بيبغا آروس إلى دمشق دخول
ولما كان يوم الأربعاء الرابع والعشرين من رجب دخل الأمير سيف الدين بيبغا آروس - نائب حلب - إلى دمشق المحروسة بمن معه من العساكر الحلبية ، وغيرهم ، وفي صحبته نائب طرابلس الأمير سيف الدين بكلمش ، ونائب حماة الأمير شهاب الدين أحمد ، ونائب صفد الأمير علاء الدين طيبغا - يلقب [ ص: 545 ] برناق - وكان قد توجه قبله قيل : بيوم . ومعه نواب قلاع كثيرة من بلاد حلب وغيرها ، في عدد كثير من الأتراك والتركمان ، فوقف في سوق الخيل مكان نواب السلطان تحت القلعة ، واستعرض الجيوش الذين وفدوا معه هناك ، فدخلوا في تجمل كثير ملبسين ، وكان عدة من كان معه من أمراء الطبلخاناه قريبا من ستين أميرا ، يزيدون أو ينقصون ، على ما استفاض عن غير واحد ممن شاهد ذلك ، ثم سار قريبا من الزوال إلى المخيم الذي ضرب له قبل مسجد القدم عند قبة بيبغا عند الجدول الذي هناك ، وكان يوما مشهودا هائلا; لما عاين الناس من كثرة الجيوش والعدد ، وعذر كثير من الناس صاحب دمشق في ذهابه بمن معه لئلا يقاتل هؤلاء ، فنسأل الله أن يجمع قلوبهم على ما فيه صلاح المسلمين . وقد أرسل إلى نائب القلعة ، وهو الأمير سيف الدين أياجي - يطلب منه حواصل أرغون التي عنده ، فامتنع عليه أيضا ، وقد حصن القلعة ، وسترها ، وأرصد فيها الرجال ، والرماة ، والعدد ، وهيأ بعض المجانيق ليبعد بها فوق الأبرجة ، وأمر أهل البلد أن لا يفتحوا الدكاكين ، ويغلقوا الأسواق ، وجعل [ ص: 546 ] يغلق أبواب البلد إلا بابا أو بابين منها ، واشتد حنق العسكر عليه ، وهموا بأشياء كثيرة من الشر ، ثم يرعوون عن الناس ، والله المسلم ، غير أن أقيال العسكر وأطرافه قد عاثوا فيما جاوروه من القرايا ، والبساتين ، والكروم ، والزروع ، فيأخذون ما يأكلون وتأكل دوابهم ، وأكثر من ذلك ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . ونهبت قرايا كثيرة ، وفجروا بنساء وبنات ، وعظم الخطب ، وأما التجار ومن يذكر بكثرة مال فأكثرهم مختف لا يظهر لما يخشى من المصادرة ، نسأل الله أن يحسن عاقبتهم .
واستهل شهر شعبان ، وأهل البلد في خوف شديد ، وأهل القرايا والحواضر في نقلة أثاثهم ، وأبقارهم ، ودوابهم ، وأبنائهم ، ونسائهم ، وأكثر أبواب البلد مغلقة سوى بابي الفراديس ، والجابية ، وفي كل يوم نسمع بأمور كثيرة من النهب للقرايا ، والحواضر ، حتى انتقل كثير من أهل الصالحية أو أكثرهم ، وكذلك من أهل العقيبة ، وسائر حواضر البلد ، فنزلوا عند معارفهم وأصحابهم ، ومنهم من نزل على قارعة الطريق بنسائهم وأولادهم ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وقال كثير من المشايخ الذين أدركوا زمن قازان : إن هذا الوقت كان أصعب من ذلك; لما ترك الناس من ورائهم من الغلات ، والثمار التي هي عمدة قوتهم في سنتهم ، وأما أهل البلد ففي قلق شديد أيضا لما يبلغهم [ ص: 547 ] في كل وقت من الأراجيف أنهم على عزم نهب البلد ، فجعل كثير من الناس يودعون عزيز ما يملكون عند من يأمنون ، واشتد الحال جدا ، وخاف كثير من الناس أو أكثرهم من العار; لما يبلغهم عنهم من الفجور بالنساء ، وجعلوا يدعون عقيب الصلوات عليهم ، يصرحون بأسمائهم ، ويعقبون بأسماء أمرائهم وأتباعهم ، ونائب القلعة الأمير سيف الدين أياجي الناصري في كل وقت يسكن جأش الناس ، ويقوي عزمهم ، ويبشرهم بخروج العساكر المنصورة من الديار المصرية صحبة السلطان إلى بلاد غزة حيث الجيش الدمشقي ، ليجيئوا كلهم في خدمته وبين يديه ، وتدق