوا : كان يتلو في شهر رمضان ثلاثا وثلاثين ختمة .
وجلس يوما لإملاء الحديث ، فاجتمع حوله القاضي وجماعة ، فأملى عليهم من حفظه ثلاثين حديثا ، وكانت له بصيرة بعلوم متعددة ؛ من فقه ، وطب ، وشعر ، وفرائض ، وكلام ، ونحو ، وعربية ، [ ص: 219 ] وغريب ، وعلم النجوم ، وإليه ينسب الزيج المأموني ، وقد اختبر مقدار الدرجة في وطأة سنجار فاختلف عمله وعمل الأوائل من القدماء . يحيى بن أكثم
وروى أن ابن عساكر المأمون جلس يوما للناس ، وفي مجلسه العلماء والأمراء ، فجاءت امرأة تتظلم إليه ، فذكرت أن أخاها توفي ، وترك ستمائة دينار ، فلم يحصل لها سوى دينار واحد . فقال لها على البديهة : قد وصل إليك حقك ، كأن أخاك قد ترك بنتين ، وأما ، وزوجة ، واثني عشر أخا ، وأختا وهي أنت . قالت : نعم يا أمير المؤمنين . فقال : للبنتين الثلثان أربعمائة دينار ، وللأم السدس مائة دينار ، وللزوجة الثمن خمسة وسبعون دينارا ، يبقى خمسة وعشرون دينارا ؛ لكل أخ ديناران ، ولك دينار . فعجب الناس من فطنته وسرعة جوابه . وقد رويت هذه الحكاية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
ودخل بعض الشعراء على المأمون وقد قال فيه بيتا من الشعر يراه [ ص: 220 ] عظيما ، فلما أنشده إياه لم يقع منه هذا البيت موقعا طائلا ، فخرج من عنده ، فلقيه شاعر آخر ، فقال : ألا أعجبك ؟ أنشدت المأمون هذا البيت فلم يرفع به رأسا . فقال : وما هو ؟ قال : قلت فيه :
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا بالدين والناس بالدنيا مشاغيل
فقال له ذلك الشاعر الآخر : ما زدت على أن جعلته عجوزا في محرابها ، فهلا قلت كما قال جرير في عبد العزيز بن الوليد :فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
إذا اختبر الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في لباس صديق
تهون على الدنيا الملامة إنه حريص على استصلاحها من يلومها
أرى كل مغرور تمنيه نفسه إذا ما مضى عام سلامة قابل
وروى من طريق ابن عساكر النضر بن شميل قال : دخلت على المأمون فقال : كيف أصبحت يا نضر ؟ قلت : بخير يا أمير المؤمنين . فقال : ما الإرجاء ؟ فقلت : دين يوافق الملوك ، يصيبون به من دنياهم ، وينقصون من دينهم . قال : صدقت . ثم قال : يا نضر ، أتدري ما قلت في صبيحة هذا اليوم ؟ قلت : [ ص: 222 ] أنى لي بعلم الغيب ؟ فقال : قلت :
أصبح ديني الذي أدين به ولست منه الغداة معتذرا
حب علي بعد النبي ولا أشتم صديقا ولا عمرا
ثم ابن عفان في الجنان مع ال أبرار ذلك القتيل مصطبرا
لا ولا أشتم الزبير ولا طلحة إن قال قائل غدرا
وعائش الأم لست أشتمها من يفتريها فنحن منه برا
وقد روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : [ ص: 223 ] لا أوتى بأحد فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري . وتواتر عنه أنه قال : خير الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، ثم عمر ثم عثمان .
فقد خالف في مذهبه الصحابة كلهم ، حتى المأمون بن الرشيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وقد أضاف المأمون إلى بدعته هذه التي أزرى فيها على المهاجرين والأنصار وخالفهم في ذلك ، البدعة الأخرى ، والطامة العظمى ، وهي القول بخلق القرآن مع ما فيه من الانهماك على تعاطي المسكر ، وغير ذلك من الأفعال التي تعدد فيها المنكر ، ولكن كان فيه شهامة عظيمة ، وقوة جسيمة وله همة في القتال ، وحصار الأعداء ، ومصابرة الروم ، وحصرهم في بلدانهم ، وقتل فرسانهم ، وأسر ذراريهم وولدانهم . وكان يقول : كان معاوية بعمره ، وعبد الملك بحجاجه ، وأنا بنفسي .
وكان يقصد العدل ، ويتولى بنفسه الحكم بين الناس والفصل ؛ جاءته امرأة ضعيفة فتظلمت على ابنه العباس وهو واقف على رأسه ، فأمر الحاجب [ ص: 224 ] فأخذه بيده فأجلسه معها بين يديه ، فادعت عليه أنه أخذ ضيعة لها واستحوذ عليها ، فتناظرا ساعة فجعل صوتها يعلو على صوته فزجرها بعض الحاضرين ، فقال له المأمون : اسكت فإن الحق أنطقها ، والباطل أسكته . ثم حكم لها بحقها وأغرم لها ولده بعشرة آلاف درهم ، وكتب إلى بعض الأمراء : ليس من المروءة أن يكون آنيتك من ذهب وفضة ، وغريمك عار ، وجارك طاو .
