[ ص: 72 ] ثم دخلت سنة سبع وسبعمائة
استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها ، تقي الدين ابن تيمية معتقل بالجب في قلعة الجبل بمصر . وفي أوائل المحرم أظهر والشيخ الغضب على الأميرين سلار السلطان الملك الناصر والجاشنكير ، وامتنع من العلامة ، وأغلق القلعة وتحصن فيها ، ولزم الأميران بيوتهما ، واجتمع عليهما جماعة من الأمراء ، وحوصرت القلعة ، وجرت خبطة عظيمة ، وغلقت الأسواق ، ثم راسلوا السلطان ، فتأطدت الأمور ، وسكنت الشرور على دخن وتنافر قلوب ، وقوي الأميران أكثر مما كانا قبل ذلك ، وركب السلطان ، ووقع الصلح على دخن .
وفي المحرم وقعت الحرب بين التتر وبين أهل كيلان وذلك أن ملك التتر طلب منهم أن يجعلوا في بلادهم طريقا إلى عسكره ، فامتنعوا من ذلك ، فأرسل ملك التتر خربندا جيشا كثيفا ستين ألفا من المقاتلة أربعين ألفا مع قطلوشاه ، وعشرين ألفا مع جوبان ، فأمهلهم أهل كيلان حتى توسطوا [ ص: 73 ] بلادهم ، ثم أرسلوا عليهم خليجا من البحر ، ورموهم بالنفط ، فغرق كثير منهم ، واحترق آخرون ، وقتلوا بأيديهم طائفة كثيرة ، فلم يفلت منهم إلا القليل ، وكان في من قتل أمير التتر الكبير قطلوشاه ، فاشتد غضب خربندا على أهل كيلان ، ولكنه فرح بقتل قطلوشاه فإنه كان يريد قتل خربندا ، فكفي أمره ، ثم قتل بعده بولاي . ثم إن ملك التتر أرسل الشيخ براقا الذي قدم الشام فيما تقدم إلى أهل كيلان يبلغهم عنه رسالة ، فقتلوه وأراحوا الناس منه . وبلادهم من أحصن البلاد وأطيبها ، لا تستطاع ، وهم أهل سنة ، وأكثرهم حنابلة ، لا يستطيع مبتدع أن يسكن بين أظهرهم .
وفي يوم الجمعة رابع عشر صفر اجتمع قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بالشيخ تقي الدين ابن تيمية في دار الأوحدي من قلعة الجبل ، وطال بينهما الكلام ، ثم تفرقا قبل الصلاة والشيخ تقي الدين مصمم على عدم الخروج من السجن ، فلما كان يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول جاء الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى ملك العرب إلى السجن بنفسه ، وأقسم على الشيخ تقي الدين ليخرجن إليه ، فلما خرج أقسم عليه ليأتين معه إلى دار سلار ، فاجتمع به بعض الفقهاء بدار سلار ، وجرت بينهم بحوث كثيرة ، ثم فرقت بينهم الصلاة ، ثم اجتمعوا إلى المغرب ، وبات الشيخ تقي الدين عند سلار ، ثم اجتمعوا يوم الأحد بمرسوم السلطان جميع النهار ، ولم يحضر أحد من القضاة ، بل اجتمع من الفقهاء خلق كثير أكثر من كل يوم ، منهم الفقيه نجم الدين بن رفعة ، وعلاء الدين [ ص: 74 ] الباجي ، وفخر الدين بن بنت أبي سعد ، وعز الدين النمراوي ، وشمس الدين بن عدلان ، وجماعة من الفقهاء ، وطلبوا القضاة ، فاعتذروا بأعذار بعضهم بالمرض ، وبعضهم بغيره ، لمعرفتهم بما ابن تيمية منطو عليه من العلوم والأدلة ، وأن أحدا من الحاضرين لا يطيقه ، فقبل عذرهم نائب السلطنة ، ولم يكلفهم الحضور بعد أن رسم السلطان بحضورهم ، وانفصل المجلس على خير ، وبات الشيخ عند نائب السلطنة ، وكان الأمير حسام الدين مهنا يريد أن يستصحب الشيخ تقي الدين معه إلى الشام ، فأشار سلار بإقامة الشيخ بمصر عنده ليرى الناس فضله وعلمه ، وينتفع الناس به ، ويشتغلوا عليه ، وكتب الشيخ كتابا إلى الشام يتضمن ما وقع له من الأمور .
