[ ص: 418 ] ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وسبعمائة 
 استهلت بيوم الأربعاء وسلطان المسلمين الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون  ، وقضاته بمصر  هم المذكورون في التي قبلها ، وليس في دمشق  نائب سلطنة ، وإنما الذي يسد الأمور الأمير سيف الدين طشتمر الملقب بالحمص الأخضر ،  الذي جاء بالقبض على الأمير سيف الدين تنكز ،  ثم جاءه المرسوم بالرجوع إلى صفد ،  فركب من آخر النهار وتوجه إلى بلده ، وحواصل الأمير سيف الدين تنكز  تحت الحوطة كما هي . 
وفي صبيحة يوم السبت رابع المحرم من السنة المذكورة قدم من الديار المصرية خمسة أمراء; الأمير سيف الدين بشتك الناصري ،  ومعه برسبغا الحاجب ،  وطاشار الدويدار ،  وبيغرا ،  وبكا ،  فنزل بشتك  بالقصر الأبلق  والميادين ، وليس معه من مماليكه إلا القليل ، وإنما جاء لتجديد البيعة للسلطان لما توهموا من ممالأة بعض الأمراء لنائب الشام  المنفصل ، وللحوطة على حواصل الأمير سيف الدين تنكز  المنفصل عن نيابة الشام  وتجهيزها للديار المصرية . 
وفي صبيحة يوم الاثنين سادسه دخل الأمير علاء الدين ألطنبغا  إلى   [ ص: 419 ] دمشق  نائبا ، فتلقاه الناس وبشتك  والأمراء المصريون ، ونزلوا إلى عتبته فقبلوا العتبة الشريفة ، ورجعوا معه إلى دار السعادة ، وقرئ تقليده . 
وفي يوم الاثنين ثالث عشره مسك من الأمراء المقدمين أميران كبيران; ألجيبغا العادلي ،  وطيبغا حاجي ،  ورفعا إلى القلعة المنصورة ، واحتيط على حواصلهما . 
وفي يوم الثلاثاء تحملوا بيت ملك الأمراء سيف الدين تنكز  وأهله وأولاده إلى الديار المصرية . 
وفي صبيحة يوم الأربعاء خامس عشره ركب نائب السلطنة الأمير علاء الدين ألطنبغا ،  ومعه الأمير سيف الدين بشتك الناصري ،  والحاج أرقطاي ،  وسيف الدين قطلوبغا الفخري ،  وجماعة من الأمراء المقدمين ، واجتمعوا بسوق الخيل ، واستدعوا بمملوكي الأمير سيف الدين تنكز;  وهما جنغاي  وطغاي ،  فأمر بتوسيطهما ، فوسطا ، وعلقا على الخشب ، ونودي عليهما : هذا جزاء من تخامر على السلطان الناصر    . 
وفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من هذا الشهر كانت وفاة الأمير سيف   [ ص: 420 ] الدين تنكز  نائب الشام  بقلعة إسكندرية;  قيل : مخنوقا . وقيل : مسموما ، وهو الأصح ، وقيل غير ذلك ، وتأسف الناس عليه كثيرا ، وطال حزنهم عليه ، وفي كل وقت يتذكرون ما كان منه من الهيبة ، والصيانة ، والغيرة على حريم المسلمين ومحارم الإسلام ، ومن إقامته على ذوي الجاهات وغيرهم ، ويشتد تأسفهم عليه ، رحمه الله . 
وقد أخبر القاضي أمين الدين بن القلانسي    - رحمه الله - شيخنا الحافظ العلامة عماد الدين بن كثير    - رحمه الله - أن الأمير سيف الدين تنكز  مسك يوم الثلاثاء ، ودخل مصر  يوم الثلاثاء ، ودخل الإسكندرية  يوم الثلاثاء ، وتوفي يوم الثلاثاء ، وصلي عليه بالإسكندرية ،  ودفن بمقبرتها في الثالث والعشرين من المحرم ، بالقرب من قبر القباري ،  وكانت له جنازة جيدة . 
وفي يوم الخميس سابع شهر صفر قدم الأمير سيف الدين طشتمر  الذي مسك تنكز  إلى دمشق  فنزل بوطأة برزة  بجيشه ومن معه ، ثم توجه إلى حلب  المحروسة نائبا بها عوضا عن ألطنبغا  المنفصل عنها . 
وفي صبيحة يوم الخميس ثالث عشر ربيع الأول نودي في البلد بجنازة الشيخ الصالح العابد الناسك القدوة الشيخ محمد بن تمام ،  توفي   [ ص: 421 ] بالصالحية ، فذهب الناس إلى جنازته إلى الجامع المظفري ،  واجتمع الناس لصلاة الظهر ، فضاق الجامع المذكور عن أن يسعهم ، وصلى الناس في الطرقات وأرجاء الصالحية ، وكان الجمع كثيرا جدا لم يشهد الناس جنازة بعد جنازة الشيخ تقي الدين ابن تيمية  مثلها; لكثرة من حضرها من الناس رجالا ونساء ، وفيهم القضاة والأعيان والأمراء وجمهور الناس ، يقاربون عشرين ألفا ، وانتظر الناس نائب السلطنة ، فاشتغل بكتاب ورد عليه من الديار المصرية ، فصلي على الشيخ بعد صلاة الظهر بالجامع المظفري ،  ودفن عند أخيه في تربة بين تربة الموفق  وبين تربة الشيخ أبي عمر ،  رحمهم الله وإيانا . 
