[ ص: 492 ] ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وسبعمائة 
 استهلت هذه السنة وسلطان البلاد المصرية ، والشامية ، والحرمين ، وغير ذلك - الملك المظفر أمير حاجي ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون ،   ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين أرقطاي ،  وقضاة مصر  هم الذين كانوا في الماضية بأعيانهم ، ونائبه بالشام المحروسة سيف الدين يلبغا الناصري  ، وقضاة الشام  هم المذكورون في التي قبلها بأعيانهم ، غير أن القاضي عماد الدين الحنفي  نزل لولده قاضي القضاة نجم الدين ،  فباشر في حياة أبيه ، وحاجب الحجاب فخر الدين أياس    . 
واستهلت هذه السنة ونائب السلطنة في همة عالية في عمارة الجامع الذي قد شرع في بنائه غربي سوق الخيل ، بالمكان الذي كان يعرف بتل المشنقين    . 
وفي ثالث المحرم توفي قاضي القضاة شرف الدين محمد بن أبي بكر الهمداني المالكي ،  وصلي عليه بالجامع ، ودفن بتربته بميدان الحصا ، وتأسف الناس عليه لرياسته ودياثة أخلاقه ، وإحسانه إلى كثير من الناس ، رحمه الله . 
وفي يوم الأحد الرابع والعشرين من المحرم وصل تقليد قضاء المالكية للقاضي   [ ص: 493 ] جمال الدين المسلاتي  الذي كان نائبا للقاضي شرف الدين  قبله ، وخلع عليه من آخر النهار . 
وفي شهر ربيع الأول أخذوا لبناء الجامع المجدد بسوق الخيل أعمدة كثيرة من البلد وظاهر البلد ، يعلقون ما فوقه من البناء ويأخذونه ثم يقيمون بدله دعامة ، وأخذوا من درب الصيقل ،  وأخذوا العمود الذي كان بسوق العلبيين الذي في تلك الدخلة على رأسه مثل الكرة فيها حديد ، وقد ذكر الحافظ  ابن عساكر  أنه كان فيه طلسم لعسر بول الحيوان إذا داروا حوله بالدابة ينحل أراقيها . فلما كان يوم الأحد السابع والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة خلعوه من موضعه ، بعد ما كان له في هذا الموضع نحوا من أربعة آلاف سنة ، والله أعلم . وقد رأيته في هذا اليوم وهو ممدود في سوق العلبيين على الأخشاب ليجروه إلى الجامع المذكور من السوق الكبير ، ويخرجوا به من باب الجابية  الكبير ، فلا إله إلا الله . 
وفي أواخر شهر ربيع الآخر ارتفع بناء الجامع الذي أنشأه النائب ، وجفت العين التي كانت تحت جداره حين أسسوه ، ولله الحمد . 
وفي سلخ ربيع الآخر وردت الأخبار من الديار المصرية بمسك جماعة من أعيان الأمراء; كالحجازي ، وآق سنقر الناصري ،  ومن لف لفهما ، فتحرك الجند بالشام ،  ووقعت خبطة . ثم استهل شهر جمادى الأولى والجند في حركة   [ ص: 494 ] شديدة ، ونائب السلطنة يستدعي الأمراء إلى دار السعادة بسبب ما وقع بالديار المصرية ، وتعاهد هؤلاء على أن لا يؤذي أحدا أبدا ، وأن يكونوا يدا واحدة . 
وفي هذا اليوم تحول ملك الأمراء من دار السعادة إلى القصر الأبلق ، واحترز لنفسه ، وكذلك حاشيته . 
وفي يوم الأربعاء الرابع عشر منه قدم أمير من الديار المصرية على البريد ، ومعه كتاب من السلطان فيه التصريح بعزل ملك الأمراء يلبغا  نائب الشام  ، فقرئ عليه بحضرة الأمراء بالقصر الأبلق ، فتغمم لذلك وساءه ، وفيه طلبه إلى الديار المصرية على البريد ليولى نيابة الديار المصرية ، والظاهر أن ذلك خديعة له ، فأظهر الامتناع ، وأنه لا يذهب إلى الديار المصرية أبدا ، وقال : إن كان السلطان قد استكثر علي ولاية دمشق  ، فيوليني أي البلاد شاء ، فأنا راض بها . ورد الجواب بذلك . 
ولما أصبح من الغد وهو يوم الخميس وهو خامس عشره ، ركب فخيم قريبا من الجسورة ، في الموضع الذي خيم فيه عام أول ، وفي الشهر أيضا كما تقدم ، فبات ليلة الجمعة ، وأمر الأمراء بنصب الخيام هنالك على عادتهم عام أول . 
