كائنة عجيبة غريبة جدا
ثم لما كان يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة خمسين وسبعمائة ، وقع اختلاف بين جيش دمشق وبين الأمير سيف الدين ألجيبغا نائب طرابلس ، الذي جاء فأمسك نائب دمشق الأمير سيف الدين أرغون شاه الناصري ليلة الخميس ، وقتله ليلة الجمعة كما تقدم ، وأقام بالميدان الأخضر يستخلص أمواله ، وحواصله ، ويجمعها عنده ، فأنكر عليه الأمراء الكبار ، وأمروه أن يحمل الأموال إلى قلعة السلطان ، فلم يقبل منهم ، فاتهموه في أمره ، وشكوا في الكتاب الذي على يده من الأمر بمسكه وقتله ، وركبوا ملبسين تحت القلعة وأبواب الميادين ، وركب هو في أصحابه وهم في دون المائة ، وقائل [ ص: 514 ] يقول : هم ما بين السبعين إلى الثمانين والتسعين . جعلوا يحملون على الجيش حمل المستقبلين ، إنما يدافعهم مدافعة المتبرمين ، وليس معهم مرسوم بقتلهم ولا قتالهم; فلهذا ولى أكثرهم منهزمين ، فخرج جماعة من الجيش حتى بعض الأمراء المقدمين ، وهو الأمير الكبير سيف الدين ألجيبغا العادلي ، فقطعت يده اليمنى ، وقد قارب التسعين ، وقتل آخرون من أجناد الحلقة والمستخدمين ، ثم انفصل الحال على أن أخذ ألجيبغا المظفري من خيول أرغون شاه المرتبطة في إسطبله ما أراد ، ثم انصرف من ناحية المزة صاعدا على عقبتها ، ومعه الأموال التي جمعها من حواصل أرغون شاه ، واستمر ذاهبا ، ولم يتبعه أحد من الجيش ، وصحبته الأمير فخر الدين إياس الذي كان حاجبا ، وناب في حلب في العام الماضي ، فذهبا بمن معهما إلى طرابلس ، وكتب أمراء الشام إلى السلطان يعلمونه بصورة ما وقع ، فجاء البريد بأنه ليس عند السلطان علم بما وقع بالكلية ، وأن الكتاب الذي جاء على يديه مفتعل ، وجاء الأمر لأربعة آلاف من جيش دمشق أن يسيروا وراءه ليمسكوه ، ثم أضيف نائب صفد مقدما على الجميع ، فخرجوا في العشر الأول من ربيع الآخر .
وفي يوم الأربعاء سادس ربيع الآخر خرجت العساكر في طلب سيف الدين ألجيبغا الذي فعل الأفاعيل ، وخرج من دمشق بالسالمي بعد ما قتل نائب [ ص: 515 ] سلطنتها وجماعة من أهلها ، وجرح خلقا من أجنادها ، وقطعت يد الأمير سيف الدين ألجيبغا العادلي في المعركة ، وهو أحد الأمراء الألوف المقدمين .
ولما كانت ليلة الخميس سابعه نودي بالبلد على من يقربها من الأجناد أن لا يتأخر أحد عن الخروج بالغد ، فأصبحوا في سرعة عظيمة ، واستنيب في البلد نيابة عن النائب الراتب الأمير بدر الدين بن الخطير ، فحكم بدار السعادة على عادة النواب .
وفي ليلة السبت بين العشاءين سادس عشره دخل الجيش الذين خرجوا في طلب ألجيبغا المظفري ، وهو معهم أسير ذليل حقير ، وكذلك الفخر إياس الحاجب مأسور معهم ، فأودعا في القلعة مهانين من جسر باب النصر الذي تجاه دار السعادة ، وذلك بحضور الأمير بدر الدين الخطير في دار السعادة وهو نائب الغيبة ، ففرح الناس بذلك فرحا شديدا ، ولله الحمد والمنة .
فلما كان يوم الاثنين الثامن عشر منه خرجا من القلعة إلى سوق الخيل ، فوسطا بحضرة الجيش ، وعلقت جثتهما على الخشب ليراهما الناس ، فمكثا أياما ثم أنزلا فدفنا بمقابر المسلمين .
وفي أوائل شهر جمادى الآخرة جاء الخبر بموت نائب حلب سيف الدين قطليشا ، ففرح كثير من الناس بموته ، وذلك لسوء أعماله في مدينة حماة في [ ص: 516 ] زمن الطاعون ، وذكروا أنه كان يحتاط على التركة وإن كان فيها ولد ذكر أو غيره ، ويأخذ من أموال الناس جهرة ، حتى حصل له منها شيء كثير ، ثم نقل إلى حلب بعد نائبها الأمير سيف الدين أرقطاي الذي كان عين لنيابة دمشق بعد موت أرغون شاه ، وخرج الناس لتلقيه ، فما هو إلا أن برز منزلة واحدة من حلب فمات بتلك المنزلة ، فلما صار قطليشا إلى حلب لم يقم بها إلا يسيرا حتى مات ، ولم ينتفع بتلك الأموال التي كان حصلها ، لا في دنياه ولا في أخراه .