قال البرزالي : وفي شوال منها شكى الصوفية بالقاهرة على الشيخ تقي الدين وكلامه في ابن عربي وغيره إلى الدولة ، فردوا الأمر في ذلك إلى القاضي الشافعي ، فعقد له مجلس ، وادعى عليه ابن عطاء بأشياء ، فلم يثبت عليه منها شيء ، لكنه قال : لا يستغاث إلا بالله ، ولا يستغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم - استغاثة بمعنى [ ص: 75 ] العبادة ، ولكن يتوسل به ، ويتشفع به إلى الله . فبعض الحاضرين قال : ليس عليه في هذا شيء . ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة أن هذا فيه قلة أدب ، فحضرت رسالة إلى القاضي أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة ، فقال القاضي : قد قلت له ما يقال لمثله . ثم إن الدولة خيروه بين أشياء إما أن يسير إلى دمشق أو الإسكندرية بشروط ، أو الحبس ، فاختار الحبس ، فدخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزما ما شرط ، فأجاب أصحابه إلى ما اختاروا جبرا لخواطرهم ، فركب خيل البريد ليلة الثامن عشر من شوال ، ثم أرسلوا خلفه من الغد بريدا آخر ، فردوه ، وحضر عند قاضي القضاة ابن جماعة وعنده جماعة من الفقهاء ، فقال له بعضهم : إن الدولة ما ترضى إلا بالحبس .
فقال القاضي : وفيه مصلحة له .
واستناب شمس الدين التونسي المالكي ، وأذن له أن يحكم عليه بالحبس ، فامتنع ، وقال : ما ثبت عليه شيء . فأذن لنور الدين الزواوي المالكي ، فتحير ، فلما رأى الشيخ توقفهم في حبسه قال : أنا أمضي إلى الحبس ، وأتبع ما تقتضيه المصلحة .
فقال نور الدين الزواوي : يكون في موضع يصلح لمثله ، فقيل له : الدولة ما ترضى إلا بمسمى الحبس ، فأرسل إلى حبس القاضي ، وأجلس في المكان الذي أجلس فيه القاضي تقي الدين بن بنت الأعز حين سجن ، وأذن له أن يكون عنده من يخدمه ، وكان ذلك كله بإشارة نصر المنبجي - لوجاهته في الدولة ، فإنه كان قد استحوذ على عقل الجاشنكير الذي تسلطن فيما بعد - وغيره من الدولة ، والسلطان مقهور معه ، واستمر الشيخ في الحبس يستفتى ، ويقصده الناس ، ويزورونه ، وتأتيه الفتاوى المشكلة التي لا يستطيعها الفقهاء ، من الأمراء وأعيان [ ص: 76 ] الناس ، فيكتب عليها بما يحير العقول من الكتاب والسنة . ثم عقد للشيخ مجلس بالصالحية بعد ذلك كله ، ونزل الشيخ بالقاهرة بدار ابن شقير ، وأكب الناس على الاجتماع به ليلا ونهارا .
وفي سادس رجب باشر الشيخ كمال الدين بن الزملكاني نظر ديوان المارستان عوضا عن جمال الدين يوسف العجمي ، توفي ، وكان محتسبا بدمشق مدة ، فأخذها منه نجم الدين بن البصراوي قبل هذا بستة أشهر ، وكان العجمي موصوفا بالأمانة والكفاءة .
وفي ليلة النصف من شعبان أبطلت صلاة ليلة النصف لكونها بدعة ، وصين الجامع من الغوغاء والرعاع ، وحصل بذلك خير كثير ، ولله الحمد والمنة .
وفي رمضان قدم الصدر نجم الدين البصراوي ، ومعه توقيع بنظر الخزانة عوضا عن شمس الدين الحظيري ، مضافا إلى ما بيده من الحسبة . ووقع في أواخر رمضان مطر قوي شديد ، وكان الناس لهم مدة لم يمطروا ، فاستبشروا بذلك ، ورخصت الأسعار ، ولم يمكن الناس الخروج إلى المصلى من كثرة المطر ، فصلوا في الجامع ، وحضر نائب السلطنة فصلى بالمقصورة . وخرج المحمل وأمير الحج عامئذ سيف الدين بلبان البدري التتري . وفيها حج القاضي شرف الدين البارزي من حماة .
وفي ذي الحجة وقع حريق عظيم بالقرب من الظاهرية ، مبدؤه من الفرن تجاهها الذي يقال له : فرن الصوفية . ثم لطف الله ، وكف شرها وشررها .
[ ص: 77 ] قلت : وفي هذه السنة كان قدومنا من بصرى إلى دمشق بعد وفاة الوالد ، وكان أول ما سكنا بدرب سقون الذي يقال له : درب ابن أبي الهيجاء ، بالصاغة العتيقة عند الطيوريين ، ونسأل الله حسن العاقبة والخاتمة ، آمين .