فلما كان يوم الجمعة سادس عشره بعد الصلاة ما شعر الناس إلا والأمراء قد اجتمعوا تحت القلعة ، وأحضروا من القلعة سنجقين سلطانيين أصفرين ، وضربوا الطبول حربيا ، فاجتمعوا كلهم تحت السنجق السلطاني ، ولم يتأخر منهم سوى النائب وذويه; كابنيه ، وإخوته ، وحاشيته ، والأمير سيف الدين   [ ص: 495 ] قلاوون  أحد مقدمي الألوف ، وخبزه أكبر أخباز الأمراء بعد النيابة ، فبعث إليه الأمراء أن هلم إلى السمع والطاعة للسلطان ، فامتنع من ذلك ، وتكررت الرسل بينهم وبينه فلم يقبل ، فساروا إليه في الطبلخاناه والبوقات ملبسين لأمة الحرب ، فلما انتهوا إليه ، وجدوه قد ركب خيوله ملبسا واستعد للهرب ، فلما واجههم هرب هو ومن معه ، وفروا فرار رجل واحد ، وساق الجند وراءه فلم يكتنفوا له غبارا ، وأقبل العامة وتركمان القبيبات ، فانتهبوا ما بقي في معسكره من الشعير ، والأغنام ، والخيام ، حتى جعلوا يقطعون الخيام والأطناب قطعا قطعا ، فعدم له ولأصحابه من الأمتعة ما يساوي ألف ألف درهم ، وانتدب لطلبه والمسير وراءه الحاجب الكبير الذي قدم من الديار المصرية قريبا ، والأمير شهاب الدين بن صبح  أحد مقدمي الألوف ، فسار على طريق الأشرفية ثم عدل إلى ناحية القريتين    . 
ولما كان يوم الأحد قدم الأمير فخر الدين إياس  نائب صفد  منها ، فتلقاه الأمراء والمقدمون ، ثم جاء فنزل القصر ، وركب من آخر النهار في الجحافل ، ولم يترك بدمشق  أحدا من الجند إلا ركب معه ، وساق وراء يلبغا  ومن معه ، وأتبعهم الأزواد والأثقال ، وساق يلبغا  فابتدأ نحو البرية ، فجعلت الأعراب يعترضونه من كل جانب ، وما زالوا يكفونه حتى سار نحو حماة ،  فخرج إليه نائبها وقد ضعف أمره جدا ، وكل هو ومن معه من كثرة السوق ومصاولة الأعداء من كل جانب ، فألقى بيده ، وأخذ سيفه وسيوف من معه ، واعتقلوا بحماة ،  وبعث بالسيوف إلى الديار المصرية ، وجاء الخبر إلى دمشق  صبيحة يوم   [ ص: 496 ] الأربعاء رابع عشر هذا الشهر ، فضربت البشائر بالقلعة وعلى باب الميادين على العادة ، وأحدقت العساكربحماة  من كل جانب ينتظرون ما رسم به السلطان من شأنه ، وقام إياس  بجيش دمشق  على حمص  ، وكذلك جيش طرابلس  ، ثم دخلت العساكر راجعة إلى دمشق  يوم الخميس التاسع والعشرين من الشهر ، وقدم يلبغا  مقيدا على كديش هو وأبوه ، وحوله الأمراء الموكلون به ومن معه من الجنود ، فدخلوا به بعد عشاء الآخرة ، فاجتازوا به في سوق السبقة بعد ما غلقت الأسواق ، وطفئت السرج ، وغلقت الطاقات ، ثم مروا على الشيخ رسلان  والباب الشرقي على باب الصغير ،  ثم من عند مسجد الذبان على المصلى ، واستمروا ذاهبين نحو الديار المصرية ، وتواترت البريدية من السلطان بما رسم به في أمره وأصحابه الذين خرجوا معه; من الاحتياط على حواصلهم ، وأموالهم ، وأملاكهم ، وغير ذلك ، وقدم البريد من الديار المصرية يوم الأربعاء رابع جمادى الآخرة ، فأخبر بقتل يلبغا  فيما بين قاقون وغزة ،  وأخذت رءوسهما إلى السلطان ، وكذلك قتل بغزة  الأمراء الثلاثة الذين خرجوا من مصر ،  وهم الوزير ابن سرد بن البغدادي ، والدوادار طغيتمر ، وبيدمر البدري  أحد المقدمين ، كان قد نقم عليه السلطان ممالأة يلبغا ،  فأخرجهم من مصر  مسلوبين جميع أموالهم ، وسيرهم إلى الشام  ، فلما كانوا بغزة  لحقهم البريد بقتلهم حيث وجدهم ،   [ ص: 497 ] وكذلك رسم بقتل يلبغا  حيث التقاه من الطريق ، فلما انفصل البريد من غزة  ، التقى يلبغا  في طريق وادي فحمة ،  فخنقه ثم احتز رأسه وذهب به إلى السلطان ، وقدم أميران من الديار المصرية بالحوطة على حواصل يلبغا وطواشي من بيت المملكة ، فتسلم مصاغا وجواهر نفيسة جدا ، ورسم ببيع أملاكه وما كان وقفه على الجامع الذي كان قد شرع بعمارته بسوق الخيل ، وكان قد اشتهر أنه وقف عليه القيسارية التي كان أنشأها ظاهر باب الفرج ،  والحمامين المتجاورين ظاهر باب الجابية  غربي خان السلطان العتيق ، وخصصا في قرايا أخر كان قد استشهد على نفسه بذلك قبل ذلك ، فالله أعلم . ثم طلب بقية أصحابه من حماة ،  فحملوا إلى الديار المصرية ، وعدم خبرهم ، فلا يدرى على أي صفة هلكوا . 
