[ ص: 231 ] ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وستمائة
فيها كانت وفاة الأشرف ، ثم أخيه الكامل ، أما الأشرف موسى بن العادل باني دار الحديث الأشرفية وجامع التوبة وجامع جراح ، فإنه توفي في يوم الخميس رابع المحرم من هذه السنة ، بالقلعة المنصورة ، ودفن بها حتى نجزت تربته التي بنيت له شمالي الكلاسة ، ثم حول إليها - رحمه الله تعالى - في جمادى الأولى . وقد كان ابتداء مرضه في رجب من السنة الماضية ، واختلفت عليه الأدواء حتى كان الجرائحي يخرج العظام من رأسه ، وهو يسبح الله عز وجل ، فلما كان آخر السنة تزايد به المرض . واعتراه إسهال مفرط ، فخارت قوته ، فشرع في التهيؤ للقاء الله تعالى ، فأعتق مائتي غلام وجارية ، ووقف دار فرخشاه التي يقال لها : دار السعادة . وبستانه بالنيرب على ابنته ، وتصدق بأموال جزيلة ، وأحضر له كفنا كان قد أعده من ملابس الفقراء والمشايخ الذين لقيهم من الصالحين . وقد كان رحمه الله ، شهما شجاعا كريما جوادا محبا للعلم وأهله ، لاسيما لأهل الحديث ، ومقادسة الصالحية ، وقد بنى لهم دار حديث [ ص: 232 ] بالسفح ، وبالمدينة للشافعية أخرى ، وجعل فيها نعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ما زال حريصا على تحصيله من النظام ابن أبي الحديد التاجر . وقد كان النظام ضنينا به ، فعزم الأشرف على أخذ قطعة منه; خوفا من أن يذهب بالكلية ، فقدر الله موت ابن أبي الحديد بدمشق ، فأوصى للملك الأشرف به ، فجعله الأشرف بدار الحديث ، ونقل إليها كتبا سنية نفيسة ، وبنى جامع التوبة بالعقيبة ، وقد كان خانا للزنجاري ، فيه من المنكرات شيء كثير ، وبنى مسجد القصب وجامع جراح ومسجد دار السعادة ، وقد كان مولده في سنة ست وسبعين وخمسمائة ، ونشأ بالقدس الشريف بكفالة الأمير فخر الدين عثمان الزنجاري ، وكان أبوه يحبه ، وكذلك أخوه المعظم ، ثم استنابه أبوه على مدن كثيرة بالجزيرة; منها الرها وحران ، ثم اتسعت مملكته حين ملك خلاط . وكان من أعف الناس وأحسنهم سيرة وسريرة ، لا يعرف غير نسائه وجواريه ، مع أنه قد كان يعاني الشراب ، وهذا من أعجب الأمور .
حكى السبط عنه قال : كنت يوما بهذه المنظرة من خلاط إذ دخل الخادم فقال : بالباب امرأة تستأذن . فدخلت فإذا صورة لم أر أحسن منها ، وإذا هي ابنة الملك الذي كان بخلاط قبلي ، فذكرت أن الحاجب قد استحوذ على قرية لها ، وأنها قد احتاجت إلى بيوت الكراء ، وأنها إنما تتقوت من عمل النقوش للنساء ، فأمرت برد ضيعتها إليها ، وأمرت لها بدار تسكنها ، وقد كنت قمت لها حين دخلت ، وأجلستها بين يدي ، وأمرتها بستر وجهها حين أسفرت عنه ، ومعها عجوز ، فحين قضت شغلها قلت لها : انهضي على اسم الله تعالى .
[ ص: 233 ] فقالت العجوز : يا خوند ، إنما جاءت لتحظى بخدمتك هذه الليلة . فقلت : معاذ الله ، لا يكون هذا . واستحضرت في ذهني ابنتي ربما يصيبها نظير ما أصاب هذه ، فقامت وهي تقول : سترك الله مثل ما سترتني ، وقلت لها : مهما كان لك من حاجة فأنهيها إلي أقضها لك . فدعت لي وانصرفت . فقالت لي نفسي : ففي الحلال مندوحة عن الحرام ، فتزوجها . فقلت : والله لا كان هذا أبدا ، أين الحياء والكرم والمروءة؟!
