غريبة من الغرائب ، وعجيبة من العجائب
وقد كثرت المياه في هذا الشهر ، وزادت الأنهار زيادة كثيرة جدا ، بحيث إنه فاض الماء في سوق الخيل من نهر بردى حتى عم جميع العرصة المعروفة بموقف الموكب ، بحيث إنه أجريت فيه المراكب بالكرا ، وركبت فيه المارة من جانب إلى جانب ، واستمر ذلك جمعا متعددة ، وامتنع نائب السلطنة والجيش من الوقوف هناك ، وربما وقف نائب السلطنة بعض الأيام تحت الطارمة تجاه باب الإسطبل السلطاني ، وهذا أمر لم يعهد مثله ، ولا رأيته قط في مدة عمري ، وقد سقطت بسبب ذلك بنايات ودور كثيرة ، وتعطلت طواحين كثيرة غمرها الماء .
وفي ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى توفي الصدر شمس الدين [ ص: 674 ] عبد الرحمن ابن الشيخ عز الدين بن منجا التنوخي بعد العشاء الآخرة ، وصلي عليه بجامع دمشق بعد صلاة الظهر ، ودفن بالسفح .
وفي صبيحة هذا اليوم توفي الشيخ ناصر الدين محمد بن أحمد القونوي الحنفي ، خطيب جامع يلبغا ، وصلي عليه عقيب صلاة الظهر أيضا ، ودفن بالصوفية ، وقد باشر عوضه الخطابة والإمامة ، قاضي القضاة جمال الدين الكفري الحنفي .
وفي عصر هذا اليوم توفي القاضي علاء الدين ابن القاضي شرف الدين ابن القاضي شمس الدين بن الشهاب محمود الحلبي ، أحد موقعي الدست بدمشق ، وصلي عليه يوم الأربعاء ، ودفن بالسفح .
وفي يوم الجمعة الثالث والعشرين منه خطب قاضي القضاة جمال الدين الكفري الحنفي بجامع يلبغا عوضا عن الشيخ ناصر الدين بن القونوي ، رحمه الله تعالى ، وحضر عنده نائب السلطنة الأمير سيف الدين قشتمر ، وصلى معه قاضي القضاة تاج الدين الشافعي بالشباك الغربي القبلي منه ، وحضر خلق من الأمراء والأعيان ، وكان يوما مشهودا ، وخطب ابن نباتة بأداء حسن ، وفصاحة بليغة ، هذا مع علم أن كل مركب صعب .
وفي يوم السبت خامس عشر جمادى الآخرة توجه الشيخ شرف الدين [ ص: 675 ] القاضي الحنبلي إلى الديار المصرية بطلب الأمير سيف الدين يلبغا في كتاب كتبه إليه يستدعيه ، ويستحثه في القدوم عليه .
وفي يوم الثلاثاء ثاني شهر رجب سقط اثنان سكارى من سطح بحارة اليهود ، أحدهما مسلم والآخر يهودي ، فمات المسلم من ساعته ، وانقلعت عين اليهودي وانكسرت يده ، لعنه الله ، وحمل إلى نائب السلطنة فلم يحر جوابا .
ورجع الشيخ شرف الدين ابن قاضي الجبل بعدما قارب غزة ; لما بلغه من الوباء بالديار المصرية ، فعاد إلى القدس الشريف ، ثم رجع إلى وطنه فأصاب السنة ، وقد وردت كتب كثيرة تخبر بشدة بمصر ، وأنه يضبط من أهلها في النهار نحو الألف ، وأنه مات جماعة ممن يعرفون كولدي قاضي القضاة الوباء والطاعون تاج الدين المناوي ، وكاتب الحكم بن الفرات ، وأهل بيته أجمعين ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وجاء الخبر في أواخر شهر رجب بموت جماعة بمصر ; منهم أبو حاتم ابن الشيخ بهاء الدين السبكي المصري بمصر ، وهو شاب لم يستكمل العشرين ، وقد درس بعدة جهات بمصر وخطب ، ففقده والده ، وتأسف الناس عليه ، وعزوا فيه عمه قاضي القضاة تاج الدين السبكي قاضي الشافعية بدمشق . وجاء الخبر بموت قاضي القضاة شهاب الدين أحمد الرباحي المالكي ، كان بحلب ، وليها مرتين ثم عزل ، فقصد مصر ، واستوطنها مدة ليتمكن من السعي في العودة ، فأدركته منيته في هذه السنة من الفناء ، وولدان له معه أيضا .
[ ص: 676 ] وفي يوم السبت سادس شعبان توجه نائب السلطنة في صحبة جمهور الأمراء إلى ناحية تدمر; لأجل الأعراب وأصحاب حيار بن مهنا ومن التف عليه منهم ، وقد دمر بعضهم بلد تدمر ، وحرقوا كثيرا من أشجارها ورعوها ، وانتهبوا شيئا كثيرا ، وخرجوا عن الطاعة ، وذلك بسبب قطع إقطاعاتهم ، وتملك أملاكهم ، والحيلولة عليهم ، فركب نائب السلطنة بمن معه - كما ذكرنا - لطردهم عن تلك الناحية ، وفي صحبتهم الأمير حمزة بن الخياط أحد أمراء الطبلخاناه ، وقد كان حاجبا لحيار قبل ذلك ، فرجع عنه ، وألب عليه عند الأمير الكبير يلبغا الخاصكي ، ووعده إن هو أمره وكبره أن يظفر بحيار ، وأن يأتيه برأسه ، ففعل معه ذلك ، فقدم إلى دمشق ومعه مرسوم بركوب الجيش معه إلى حيار وأصحابه ، فساروا كما ذكرنا ، فوصلوا إلى تدمر ، وهربت الأعراب من بين يدي نائب الشام يمينا وشمالا ، ولم يواجهوه هيبة له ، ولكنهم يتحرفون على حمزة بن الخياط ، ثم بلغنا أنهم بيتوا الجيش ، فقتلوا منه طائفة ، وجرحوا آخرين ، وأسروا آخرين فإنا لله وإنا إليه راجعون .