فيها محيي الدين بن الجوزي محتسب بغداد بإزالة المنكرات وكسر الملاهي ، ففعل ذلك هذه السنة ، ولله الحمد والمنة . أمر الشيخ
وجنوده وعبورهم نهر جيحون جنكزخان ظهور
وفيها عبرت التتار نهر جيحون صحبة ملكهم من بلادهم ، وكانوا يسكنون جنكزخان جبال طمغاج من أرض الصين ، ولغتهم مخالفة للغة سائر التتار ، وهم من أشجعهم وأصبرهم على القتال ، نهر جيحون أن وسبب دخولهم بعث تجارا له ، ومعهم أموال كثيرة إلى بلاد جنكزخان خوارزم شاه يتبضعون له ثيابا للكسوة ، فكتب نائبها إلى خوارزم شاه يذكر له ما معهم من كثرة الأموال ، فأرسل إليه بقتلهم ، وبأخذ ما معهم ، ففعل ذلك ، فغضب عند ذلك وأرسل يتهدد جنكزخان خوارزم شاه ، فأشار من أشار على خوارزم شاه بالمسير إليهم ، فسار إليهم وهم في شغل بقتال كشلي خان ، فنهب خوارزم شاه أموالهم ، وسبى ذراريهم وأطفالهم ، فأقبلوا إليه محروبين ، فاقتتلوا معه أربعة أيام قتالا لم يسمع بمثله ، أولئك يقاتلون عن حريمهم ، والمسلمون عن أنفسهم ، يعلمون أنهم متى ولوا استأصلوهم ، فقتل من [ ص: 80 ] الفريقين خلق كثير ، حتى إن الخيول كانت تزلق في الدماء ، وكان جملة من قتل من المسلمين نحوا من عشرين ألفا ، ومن التتار أضعاف ذلك ، ثم تحاجز الفريقان ، وولى كل منهم إلى بلاده ، ولجأ خوارزم شاه وأصحابه إلى بخارى وسمرقند ، فحصنها وبالغ في كثرة من ترك فيها من المقاتلة ، ورجع إلى بلاده ليجهز الجيوش الكثيرة ، فقصدت التتار بخارى وبها عشرون ألف مقاتل ، فحاصرها ثلاثة أيام ، فطلب منه أهلها الأمان فأمنهم ، ودخلها فأحسن السيرة فيهم مكرا وخديعة ، وامتنعت عليه القلعة ، فحاصرها واستعمل أهل البلد في طم خندقها ، وكان جنكزخان التتار يأتون بالمنابر والربعات ، فيطرحونها في الخندق يطمونه بها ، ففتحها قسرا في عشرة أيام ، فقتل من كان بها ، ثم عاد إلى البلد فاصطفى أموال تجارها ، وأباحها لجنده ، فقتلوا من أهلها خلقا لا يعلمهم إلا الله عز وجل ، وأسروا الذرية والنساء ، وفعلوا معهن الفواحش بحضرة أهليهن ، فمن الناس من قاتل دون حريمه حتى قتل ، ومنهم من أسر فعذب بأنواع العذاب ، وكثر البكاء والضجيج بالبلد ، ثم ألقت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها ، فاحترقت حتى صارت بلاقع خاوية على عروشها ، ثم كروا راجعين عنها قاصدين سمرقند ، فكان من أمرهم . فيها ما سيأتي ذكره في السنة الآتية .
وفي بيت المقدس - عمره الله بذكره - [ ص: 81 ] أمر بذلك مستهل هذه السنة خرب سور المعظم خوفا من استيلاء الفرنج عليه ، بعد مشورة من أشار بذلك ، فإن الفرنج إذا تمكنوا من ذلك جعلوه وسيلة إلى أخذ الشام جميعه ، فشرع في تخريب السور في أول يوم المحرم ، فهرب منه أهله خوفا من الفرنج أن يهجموا عليهم ليلا أو نهارا ، وتركوا أموالهم وأثاثهم ، وتمزقوا في البلاد كل ممزق ، حتى قيل : إنه أبيع القنطار من الزيت بعشرة دراهم ، ورطل النحاس بنصف درهم ، وضج الناس وابتهلوا إلى الله عز وجل عند الصخرة وفي الأقصى . وقال بعضهم يهجو المعظم في ذلك :
في رجب حلل المحرم وأخرب القدس في المحرم
وفيها استحوذت الفرنج ، لعنهم الله ، على مدينة دمياط ، ودخلوها بالأمان ، فغدروا بأهلها ، وقتلوا رجالها ، وسبوا نساءها وأطفالها ، وفجروا بالنساء ، وبعثوا بمنبر الجامع والربعات ورءوس القتلى إلى الجزائر ، وجعلوا الجامع كنيسة ولو شاء ربك ما فعلوه " الأنعام : 112 " .وفيها تغيظ السلطان المعظم على القاضي زكي الدين بن محيي الدين بن الزكي قاضي البلد . وسببه أن عمته ست الشام بنت أيوب كانت قد مرضت في دارها التي جعلتها بعدها مدرسة ، فأرسلت إلى القاضي لتوصي إليه ، فذهب إليها [ ص: 82 ] بشهود معه ، فكتب الوصية كما قالت ، فقال المعظم : يذهب إلى عمتي بغير إذني ، ويسمع هو والشهود كلامها! واتفق أن القاضي طلب من جابي العزيزية حسابها ، وضربه بين يديه بالمقارع ، وكان المعظم يبغض هذا القاضي من أيام أبيه العادل ، فعند ذلك أرسل المعظم إلى القاضي ببقجة فيها قباء وكلوتة; القباء أبيض والكلوتة صفراء . وقيل : بل كانا حمراوين مدرنين ، وحلف الرسول عن السلطان ليلبسنهما ويحكم بين الخصوم فيهما ، وكان من لطف الله أن جاءته الرسالة بهذا ، وهو في دهليز داره التي بباب البريد وهو منتصب للحكم ، فلم يقدر إلا أن لبسهما ، وحكم فيهما ، ثم دخل داره ، واستقبل مرض موته وكانت وفاته في صفر من السنة الآتية بعدها ، وكان الشرف بن عنين الزرعي الشاعر قد أظهر النسك والتعبد ، ويقال : إنه اعتكف بالجامع أيضا . فأرسل إليه المعظم بخمر ونرد ليشتغل بهما ، فكتب إليه ابن عنين :
يا أيها الملك المعظم سنة أحدثتها تبقى على الآباد
تجري الملوك على طريقك بعدها خلع القضاة وتحفة الزهاد