قال : ومات مملوك من مماليكي ، وترك ولدا ليس يكون في الناس بتلك البلاد أحسن شبابا ولا أحلى شكلا منه ، فأحببته وقربته ، وكان من لا يفهم أمري يتهمني به ، فاتفق أنه عدا على إنسان ، فضربه حتى قتله ، فاشتكى عليه إلي أولياء المقتول ، فقلت : أثبتوا أنه قتله . فأثبتوا ذلك ، وحاجفت عنه مماليكي ، وأرادوا إرضاءهم بعشر ديات ، فلم يقبلوا ، ووقفوا لي في الطريق وقالوا : قد أثبتنا أنه قتله . فقلت : خذوه . فتسلموه ، فقتلوه ، ولو طلبوا مني ملكي فداء له لدفعته إليهم ، ولكن استحييت من الله أن أعارض شرعه بحظ نفسي . رحمه الله تعالى .
ولما ملك دمشق في سنة ست وعشرين وستمائة نادى مناديه بها أن لا يشتغل أحد من الفقهاء بشيء من العلوم سوى التفسير والحديث والفقه ، ومن اشتغل بالمنطق وعلوم الأوائل نفي من البلد ، وكان البلد به في غاية الأمن والعدل ، وكثرة الصدقات والخيرات; كانت القلعة لا تغلق في ليالي رمضان كلها ، وصحون الحلاوات خارجة منها إلى الجامع والخوانق والربط [ ص: 234 ] والصالحية ، إلى الصالحين والفقراء والرؤساء وغيرهم . وكان أكثر جلوسه بمسجد الذي جدده وزخرفه بالقلعة ، وكان ميمون النقيبة ، ولم تكسر له راية قط ، وقد استدعى أبي الدرداء الزبيدي من بغداد حتى سمع هو والناس عليه " صحيح " وغيره ، وكان له ميل كثير إلى الحديث وأهله ، ولما توفي رحمه الله رآه بعضهم في المنام ، وعليه ثياب خضر ، وهو يطير مع جماعة من الصالحين ، فقالوا له : ما هذا وقد كنت تعاني الشراب في الدنيا؟ فقال : ذاك البدن الذي كنا نفعل به ذاك عندكم في الدنيا ، وهذه الروح التي كنا نحب بها هؤلاء ، فهي معهم . ولقد صدق ، رحمه الله; قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : البخاري . المرء مع من أحب
وقد كان أوصى بالملك من بعده لأخيه الصالح إسماعيل ، فلما توفي أخوه ركب في أبهة الملك ، ومشى الناس بين يديه ، وركب إلى جانبه صاحب حمص المعظمي حامل الغاشية على رأسه ، ثم إنه صادر جماعة من الدماشقة الذين قيل عنهم : إنهم مع وعز الدين أيبك الكامل . منهم العلم تعاسيف ، وأولاد ابن مزهر ، وحبسهم ببصرى ، وأطلق من قلعة عزتا ، وشرط [ ص: 235 ] عليه أن لا يدخل الحريري دمشق ، ثم قدم الكامل من مصر ، وانضاف إليه الناصر داود صاحب الكرك ونابلس والقدس ، فحاصروا دمشق حصارا شديدا ، وقد حصنها الصالح إسماعيل ، وقطعت المياه ، ورد الكامل ماء بردى إلى ثورا ، وأحرقت العقيبة وقصر حجاج ، فافتقر خلق كثير ، واحترق آخرون ، وجرت خطوب كثيرة ، ثم آل الحال في آخر جمادى الأولى إلى أن سلم الصالح إسماعيل دمشق إلى أخيه الكامل ، على أن له بعلبك وبصرى ، وسكن الأمر ، وكان الصلح بينهما على يدي القاضي محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي ، اتفق أنه كان بدمشق قد قدم في رسلية من جهة الخليفة إلى دمشق ، فجزاه الله تعالى خيرا . ودخل الكامل دمشق ، وأطلق الفلك بن المسيري من سجن الحيات بالقلعة الذي كان أودعه فيه الأشرف ، ونقل الأشرف إلى تربته ، وأمر الكامل في يوم الاثنين سادس جمادى الآخرة أئمة الجامع أن لا يصلي أحد منهم المغرب سوى الإمام الكبير; لما كان يقع من التشويش والاختلاف بسبب اجتماعهم في وقت واحد ، ولنعم ما فعل - رحمه الله تعالى - وقد فعل هذا في زماننا في صلاة التراويح ، اجتمع الناس على قارئ واحد ، وهو الإمام الكبير في المحراب المقدم عند المنبر ، ولم يبق به إمام حينئذ سوى الذي بالحلبية عند مشهد علي ، ولو ترك لكان حسنا . والله أعلم .