[ ص: 53 ] ابن تيمية
وفي يوم الاثنين ثامن رجب حضر القضاة والعلماء ، وفيهم الشيخ أول المجالس الثلاثة لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية عند نائب السلطنة بالقصر ، وقرئت عقيدة الشيخ تقي الدين " الواسطية " ، وحصل بحث في أماكن منها ، وأخرت مواضع إلى المجلس الثاني ، فاجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر الشهر المذكور ، وحضر الشيخ صفي الدين الهندي ، وتكلم مع الشيخ تقي الدين كلاما كثيرا ، ولكن ساقيته لاطمت بحرا ، ثم اصطلحوا على أن يكون الشيخ كمال الدين بن الزملكاني هو الذي يحاققه من غير مسامحة ، فتناظرا في ذلك ، وشكر الناس من فضائل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني ، وجودة ذهنه ، وحسن بحثه ، حيث قاوم ابن تيمية في البحث ، وتكلم معه ، ثم انفصل الحال على قبول العقيدة ، وعاد الشيخ إلى منزله معظما مكرما ، وبلغني أن العامة حملوا له الشمع من باب النصر إلى القصاعين على جاري عادتهم في أمثال هذه الأشياء ، وكان الحامل على هذه الاجتماعات كتاب ورد من السلطان في ذلك ، كان الباعث على إرساله قاضي المالكية ابن مخلوف ، والشيخ نصر المنبجي شيخ الجاشنكير ، وغيرهما من أعدائه ، وذلك أن الشيخ تقي الدين ابن تيمية كان يتكلم في المنبجي ، وينسبه إلى اعتقاد ابن عربي ، وكان للشيخ تقي الدين من الفقهاء جماعة يحسدونه لتقدمه عند الدولة ، وانفراده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وطاعة الناس له ، ومحبتهم له ، وكثرة أتباعه ، وقيامه في الحق ، وعلمه وعمله ، [ ص: 54 ] ثم وقع بدمشق خبط كثير وتشويش بسبب غيبة نائب السلطنة في الصيد ، وطلب القاضي جماعة من أصحاب الشيخ وعزر بعضهم ، ثم اتفق أن الشيخ جمال الدين المزي الحافظ قرأ فصلا في الرد على الجهمية من كتاب " خلق أفعال العباد " - تحت قبة النسر ، بعد قراءة ميعاد " للبخاري " بسبب الاستسقاء ، فغضب بعض الفقهاء الحاضرين ، وشكاه إلى القاضي الشافعي البخاري ابن صصرى ، وكان عدو الشيخ ، فسجن المزي ، فبلغ ذلك الشيخ تقي الدين ، فتألم لذلك ، وذهب إلى السجن فأخرجه منه بنفسه ، وراح إلى القصر فوجد القاضي هناك ، فتقاولا بسبب . الشيخ جمال الدين المزي ، فحلف ابن صصرى ولا بد أن يعيده إلى السجن ، وإلا عزل نفسه ، فأمر النائب بإعادته تطييبا لقلب القاضي ، فحبسه عنده في القوصية أياما ثم أطلقه ، ولما قدم نائب السلطنة ذكر له الشيخ تقي الدين ما جرى في حقه وحق أصحابه في غيبته ، فتألم النائب لذلك ، ونادى في البلد أن لا يتكلم أحد في العقائد ، ومن تكلم في ذلك حل ماله ودمه ، ونهبت داره وحانوته ، فسكنت الأمور . ولقد رأيت فصلا من كلام الشيخ تقي الدين في كيفية ما وقع في هذه المجالس الثلاثة من المناظرات .
ثم عقد المجلس الثالث سابع شعبان بالقصر ، واجتمع الجماعة على الرضا بالعقيدة المذكورة . وفي هذا اليوم عزل ابن صصرى نفسه عن الحكم بسبب كلام سمعه من بعض الحاضرين ، وهو الشيخ كمال الدين بن الزملكاني ، في المجلس المذكور ، ثم جاء كتاب السلطان في السادس والعشرين من شعبان فيه [ ص: 55 ] إعادة ابن صصرى إلى القضاء ، وذلك بإشارة المنبجي ، وفي الكتاب : إنا كنا رسمنا بعقد مجلس للشيخ تقي الدين ابن تيمية ، وقد بلغنا ما عقد له من المجالس ، وأنه على مذهب السلف ، وإنما أردنا بذلك براءة ساحته مما نسب إليه .