وفي صبيحة يوم الثلاثاء الثامن عشر من جمادى الآخرة من هذه السنة دخل الأمير سيف الدين أرغون شاه دمشق   المحروسة نائبا عليها ، وكان قدومه من حلب  ، انفصل عنها ، وتوجه إليها الأمير فخر الدين إياس  الحاجب ، فدخلها أرغون  شاه في أبهة النيابة ، وعليه خلعة وعمامة بطرفين ، وهو قريب الشكل من تنكز  رحمه الله ، فنزل دار السعادة وحكم بها ، وفيه صرامة وشهامة . 
وفي يوم الخميس الآخر الثالث والعشرين منه صلي على الأمير علاء الدين بن قراسنقر  بالجامع الأموي وظاهر باب النصر ،  وحضر القضاة ، والأعيان ،   [ ص: 498 ] والأمراء ، ودفن بتربته بميدان الحصا بالقرب من الجامع الكريمي . 
وعملت ليلة النصف على العادة من إشعال القناديل ، ولم يشتغل الناس بما هم فيه من الغلاء ، وتأخر المطر ، وقلة الغلة ، وغلاء السعر ، كل رطل إلا وقية بدرهم ، وهو متغير ، وسائر الأشياء غالية ، والزيت كل رطل بأربعة ونصف ، ومثله الشيرج ، والصابون ، والأرز ، والعنبريس ، كل رطل بثلاثة ، وسائر الأطعمات على هذا النحو ، وليس شيء قريب الحال سوى اللحم بدرهمين وربع ، ونحو ذلك ، وغالب أهل  حوران يردون من الأماكن البعيدة ، ويجلبون القمح للمؤنة والبدار من دمشق  ، وبيع عندهم القمح المغربل كل مد بأربعة دراهم ، وهم في جهد شديد ، والله هو المأمول المسئول ، وإذا سافر أحد شق عليه تحصيل الماء لنفسه ولفرسه ودابته; لأن المياه التي في الدرب كلها نفدت ، وأما القدس  فأشد حالا وأبلغ في ذلك . 
ولما كان العشر الأخير من شعبان من هذه السنة من الله سبحانه وتعالى ، وله الحمد والمنة على عباده بإرسال الغيث المتدارك الذي أحيا العباد والبلاد ، وتراجع الناس إلى أوطانهم; لوجود الماء في الأودية والغدران ، وامتلأت بركة زرع بعد أن لم يكن فيها قطرة ، وجاءت بذلك البشائر إلى نائب السلطنة ، وذكر أن الماء عم البلاد كلها ، وأن الثلج على جبل بني هلال  كثير ، وأما الجبال التي حول   [ ص: 499 ] دمشق  فعليها ثلوج كثيرة جدا ، واطمأنت القلوب ، وحصل فرح شديد ، ولله الحمد والمنة ، وذلك في آخر يوم بقي من تشرين الثاني . 
وفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من رمضان توفي الشيخ عز الدين محمد الحنبلي  بالصالحية ، وهو خطيب الجامع المظفري ، وكان من الصالحين المشهورين رحمه الله ، وكان كثيرا ما يلقن الأموات بعد دفنهم ، فلقنه الله حجته ، وثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة . 
				
						
						
