فيها كانت وفاة العاضد صاحب مصر
في أول جمعة منها ، أمر سنة سبع وستين وخمسمائة صلاح الدين بإقامة الخطبة لبني العباس بمصر ، وفي الجمعة الثانية بالقاهرة ، وكان ذلك يوما مشهودا ، ولما انتهى الخبر إلى الملك نور الدين بالشام ، أرسل إلى الخليفة يعلمه بذلك مع ابن أبي عصرون شهاب الدين أبي المعالي المطهر ، فزينت بغداد وغلقت الأسواق وعملت القباب وفرح المسلمون فرحا شديدا ، وكانت الخطبة قد قطعت من ديار مصر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة في خلافة المطيع العباسي حين تغلب الفاطميون عليها أيام المعز الفاطمي باني القاهرة إلى هذا الأوان ، وذلك مائتا سنة وثمان سنين ، قال : وقد ألفت في ذلك كتابا سميته النصر على ابن الجوزي مصر
العاضد آخر خلفاء العبيديين موت
والعاضد في اللغة القاطع ( لا يعضد شجرها ) لا يقطع وبه قطعت دولتهم [ ص: 451 ] واسمه عبد الله ويكنى بأبي محمد بن يوسف الحافظ بن محمد بن المستنصر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي أول ملوكهم ، كان مولد العاضد في سنة ست وأربعين ، فعاش إحدى وعشرين سنة ، وكانت سيرته مذمومة ، وكان شيعيا خبيثا ، لو أمكنه قتل كل من قدر عليه من أهل السنة ، واتفق أنه لما استقر أمر الملك صلاح الدين رسم بالخطبة لبني العباس عن مرسوم الملك نور الدين له بذلك لمعاتبة الخليفة المستنجد إياه قبل وفاته ، وكان المستنجد إذ ذاك مدنفا مريضا ، فلما مات تولى بعده ولده فكانت الخطبة بمصر له ، ثم إن العاضد مرض فكانت وفاته في يوم عاشوراء فحضر الملك صلاح الدين جنازته ، وشهد عزاءه ، وبكى عليه وتأسف وظهر منه حزن ، وقد كان مطيعا له فيما يأمره به ، وكان العاضد كريما جوادا ممدحا سامحه الله تعالى ، ولما مات استحوذ صلاح الدين على القصر بما فيه وأخرج منه أهل العاضد إلى دار أفردها لهم وأجرى عليهم الأرزاق والنفقات الهنية والعيشة الرضية ; عوضا عما فاتهم من الخلافة ، وكان يتندم على إقامة الخطبة لبني العباس بمصر قبل وفاته وهلا صبر بها إلى بعد مماته ، ولكن كان ذلك قدرا مقدورا وفي الكتاب مسطورا ، ومما نظمه العماد في ذلك :
توفي العاضد الدعي فما يفتح ذو بدعة بمصر فما [ ص: 452 ] وعصر فرعونها انقضى وغدا
يوسفها في الأمور محتكما وانطفأت جمرة الغواة وقد
باخ من الشرك كل ما اضطرما وصار شمل الصلاح ملتئما
بها وعقد السداد منتظما لما غدا معلنا شعار بني ال
عباس حقا والباطل اكتتما وبات داعي التوحيد منتصرا
ومن دعاة الإشراك منتقما وظل أهل الضلال في ظلل
داجية من غيابة وعمى وارتبك الجاهلون في ظلم
لما أضاءت منابر العلما وعاد بالمستضيء ممتهدا
بناء حق قد كان منهدما واعتلت الدولة التي اضطهدت
وانتصر الدين بعدما اهتضما واهتز عطف الإسلام من جذل
وافتر ثغر الإسلام وابتسما واستبشرت أوجه الهدى فرحا
فليقرع الكفر سنه ندما عاد حريم الأعداء منتهك ال
حمى وفيء الطغاة مقتسما قصور أهل القصور أخربها
عامر بيت من الكمال سما [ ص: 453 ] أزعج بعد السكون ساكنها
ومات ذلا وأنفه رغما
ليهنك يا مولاي فتح تتابعت إليك به خوص الركائب توجف
أخذت به مصرا وقد حال دونها من الشرك بأس في لهى الحق يقذف
فعادت بحمد الله باسم إمامنا تتيه على كل البلاد وتشرف
ولا غرو أن ذلت ليوسف مصره وكانت إلى عليائه تتشوف
يشابهه خلقا وخلقا وعفة وكل عن الرحمن في الأرض يخلف
كشفت بها عن آل هاشم سبة وعارا أبى إلا بسيفك يكشف