ولما كان يوم الخميس الحادي عشر من جمادى الآخرة دخل الأمير سيف الدين أيتمش الناصري من الديار المصرية إلى دمشق نائبا عليها ، وبين يديه الجيش على العادة ، فقبل العتبة ، ولبس الحياصة والسيف ، وأعطي تقليده ومنشوره هنالك ، ثم وقف في الموكب على عادة النواب ، ورجع إلى دار السعادة ، وحكم ، وفرح الناس به ، وهو حسن الشكل ، تام الخلقة ، وكان الشام بلا نائب مستقل قريبا من شهرين ونصف ، وفي يوم دخوله حبس أربعة من أمراء الطبلخاناه; وهم القاسمي ، وأولاد الأبوبكري الثلاثة ، اعتقلهم في القلعة لممالأتهم ألجيبغا المظفري على أرغون شاه نائب الشام .
وفي يوم الاثنين خامس عشر جمادى الآخرة حكم القاضي نجم الدين ابن [ ص: 517 ] القاضي عماد الدين الطرسوسي الحنفي ، وذلك بتوقيع سلطاني ، وخلعة من الديار المصرية .
وفي يوم الثلاثاء سادس عشر جمادى الآخرة حصل الصلح بين قاضي القضاة تقي الدين السبكي ، وبين الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية ، على يدي الأمير سيف الدين بن فضل ملك العرب ، في بستان قاضي القضاة ، وكان قد نقم عليه إكثاره من الفتيا بمسألة الطلاق .
وفي يوم الجمعة السادس والعشرين منه نقلت جثة الأمير سيف الدين أرغون شاه من مقابر الصوفية إلى تربته التي أنشأها تحت الطارمة ، وشرع في تكميل التربة والمسجد الذي قبلها ، وذلك أنه عاجلته المنية على يدي ألجيبغا المظفري قبل إتمامهما ، وحين قتلوه ذبحا دفنوه ليلا في مقابر الصوفية قريبا من قبر الشيخ ثم حول إلى تربته في الليلة المذكورة . تقي الدين بن الصلاح ،
وفي يوم السبت تاسع عشر رجب أذن المؤذنون للفجر قبل الوقت بقريب من ساعة ، فصلى الناس في الجامع الأموي على عادتهم في ترتيب الأئمة ، ثم رأوا الوقت باقيا ، فأعاد الخطيب الفجر بعد صلاة الأئمة كلهم ، وأقيمت الصلاة ثانيا ، وهذا شيء لم يتفق مثله .
[ ص: 518 ] وفي يوم الخميس ثامن شهر شعبان توفي قاضي القضاة علاء الدين بن منجا الحنبلي بالمسمارية ، وصلي عليه الظهر بالجامع الأموي ، ثم بظاهر باب النصر ، ودفن بسفح قاسيون ، رحمه الله .
وفي يوم الاثنين من رمضان بكرة النهار استدعي الشيخ جمال الدين المرداوي من الصالحية إلى دار السعادة ، وكان تقليد القضاء لمذهبه قد وصل إليه قبل ذلك بأيام ، فأحضرت الخلعة بين يدي النائب والقضاة الباقين ، وأريد على لبسها وقبول الولاية ، فامتنع من ذلك ، فألحوا عليه فصمم ، وبالغ في الامتناع جدا ، وخرج وهو مغضب ، فراح إلى الصالحية فبالغ الناس في تعظيمه ، وبقي القضاة يوم ذلك في دار السعادة ، ثم بعثوا إليه بعد الظهر فحضر من الصالحية ، فلم يزالوا به حتى قبل ولبس الخلعة ، وخرج إلى الجامع فقرئ تقليده بعد العصر ، واجتمع معه القضاة وهنأه الناس بذلك ، وفرحوا به; لديانته ، وصيانته ، وفضيلته ، وأمانته .
وبعد هذا اليوم بأيام حكم الفقيه شمس الدين محمد بن مفلح الحنبلي نيابة عن قاضي القضاة جمال الدين المرداوي المقدسي ، وابن مفلح زوج ابنته .
[ ص: 519 ] وفي العشر الأخير من ذي القعدة حضر الفقيه الإمام المحدث المفيد أمين الدين الإيجي المالكي مشيخة دار الحديث بالمدرسة الناصرية الجوانية ، نزل له عنها الصدر أمين الدين بن القلانسي وكيل بيت المال ، وحضر عنده الأكابر والأعيان .
وفي أواخر هذه السنة تكامل بناء التربة التي تحت الطارمة المنسوبة إلى الأمير سيف الدين أرغون شاه ، الذي كان نائب السلطنة بدمشق ، وكذلك القبلي منها ، وصلى فيها الناس ، وكان قبل ذلك مسجدا صغيرا فعمره ، وكبره ، وجاء كأنه جامع ، تقبل الله منه .