ذكر في هذه السنة فتح بيت المقدس
واستنقاذه من أيدي النصارى بعد اثنتين وتسعين سنة
لما افتتح السلطان ما حول بيت المقدس من الأماكن المباركة وما يقرب من تلك السواحل المتقدم ذكرها والإشارة إليها ، أمر العساكر فاجتمعت والجيوش المتفرقة في البلدان فائتلفت ، وسار نحو بيت المقدس الشريف يوم الأحد ، في الخامس عشر من رجب من هذه السنة - أعني سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة - فنزل غربي بيت المقدس وقد حصنت الفرنج ، - لعنهم الله - الأسوار بالمقاتلة ، وكانوا ستين ألف مقاتل ، دون بيت المقدس أو يزيدون وما كانوا أولياءه [ ص: 586 ] إن أولياؤه إلا المتقون [ الأنفال : 34 ] وكان صاحب البلد يومئذ رجلا يقال له : باليان بن بازران . ومعه من سلم من وقعة حطين يوم التقى الجمعان ، من الداوية والإسبتارية أتباع الشيطان ، عليهم لعائن الله أجمعين ، فأقام السلطان بمنزله المذكور خمسة أيام ، وسلم إلى كل طائفة من جيشه المنصور ناحية من أبرجة السور ، ثم تحول إلى ناحية الشمال ; لأنه رآها أوسع وأنسب للمجال ، والجلاد والنزال ، وقاتل الفرنج دون البلد قتالا هائلا ، وبذلوا في نصرة قمامة والقيامة بذلا هائلا ، واستشهد بعض أمراء المسلمين إلى رحمة رب العالمين ، فحنق عند ذلك كثير من أمراء الإسلام ، واجتهدوا في القتال بكل خطي وحسام ، وقد نصبت المجانيق والعرادات ، وغنت السيوف وعملت السمهريات ، والعيون تنظر إلى الصلبان وهي منصوبة فوق الجدران ، حتى فوق قبة الصخرة قبلة أهل الأديان من قديم الأزمان ، فزاد ذلك أهل الإيمان الحنق الكثير وشدة التشمير ، فوجد يوم عسير على الكافرين غير يسير ، فبادر السلطان أيده الله بأصحابه إلى الزاوية الشرقية الشمالية من السور فنقبها وعلقها وحشاها بالنيران وأحرقها ، فسقط ذلك الجانب ، وخر البرج برمته ، فإذا هو واجب ، فلما شاهد الفرنج ذلك الحادث المقطع ، والخطب المؤلم لهم الموجع ، قصد أكابرهم السلطان وتشفعوا إليه بكل إنسان أن يعطيهم الأمان ، فامتنع وقال : لا أفتحها إلا كما افتتحتموها عنوة ، ولا أترك بها أحدا من النصارى إلا قتلته كما قتلتم أنتم من كان بها من المسلمين ، فطلب صاحبها باليان بن بازران من السلطان الأمان ليحضر عنده فأمنه ، فلما حضر ترقق له ، وتشفع إليه بكل ما أمكنه ، فلم يجبه [ ص: 587 ] إلى الأمان لهم ، فقالوا : لئن لم تعطنا الأمان رجعنا فقتلنا كل أسير من المسلمين بأيدينا - وهم قريب من أربعة آلاف - وقتلنا ذرارينا ، وخربنا الدور والأماكن الحسنة ، وأتلفنا ما بأيدينا من الأموال ، وألقينا قبة الصخرة ، ولا نبقي ممكنا في إتلاف ما نقدر عليه ، وبعد ذلك نقاتل قتال الموت ، فلا يقتل واحد منا حتى يقتل أعدادا منكم ، فماذا ترتجي بعد هذا من الخير ؟
فلما سمع السلطان ذلك أجاب إلى الصلح ، على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير ، وعن المرأة خمسة دنانير ، وعن كل صغير وصغيرة دينارين ، ومن عجز عن ذلك كان أسيرا للمسلمين ، وأن تكون الغلات والأسلحة والدور للمسلمين ، ويتحولوا منها إلى مأمنهم وهي مدينة صور . فكتب الصلح على ذلك ، ومن لا يبذل ما شرط عليه إلى أربعين يوما فهو أسير ، فكان جملة من أسر بهذا الشرط ستة عشر ألف إنسان ; من رجال ونساء وولدان ، ودخل السلطان والمسلمون البلد يوم الجمعة قبيل وقت الصلاة بقليل ، وذلك يوم السابع والعشرين من رجب ، قال العماد : وهي ليلة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إلى السماوات العلا . قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة : وهو أحد الأقوال في الإسراء ، والله تعالى أعلم . ولم يتفق للمسلمين صلاة الجمعة يومئذ ، خلافا لمن زعم أنها أقيمت يومئذ ، وأن السلطان خطب بنفسه بالسواد يومئذ ، والصحيح أن الجمعة لم يمكن إقامتها يومئذ لضيق الوقت ، وإنما أقيمت في الجمعة المقبلة ، وكان الخطيب القاضي محيي الدين محمد بن علي ، القرشي بن الزكي ، كما سيأتي قريبا .
[ ص: 588 ] ولكن نظف المسجد الأقصى يومئذ مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير ، وخربت دور للداوية وكانوا قد بنوها غربي المحراب الكبير ، واتخذوا المحراب حشا - لعنهم الله تعالى - فنظف المسجد من ذلك كله ، وأعيد إلى ما كان عليه في الأيام الإسلامية والدولة المحمدية وغسلت الصخرة بالماء الطاهر ، وأعيد غسلها بماء الورد الفاخر ، وأبرزت للناظرين ، وقد كانت مغمورة مستورة محجوبة عن الزائرين ، ووضع الصليب المنصوب عن قبتها ، وعادت إلى حرمتها ، وقد كان الفرنج قطعوا منها قطعا فباعوها إلى ملوك البحور بزنتها من الذهب ، فتعذر استعادة ما نقص منها وما ذهب .
وقبض من الفرنج ما كانوا بذلوه عن أنفسهم من الأموال ، وأطلق السلطان خلقا منهم من بنات الملوك بمن معهن من النساء والرجال ، ووقعت المسامحة في كثير منهم ، وشفع في أناس فعفي عنهم ، وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر ، ولم يدع منه شيئا مما يقتنى ويدخر . وكان رحمه الله حليما كريما مقداما شجاعا رحيما ، أسأل الله تعالى أن يجدد رحمته عليه ، وأن يقبل بوجهه الكريم إليه .