وسكن أكثر الأمراء في دور من كان ينتمي إلى الفاطميين ، ولا يلقى أحد من الأتراك أحدا من أولئك الذين كانوا بها إلا شلحوا ثيابه ، ونهبوا داره ، حتى تمزق كثير منهم في البلاد وتفرقوا شذر مذر ، وصاروا أيادي سبا ، وقد كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسرا ، فصاروا [ ص: 456 ] كأمس الذاهب وكأن لم يغنوا فيها ، وكان أول من ملك منهم المهدي ، وكان من سلمية حدادا اسمه سعيد ، وكان يهوديا فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله ، وادعى أنه شريف علوي فاطمي ، وقال : إنه المهدي ، وقد ذكر هذا غير واحد من سادات العلماء الكبراء كالقاضي والشيخ أبي بكر الباقلاني أبي حامد الإسفراييني وغير واحد من سادات الأئمة بعد الأربعمائة كما قد بسطنا ذلك فيما تقدم ، والمقصود أن هذا الدعي الكذاب راج له ما افتراه في تلك البلاد ، ووازره جماعة من جهلة العباد ، وصارت له دولة وصولة ، ثم تمكن إلى أن بنى مدينة سماها المهدية نسبة إليه ، وصار ملكا مطاعا ، يظهر الرفض وينطوي على الكفر المحض
ثم كان من بعده ابنه محمد ، ثم المنصور المعز وهو أول من دخل ديار مصر منهم وبنيت له القاهرة ، ثم العزيز ثم ثم الحاكم الظاهر ثم المستنصر ثم المستعلي ثم الآمر ثم الحافظ ثم الظافر ثم الفائز ثم العاضد ، وهو آخرهم ، فجملتهم أربعة عشر ملكا ، ومدتهم مائتان ونيف وثمانون سنة ، وكذلك عدة خلفاء بنى أمية أربعة عشر أيضا ; ولكن كانت مدتهم نيفا وتسعين سنة ، وقد نظمت أسماء هؤلاء بأرجوزة تابعة لأرجوزة بني العباس عند انقضاء دولتهم ببغداد في سنة ست وخمسين وستمائة كما سيأتي ، وقد كان الفاطميون أغنىالخلفاء ، وأكثرهم مالا وكانوا من أعتى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم ، وأنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة ; ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات ، وكثر أهل الفساد ، [ ص: 457 ] وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد ، وكثر بأرض الشام النصيرية والدرزية والحشيشية ، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكماله ; حتى أخذوا القدس ونابلس وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك الشوبك وطبرية وبانياس وصور وعثليث وصيدا وبيروت وعكا وصفد وطرابلس وأنطاكية وجميع ما والى ذلك إلى بلاد آياس وسيس ، واستحوذوا على بلاد آمد والرها ورأس العين وبلاد شتى غير ذلك ، وقتلوا خلقا لا يعلمهم إلا الله ، وسبوا ذراري المسلمين من النساء والولدان ما لا يحد ولا يوصف ، وكادوا أن يتغلبوا على دمشق ولكن صانها الله بعنايته وسلمها برعايته ، وحين زالت أيامهم وانتقض إبرامهم أعاد الله هذه البلاد كلها إلى أهلها من السادة المسلمين ، ورد الله الكفرة خائبين ، وأركسهم بما كسبوا في الدنيا ويوم الدين ، وقد قال الشاعر المعروف المدعو بعرقلة
أصبح الملك بعد آل علي مشرقا بالملوك من آل شاذي
وغدا الشرق يحسد الغرب للقو م فمصر تزهو على بغداذ
ما حووها إلا بحزم وعزم وصليل الفولاذ في الفولاذ
[ ص: 458 ] لا كفرعون والعزيز ومن كا ن بها كالخطيب والأستاذ
وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في بني أيوب يمدحهم على ما فعلوه [ ص: 459 ] بديار مصر :
ألستم مزيلي دولة الكفر من بني عبيد بمصر إن هذا هو الفضل
زنادقة شيعية باطنية مجوس وما في الصالحين لهم أصل
يسرون كفرا يظهرون تشيعا ليستتروا شيئا وعمهم الجهل