ثم جاء كتاب آخر في خامس رمضان يوم الاثنين ، وفيه الكشف عما كان وقع للشيخ تقي الدين ابن تيمية في أيام جاغان والقاضي إمام الدين القزويني ، وأن يحمل هو والقاضي ابن صصرى إلى الديار المصرية ، فتوجها على البريد نحو مصر ، وخرج مع الشيخ خلق من أصحابه ، وبكوا وخافوا عليه من أعدائه ، وأشار عليه نائب السلطنة الأفرم بترك الذهاب إلى مصر ، وقال له : أنا أكاتب السلطان في ذلك ، وأصلح القضايا ، فامتنع الشيخ تقي الدين من ذلك ، وذكر له أن في توجهه لمصر مصلحة كبيرة ، ومصالح كثيرة ، فلما توجه إلى مصر ازدحم الناس لوداعه ورؤيته حتى انتشروا من باب داره إلى قرب الجسورة ، فيما بين دمشق والكسوة ، وهم ما بين باك وحزين ، ومتفرج ومتنزه ، ومزاحم متغال فيه ، فلما كان يوم السبت دخل الشيخ تقي الدين غزة فعمل بجامعها مجلسا عظيما ، ثم رحلا معا إلى القاهرة ، والقلوب معه وبه متعلقة ، فدخلا مصر يوم الاثنين الثاني والعشرين من رمضان ، وقيل : إنهما دخلاها يوم الخميس . فلما كان يوم الجمعة بعد الصلاة عقد للشيخ تقي الدين [ ص: 56 ] مجلس بالقلعة ، اجتمع فيه القضاة وأكابر الدولة ، وأراد أن يتكلم على عادته ، فلم يمكن من البحث والكلام ، وانتدب له الشمس بن عدلان خصما احتسابا ، وادعى عليه عند ابن مخلوف المالكي أنه يقول : إن الله فوق العرش حقيقة ، وإن الله يتكلم بحرف وصوت ، فسأله القاضي جوابه ، فأخذ الشيخ في حمد الله والثناء عليه ، فقيل له : أجب ، ما جئنا بك لتخطب ، فقال : ومن الحاكم في ؟ فقيل له : القاضي المالكي ، فقال له الشيخ : كيف تحكم في وأنت خصمي ؟! .
فغضب غضبا شديدا وانزعج ، وأقيم مرسما عليه ، وحبس في برج أياما ، ثم نقل منه ليلة العيد إلى الحبس المعروف بالجب هو وأخواه : شرف الدين عبد الله ، وزين الدين عبد الرحمن .
وأما ابن صصرى فإنه جدد له توقيع بالقضاء بإشارة المنبجي شيخ الجاشنكير حاكم مصر ، وعاد إلى دمشق يوم الجمعة سادس ذي القعدة ، والقلوب له ماقتة ، والنفوس منه نافرة ، وقرئ تقليده بالجامع ، وبعده قرئ كتاب فيه الحط على الشيخ تقي الدين ، ومخالفته في العقيدة ، وأن ينادى بذلك في البلاد الشامية ، وألزم أهل مذهبه بمخالفته ، وكذلك وقع بمصر ، قام عليه جاشنكير وشيخه نصر المنبجي ، وساعدهم جماعة كثيرة من الفقهاء والفقراء ، وجرت فتن كثيرة منتشرة ، نعوذ بالله من الفتن ، وحصل للحنابلة [ ص: 57 ] بالديار المصرية إهانة عظيمة كثيرة ، وذلك أن قاضيهم كان قليل العلم ، مزجى البضاعة ، وهو شرف الدين الحراني ، فلذلك نال أصحابهم ما نالهم ، وصارت حالهم حالهم .
وفي شهر رمضان جاء كتاب من مقدم الخدام بالحرم النبوي يستأذن السلطان في بيع طائفة من قناديل الحرم النبوي لينفق ذلك في بناء مئذنة عند باب السلام الذي عند المطهرة ، فرسم له بذلك ، وكان في جملة القناديل قنديلان من ذهب زنتهما ألف دينار ، فباع ذلك ، وشرع في بنائها ، وولي سراج الدين عمر قضاءها مع الخطابة ، فشق ذلك على الروافض .
وفي يوم الخميس ثاني عشر ذي القعدة وصل البريد من الديار المصرية بتولية القاضي شمس الدين محمد بن إبراهيم بن إبراهيم بن داود الأذرعي الحنفي قضاء الحنفية عوضا عن ابن الحريري ، وتولية الفزاري الخطابة عوضا عن عمه شرف الدين ، توفي ، وخلع عليهما بذلك ، وباشرا يوم الجمعة ثالث عشر الشهر ، وخطب الشيخ برهان الدين خطبة حسنة حضرها الناس والأعيان ، ثم بعد خمسة أيام عزل نفسه عن الخطابة ، وآثر بقاءه على البادرائية حين بلغه أنها طلبت لتؤخذ منه ، فبقي منصب الخطابة شاغرا ، ونائب الخطيب يصلي بالناس ويخطب ، ودخل عيد الأضحى وليس للناس خطيب ، وقد كاتب نائب السلطنة في ذاك ، فجاء المرسوم بإلزامه بذلك ، وفيه : لعلمنا بأهليته ، وكفايته ، واستمراره على ما بيده من تدريس البادرائية .
[ ص: 58 ] فباشرها معها مرة ثانية ، ثم إن كمال الدين بن الشيرازي سعى في البادرائية ، فأخذها ، وباشرها في صفر من السنة الآتية بتوقيع سلطاني ، فعزل الفزاري نفسه من الخطابة ، ولزم بيته ، فراسله نائب السلطنة بذلك ، فصمم على العزل ، وأنه لا يعود إليها أبدا ، وذكر أنه عاجز عنها ، فلما تحقق ذلك نائب السلطنة أعاد إليه مدرسته ، وكتب له بها توقيعا في العشر الأول من ذي الحجة ، وخلع على شمس الدين بن الحظيري بنظر الخزانة عوضا عن ابن الزملكاني .
وحج بالناس في هذه السنة الأمير شرف الدين حسين بن جندر .