ووقف رجل بين يديه ، فقال له المأمون : والله لأقتلنك . فقال له : يا أمير المؤمنين ، تأن علي فإن الرفق نصف العفو . فقال : ويلك ويحك! قد حلفت لأقتلنك . فقال : يا أمير المؤمنين ، أن تلق الله حانثا خير من أن تلقاه قاتلا . فعفا عنه . وكان يقول : ليت أهل الجرائم يعرفون أن مذهبي العفو ، حتى يذهب الخوف عنهم ويدخل السرور إلى قلوبهم ، وركب يوما في حراقة فسمع ملاحا يقول لأصحابه : ترون هذا المأمون ينبل في عيني ، وقد قتل أخاه الأمين ؟ يقول ذلك ، وهو لا يشعر بمكان المأمون فجعل المأمون يتبسم ويقول : كيف ترون الحيلة حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل ؟
وحضر عند المأمون هدبة بن خالد ليتغدى عنده ، فلما رفعت المائدة جعل هدبة يلتقط ما تناثر منها ، فقال له المأمون : أما شبعت يا شيخ ؟ فقال بلى ، [ ص: 225 ] ولكن حدثني حماد بن سلمة عن ثابت ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أكل ما تحت مائدته أمن من الفقر قال : فأمر له المأمون بألف دينار .
وروى أن ابن عساكر المأمون قال يوما لمحمد بن عباد بن عباد بن المهلب : يا أبا عبد الله ، قد أعطيتك ألف ألف ، وألف ألف ، وألف ألف ، وأن عليك دينا . فقال : يا أمير المؤمنين ، إن منع الموجود سوء ظن بالمعبود . فقال : أحسنت يا أبا عبد الله ، أعطوه ألف ألف وألف ألف .
ولما أراد المأمون أن يدخل ببوران بنت الحسن بن سهل ، جعل الناس يهدون لأبيها الأشياء النفيسة ، وكان من جملة من يعتز به رجل من الأدباء ، فأهدى إليه مزودا فيه ملح طيب ، ومزودا فيه أشنان جيد ، وكتب إليه : إني كرهت أن تطوى صحيفة أهل البر ولا أذكر فيها فوجهت إليك بالمبتدأ به ، ليمنه ، وبركته ، وبالمختوم به ، لطيبه ونظافته ، وكتب إليه :
بضاعتي تقصر عن همتي وهمتي تقصر عن مالي
فالملح والأشنان يا سيدي أحسن ما يهديه أمثالي
وولد للمأمون ابنه جعفر فدخل عليه الناس يهنئونه بصنوف التهاني ، ودخل عليه بعض الشعراء ، فقال له يهنئه بولده :
مد لك الله الحياة مدا حتى ترى ابنك هذا جدا
ثم يفدي مثل ما تفدى كأنه أنت إذا تبدى
أشبه منك قامة وقدا مؤزرا بمجده مردا
وقدم عليه ، وهو بدمشق مال جزيل بعد ما كان قد أفلس وشكى إلى أخيه المعتصم ذلك ، فوردت عليه خزائن من خراسان وبها ثلاثون ألف ألف درهم ، فخرج يستعرضها وقد زينت الجمال والأحمال ومعه القاضي ، فلما دخلت البلد ، قال : ليس من المروءة أن نحوز نحن هذا كله ، والناس ينظرون . ثم فرق منه أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب لم ينزل عن فرسه . يحيى بن أكثم
ومن لطيف شعره قوله :
لساني كتوم لأسراركم ودمعي نموم لسري مذيع
[ ص: 227 ] فلولا دموعي كتمت الهوى ولولا الهوى لم تكن لي دموع
بعثتك مشتاقا ففزت بنظرة وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا
وناجيت من أهوى وكنت مقربا فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى
ورددت طرفا في محاسن وجهها ومتعت باستسماع نغمتها أذنا
أرى أثرا في صحن خدك لم يكن لقد سرقت عيناك من حسنها حسنا
قد قال مأموننا وسيدنا قولا له في الكتاب تصديق
إن عليا أعني أبا حسن أفضل من أرقلت به النوق
[ ص: 228 ] بعد نبي الهدى وإن لنا أعمالنا والقرآن مخلوق
يا أيها الناس لا قول ولا عمل لمن يقول كلام الله مخلوق
ما قال ذاك أبو بكر ولا عمر ولا النبي ولم يذكره صديق
ولم يقل ذاك إلا كل مبتدع على الإله وعند الله زنديق
عمدا أراد به إمحاق دينكم لأن دينهم والله ممحوق
أصح يا قوم عقلا من خليفتكم يمسي ويصبح في الأغلال موثوق
ولما تجهز المأمون للغزو في آخر سفرة سافرها إلى طرسوس استدعى بجارية كان يحبها ، وقد اشتراها في آخر عمره ، فضمها إليه ، فبكت الجارية وقالت : قتلتني يا أمير المؤمنين بسفرك هذا ، ثم أنشأت تقول :
سأدعو دعوة المضطر ربا يثيب على الدعاء ويستجيب
[ ص: 229 ] لعل الله أن يكفيك حربا ويجمعنا كما تهوى القلوب
فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها وإذ هي تذري الدمع منها الأنامل
صبيحة قالت في العتاب قتلتني وقتلي بما قالت هناك تحاول
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم دون النساء ولو باتت بأطهار
إن الزمان سقانا من مرارته بعد الحلاوة أنفاسا فأروانا
أبدى لنا تارة منه فأضحكنا ثم انثنى تارة أخرى فأبكانا
إنا إلى الله فيما لا يزال بنا من القضاء ومن تلوين دنيانا
دنيا تراها ترينا من تصرفها ما لا يدوم مصافاة وأحزانا
ونحن فيها كأنا لا يزايلنا للعيش أحياؤنا يبكون موتانا
وقد قال أبو سعيد المخزومي :
ما رأيت النجوم أغنت عن المأ مون في عز ملكه المأسوس
خلفوه بعرصتي طرسوس مثل ما خلفوا أباه بطوس
وقد ذكر ابن جرير للمأمون ترجمة حافلة ، أورد فيها أشياء كثيرة لم يذكرها الحافظ مع كثرة ما يورده ، وفوق كل ذي علم عليم . ابن عساكر