[ ص: 683 ] ثم دخلت سنة خمس وستين وسبعمائة
استهلت هذه السنة وسلطان الديار المصرية ، والشامية ، والحرمين ، وما يتبع ذلك - الملك الأشرف ناصر الدين شعبان ابن سيدي حسين ابن السلطان الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون الصالحي ، وهو في عمر عشر سنين ، ومدبر الممالك بين يديه الأمير الكبير نظام الملك سيف الدين يلبغا الخاصكي ، وقضاة مصر هم المذكورون في السنة التي قبلها ، ووزيرها فخر الدين بن قروينه ، ونائب دمشق الأمير سيف الدين منكلي بغا الشمسي ، وهو مشكور السيرة ، وقضاتها هم المذكورون في السنة التي قبلها ، وناظر الدواوين بها الصاحب سعد الدين ماجد ، وناظر الجيش علم الدين داود ، وكاتب السر القاضي فتح الدين بن الشهيد ، ووكيل بيت المال القاضي جمال الدين بن الرهاوي .
استهلت هذه السنة وداء الفناء موجود في الناس ، إلا أنه خف وقل ، ولله الحمد . وفي يوم السبت توجه قاضي القضاة - وكان بهاء الدين أبا البقاء السبكي - إلى الديار المصرية مطلوبا من جهة الأمير يلبغا ، وفي الكتاب إجابته له إلى ما سأل . وتوجه بعده قاضي القضاة تاج الدين - الحاكم بدمشق وخطيبها - يوم [ ص: 684 ] الاثنين الرابع عشر من المحرم على خيل البريد . وتوجه بعدهما الشيخ شرف الدين ابن قاضي الجبل الحنبلي ، مطلوبا إلى الديار المصرية ، وكذلك توجه الشيخ ولي الدين المنفلوطي مطلوبا .
وتوفي في العشر الأوسط من المحرم صاحبنا الشيخ شمس الدين بن العطار الشافعي ، كان لديه فضيلة ، واشتغال ، وله فهم ، وعلق بخطه فوائد جيدة ، وكان إماما بالسجن من مشهد علي بن الحسين بجامع دمشق ، ومصدرا بالجامع ، وفقيها بالمدارس ، وله مشيخة الحديث الوادعية ، وجاوز الخمسين بسنوات ، ولم يتزوج قط . وقدم الركب الشافعي إلى دمشق يوم الخميس الرابع والعشرين من المحرم ، وهم شاكرون مثنون بكل خير عن هذه السنة أمنا ورخصا ، ولله الحمد .
وفي يوم الأحد حادي عشر صفر درس بالمدرسة الفتحية صاحبنا الشيخ عماد الدين إسماعيل بن خليفة الحسباني الشافعي ، وحضر عنده جماعة من الأعيان والفضلاء ، وأخذ في قوله تعالى : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا [ التوبة : 36 ] .
وفي يوم الخميس خامس عشره أهل الذمة بإلزامهم بالصغار ، وتصغير العمائم ، وأن نودي في البلد على ، وأن لا يستخدموا في شيء من الأعمال ، ويركبون الحمير بالأكف بالعرض ، وأن لا [ ص: 685 ] يركبوا الخيل ، ولا البغال ، وأن يكون أحد النعلين أسود مخالفا للون الأخرى ، ففرح بذلك المسلمون ، ودعوا للآمر بذلك . يكون في رقابهم ورقاب نسائهم في الحمامات الأجراس
وفي يوم الأحد ثالث ربيع الأول قدم قاضي القضاة تاج الدين من الديار المصرية مستمرا على القضاء ، والخطابة ، فتلقاه الناس ، وهنئوه بالعود والسلامة .
وفي يوم الخميس سابعه لبس القاضي الصاحب البهنسي الخلعة لنظر الدواوين بدمشق ، وهنأه الناس ، وباشر بصرامة ، واستعمل في غالب الجهات من أبناء المسلمين . وفي يوم الاثنين حادي عشره ركب قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح على خيل البريد متوجها إلى الديار المصرية; لتوليه قضاء قضاة الشافعية بدمشق عن رضى من خالة قاضي القضاة تاج الدين ، ونزوله عن ذلك .