وفي أول شهر جمادى الأولى توفيت الشيخة العابدة الصالحة العالمة قارئة القرآن ، أم فاطمة عائشة بنت إبراهيم بن صديق ، زوجة شيخنا الحافظ جمال الدين المزي  عشية يوم الثلاثاء مستهل هذا الشهر ، وصلي عليها بالجامع صبيحة يوم الأربعاء ، ودفنت بمقابر الصوفية غربي قبر الشيخ تقي الدين ابن تيمية ،  رحمهم الله ، كانت عديمة النظير في نساء زمانها; لكثرة عبادتها ، وتلاوتها ، وإقرائها القرآن العظيم بفصاحة وبلاغة ، وأداء صحيح يعجز كثير من الرجال عن تجويده ، وختمت نساء كثيرا ، وقرأ عليها من النساء خلق وانتفعن بها وبصلاحها ودينها وزهدها في الدنيا ، وتقللها منها مع طول العمر ، بلغت ثمانين سنة ، أنفقتها في طاعة ربها صلاة وتلاوة ، وكان الشيخ محسنا إليها مطيعا ، لا يكاد يخالفها; لحبه لها طبعا وشرعا ، فرحمها الله وقدس روحها ، ونور مضجعها بالرحمة ، آمين . 
 [ ص: 422 ] وفي يوم الأربعاء الحادي والعشرين منه درس بمدرسة الشيخ أبي عمر  بسفح قاسيون الشيخ الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي  الحنبلي ، في التدريس البكتمري ، عوضا عن القاضي برهان الدين الزرعي  ، وحضر عنده المقادسة وكبار الحنابلة ، ولم يتمكن أهل المدينة  من الحضور; لكثرة المطر والوحل يومئذ . 
وتكامل عمارة المنارة الشرقية بالجامع الأموي   في العشر الأخير من رمضان ، واستحسن الناس بناءها وإتقانها ، وذكر بعضهم أنه لم يبن في الإسلام منارة مثلها ، ولله الحمد . ووقع لكثير من الناس في غالب ظنونهم أنها المنارة البيضاء الشرقية  التي ذكرت في حديث النواس بن سمعان  في نزول عيسى ابن مريم  على المنارة البيضاء  في شرقي دمشق  ، فلعل لفظ الحديث انقلب على بعض الرواة ، وإنما كان على المنارة الشرقية بدمشق ،  وهذه المنارة مشهورة بالشرقية لمقابلتها أختها الغربية ، والله سبحانه وتعالى أعلم . 
وفي يوم الثلاثاء سلخ شهر شوال عقد مجلس في دار العدل بدار السعادة ، وحضرته يومئذ ، واجتمع القضاة والأعيان على العادة ، وأحضر يومئذ عثمان الدوكالي     - قبحه الله تعالى - وادعي عليه بعظائم من القول لم يؤثر مثلها عن الحلاج  ، ولا عن ابن أبي العزاقر الشلمغاني ،  وقامت عليه البينة بدعوى   [ ص: 423 ] الإلهية - لعنه الله - وأشياء أخر من التنقيص بالأنبياء ، ومخالطته أرباب الريب من الباجربقية وغيرهم من الاتحادية عليهم لعائن الله ، ووقع منه في المجلس من إساءة الأدب على القاضي الحنبلي ، وتضمن ذلك تكفيره من المالكية أيضا ، فادعى أن له دوافع وقوادح في بعض الشهود ، فرد إلى السجن مقيدا مغلولا مقبوحا ، أمكن الله منه بقوته وتأييده . ثم لما كان يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي القعدة أحضر عثمان الدوكالي  المذكور إلى دار السعادة ، وأقيم بين يدي ملك الأمراء والقضاة ، وسئل عن القوادح في الشهود فعجز فلم يقدر ، وعجز عن ذلك ، فتوجه عليه الحكم ، فسئل القاضي المالكي الحكم عليه ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، وصلى على رسوله ، ثم حكم بإراقة دمه وإن تاب ، فأخذ المذكور فضربت رقبته بدمشق  بسوق الخيل ، ونودي عليه : هذا جزاء من يكون على مذهب الاتحادية  ، وكان يوما مشهودا بدار السعادة ، حضر يومئذ خلق من الأعيان والمشايخ ، وحضر شيخنا جمال الدين المزي  الحافظ ، وشيخنا الحافظ شمس الدين الذهبي ،  وتكلما ، وحرضا في القضية جدا ، وشهدا بزندقة المذكور بالاستفاضة ، وكذا الشيخ زين الدين أخو الشيخ تقي الدين بن تيمية ،  وخرج القضاة الثلاثة; المالكي ، والحنفي ، والحنبلي ، وهم نفذوا حكمه في المجلس ، وحضروا قتل المذكور ، وكنت مباشرا لجميع ذلك من أوله إلى آخره . 
 [ ص: 424 ] وفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من ذي القعدة أفرج عن الأميرين المعتقلين بالقلعة; وهما طيبغا حاجي ،  وألجيبغا ،  وكذلك أفرج عن خزاندارية تنكز  الذين تأخروا بالقلعة ، وفرح الناس بذلك . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					