البشائر فيفرح الناس ، ثم تسكن الأخبار ، وتبطل الروايات فتقلق ، ويخرجون في كل يوم وساعة في تجمل عظيم ، ووعد ، وهيئات حسنة ، ثم جاء السلطان - أيده الله تعالى - وقد ترجل الأمراء بين يديه من حين بسط له عند مسجد الذبان إلى داخل القلعة المنصورة ، وهو لابس قباء أحمر له قيمته ، على فرس أصيلة مؤدبة معلمة المشي على القوس لا تحيد عنه ، وهو حسن الصورة ، مقبول الطلعة ، عليه بهاء المملكة والرياسة ، والخز فوق رأسه يحمله بعض الأمراء الأكابر ، وكلما عاينه من عاينه من الناس يبتلهون بالدعاء بأصوات عالية ، والنساء بالزغرطة ، وفرح الناس فرحا [ ص: 548 ] شديدا ، وكان يوما مشهودا ، وأمرا حميدا ، جعله الله مباركا على المسلمين ، فنزل بالقلعة المنصورة ، وقد قدم معه الخليفة المعتضد أبو الفتح بن أبي بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد ، وكان راكبا إلى جانبه من ناحية اليسار ، ونزل بالمدرسة الدماغية في أواخر هذا اليوم سائر الأمراء مع نائب الشام ، ومقدمهم طاز ، وشيخون - في طلب بيبغا ، ومن معه من البغاة المفسدين .
وفي يوم الجمعة ثانيه حضر السلطان - أيده الله - إلى الجامع الأموي ، وصلى فيه الجمعة بالمشهد الذي يصلي فيه نواب السلطان - أيده الله - فكثر الدعاء والمحبة له ذاهبا وآيبا - تقبل الله منه - وكذلك فعل في الجمعة الأخرى ، وهي تاسع الشهر .
وفي يوم السبت عاشره اجتمعنا - يقول الشيخ عماد الدين بن كثير المصنف ، رحمه الله - بالخليفة المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد ، وسلمنا عليه ، وهو نازل بالمدرسة الدماغية داخل باب الفرج ، وقرأت عنده جزءا فيه ما رواه عن أحمد بن حنبل ، في " مسنده " ، وذلك عن الشيخ محمد بن إدريس الشافعي عز الدين بن الضياء الحموي بسماعه من ابن البخاري وزينب بنت مكي ، عن [ ص: 549 ] أحمد بن الحصين ، عن ابن المذهب ، عن عن أبي بكر بن مالك ، عبد الله بن أحمد ، عن أبيه - فذكرهما ، والمقصود أنه شاب حسن الشكل ، مليح الكلام ، متواضع ، جيد الفهم ، حلو العبارة ، رحم الله سلفه .
وفي رابع عشره قدم البريد من بلاد حلب بسيوف الأمراء الممسوكين من أصحاب بيبغا . وفي يوم الخميس خامس عشره وقت العصر نزل السلطان الملك الصالح من الطارمة إلى القصر الأبلق في أبهة المملكة ، ولم يحضر يوم الجمعة إلى الصلاة ، بل اقتصر على الصلاة بالقصر المذكور .
وفي يوم الجمعة باكر النهار دخل الأمير سيف الدين شيخون ، وطاز بمن معهما من العساكر من بلاد حلب ، وقد فات تدارك بيبغا وأصحابه; لدخولهم بلاد ابن دلغادر التركماني بمن بقي معهم ، وهم القليل ، وقد أسر جماعة من الأمراء الذين كانوا معه ، وهم في القيود والسلاسل صحبة الأميرين المذكورين ، فدخلا على السلطان - وهو بالقصر الأبلق - فسلما عليه ، وقبلا الأرض ، وهنآه بالعيد ، ونزل طاز بدار أيتمش بالشرق الشمالي ، ونزل شيخون بدار إياس الحاجب بالقرب من الظاهرية البرانية ، ونزل بقية الجيش في أرجاء البلد ، وأما الأمير سيف الدين أرغون فأقام بحلب نائبا بها عن سؤاله إلى ما ذكر ، وخوطب في تقليده بألقاب هائلة ، ولبس خلعة سنية ، وعظم تعظيما زائدا; ليكون هناك ألبا على بيبغا وأصحابه لشدة ما بينهما [ ص: 550 ] من العداوة ، ثم صلى السلطان بمن معه من المصريين ، ومن انضاف إليهم من الشاميين صلاة عيد الفطر بالميدان الأخضر ، وخطب بهم القاضي تاج الدين المناوي المصري - قاضي العسكر المصري - بمرسوم السلطان وذويه ، وخلع عليه .