وفاة الملك الصالح إسماعيل
في يوم الأربعاء ثالث شهر ربيع الآخر من هذه السنة أظهر موت السلطان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الناصر بن المنصور آخر النهار ، وكان قد عهد بالأمر إلى أخيه لأبويه الملك الكامل سيف الدين أبي الفتوح شعبان ، فجلس على سرير المملكة يوم الخميس رابعه ، وكان يوما مشهودا ، ثم قدم الخبر إلى دمشق عشية الخميس ليلة الجمعة الثاني عشر منه ، وكان البريد قد انقطع عن الشام نحو عشرين يوما للشغل بمرض السلطان ، فقدم الأمير سيف الدين بيغرا للبيعة فركب علية الجيش لتلقيه ، فلما كان صبيحة الجمعة أخذت البيعة من النائب ، والمقدمين ، وبقية الأمراء والجند - للسلطان للملك الكامل ، الملك الكامل بدار السعادة ، ودقت البشائر ، وزين البلد ، وخطب الخطباء يومئذ جعله الله وجها مباركا على المسلمين . للملك الكامل ،
وفي صبيحة يوم الاثنين الثاني والعشرين من ربيع الآخر درس القاضي جمال الدين حسين ابن قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي بالمدرسة الشامية البرانية ، نزل له أبوه عنها ، واستخرج له مرسوما سلطانيا بذلك ، فحضر عنده [ ص: 481 ] القضاة ، والأعيان ، وجماعة من الأمراء والفقهاء ، وجلس بين أبيه والقاضي الحنفي ، وأخذ الدرس في قوله تعالى : ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين [ النمل : 15 ] الآيات . وتكلم الشريف مجد الدين المتكلم في الدرس بكلام فيه نكارة وبشاعة ، فشنع عليه الحاضرون ، فاستتيب بعد انقضاء الدرس ، وحكم بإسلامه ، وقد طلب إلى الديار المصرية نائب دمشق الأمير سيف الدين طقزدمر وهو متمرض ، انقطع عن الجمعة بسبب المرض مرات ، والبريد يذهب إلى حلب لمجيء نائبها الأمير سيف الدين يلبغا لنيابة دمشق ، وذكر أن الحاج أرقطاي تعين لنيابة حلب .
وفي يوم الجمعة رابع شهر جمادى الأولى خرجت أثقال الأمير سيف الدين طقزدمر النائب ، وخيوله ، وهجنه ، ومراكبه ، وحواصله ، وطبلخاناته ، وأولاده في تجمل عظيم ، وأبهة هائلة جدا ، وخرجت المحافل والكحارات والمحفات لنسائه وبناته وأهله في هيبة عجيبة ، هذا كله وهو بدار السعادة ، فلما كان من وقت السحر في يوم السبت خامسه خرج الأمير سيف الدين طقزدمر بنفسه إلى الكسوة في محفة; لمرضه ، مصحوبا بالسلامة ، فلما طلعت الشمس من يومئذ قدم من حلب أستادار الأمير سيف الدين يلبغا اليحياوي ، فتسلم دار السعادة ، وفرح الناس بهم ، وذهب الناس للتهنئة والتودد إليهم .
ولما كان يوم السبت الثاني عشر من جمادى الأولى خرج الجيش بكماله لتلقي نائب السلطنة الأمير سيف الدين يلبغا ، فدخل في تجمل عظيم ، ثم جاء فنزل عند باب السر ، وقبل العتبة على العادة ثم مشى إلى دار السعادة .
[ ص: 482 ] وفي عشية يوم الاثنين رابع عشره قطع نائب السلطنة ممن وجب قطعه من أهل الحبس ثلاثة عشر رجلا ، وأضاف إلى قطع اليد قطع الرجل من كل منهم; لما بلغه أنه تكررت جناياتهم ، وصلب ثلاثة بالمسامير ممن وجب قتله ، ففرح الناس بذلك لقمعه المفسدين ، وأهل الشرور ، والعبث ، والفساد .
واشتهر في العشر الأوسط من جمادى الآخرة وفاة الأمير سيف الدين طقزدمر بعد وصوله إلى الديار المصرية بأيام ، وكان ذلك ليلة الخميس مستهل هذا الشهر ، وذكر أنه رسم على ولده وأستاداره ودواداره ، وطلب منهم مال جزيل ، فالله أعلم .
وفي يوم الاثنين ثاني عشره توفي القاضي ، علاء الدين بن العز الحنفي نائب الحكم ببستانه بالصالحية ودفن بها ، وذلك بعد عود المدرسة الظاهرية إليه ، وأخذه إياها من عمه القاضي عماد الدين إسماعيل ، كما قدمنا ، ولم يدرس فيها إلا يوما واحدا وهو متمرض ، ثم عاد إلى الصالحية ، فتمادى به مرضه إلى أن مات ، رحمه الله .
وخرج الركب إلى الحجاز الشريف يوم السبت حادي عشر شوال ، وخرج ناس وتجار كثير جدا ، وكان قد وقع قليل مطر ، فلما برزوا إلى الكسوة [ ص: 483 ] ونحوها ودونها ، ولم يخرج خلق كثير من البلد ، ووقع مطر عظيم جدا ، ففرح الناس به من جهة أن المطر كان قليلا جدا في شهر رمضان ، وهو كانون الأصم ، فلما وقع هذا استبشروا به وخافوا على الحجاج ضرره ، ثم تدارك المطر وتتابع ، ولله الحمد والمنة ، لكن ترحل الحجاج في أوحال كثيرة وزلق كثير ، والله المسلم والمعين والحامي . ولما استقل الحجيج ذاهبين وقع عليهم مطر شديد بالصنمين ، فعوقهم أياما بها ، ثم تحاملوا إلى زرع ، فلم يصلوها إلا بعد جهد جهيد وأمر شديد ، ورجع كثير منهم أو أكثرهم ، وذكروا أشياء عظيمة حصلت لهم من الشدة وقوة الأمطار وكثرة الأوحال ، ومنهم من كان تقدم إلى أرض بصرى ، فحصل لهم رفق بذلك ، والله المستعان . وذكر أن نساء كثيرة من المخدرات مشين حفاة فيما بين زرع والصنمين وبعد ذلك ، وكان أمير الحاج سيف الدين ملك آص ، وقاضيه شهاب بن الشجرة الحاكم بمدينة بعلبك يومئذ ، والله المستعان . انتهى .