وفي ليلة الخميس خامس ربيع الآخر احترقت الباشورة التي ظاهر باب الفرج على الجسر ، ونال حجارة الباب شيء من حريقها فاتسعت ، وقد حضر طفأها نائب السلطنة ، والحاجب الكبير ، ونائب القلعة ، والولاة ، وغيرهم . وفي صبيحة هذا اليوم زاد النهر زيادة عظيمة بسبب كثرة الأمطار ، وذلك في أوائل كانون الثاني ، وركب الماء سوق الخيل بكماله ، ووصل إلى ظاهر باب الفراديس ، [ ص: 686 ] وتلك النواحي ، وكسر جسر الخشب الذي عند جامع يلبغا ، وجاء فصدم به جسر الزلابية فكسره أيضا . وفي يوم الخميس ثاني عشره صرف حاجب الحجاب قماري عن المباشرة بدار السعادة ، وأخذت القضاة من يده ، وانصرف إلى داره في قل من الناس ، واستبشر بذلك كثير من الناس; لكثرة ما كان يفتات على الأحكام الشرعية .
وفي أواخره اشتهر موت القاضي تاج الدين المناوي بديار مصر ، وولاية قاضي القضاة بهاء الدين أبي البقاء السبكي مكانه بقضاء العساكر بها ، ووكالة السلطان أيضا ، ورتب له مع ذلك كفايته . وتولى في هذه الأيام الشيخسراج الدين البلقيني إفتاء دار العدل مع الشيخ بهاء الدين أحمد ابن قاضي القضاة السبكي بالشام ، وقد ولي هو أيضا قضاء الشام ، كما تقدم ، ثم عاد إلى مصر موقرا مكرما ، وعاد أخوه تاج الدين إلى الشام ، وكذلك ولوا مع البلقيني إفتاء دار العدل لحنفي يقال له : الشيخ شمس الدين بن الصائغ ، وهو مفت حنفي أيضا .
وفي يوم الاثنين سابع ربيع الأول توفي الشيخ نور الدين محمد ابن الشيخ أبي بكر ابن الشيخ محمد ابن الشيخ أبي بكر بن قوام بزاويتهم بسفح جبل قاسيون ، وغدا الناس إلى جنازته . وقد كان من العلماء الفضلاء الفقهاء بمذهب [ ص: 687 ] الشافعي ، درس بالناصرية البرانية مدة سنين بعد أبيه ، وبالرباط الدويداري داخل باب الفرج ، وكان يحضر المدارس ، ونزل عندنا بالمدرسة النجيبية ، وكان يحب السنة ويفهمها جيدا ، رحمه الله .
وفي مستهل جمادى الأولى ولي قاضي القضاة تاج الدين الشافعي مشيخة دار الحديث بالمدرسة التي فتحت بدرب القلى ، وكانت دارا لواقفها جمال الدين عبد الله بن محمد بن عيسى التدمري الذي كان استاذا للأمير طاز ، وجعل فيها درس للحنابلة ، وجعل المدرس لهم الشيخ برهان الدين إبراهيم بن قيم الجوزية ، وحضر الدرس وحضر عنده بعض الحنابلة بالدرس ، ثم جرت أمور يطول بسطها . واستحضر نائب السلطنة شهود الحنابلة بالدرس ، واستفرد كلا منهم ، وسأله كيف شهد في أصل الكتاب - المحضر - الذي أثبتوه لهم ، فاضطربوا في الشهادات ، وضبط ذلك عليهم ، وفيه مخالفة كثيرة لما شهدوا به في أصل المحضر ، وشنع عليهم كثير من الناس . ثم ظهرت ديون كثيرة لبيت طاز على جمال الدين التدمري الواقف ، وطلب من القاضي المالكي أن يحكم بإبطال ما حكم به الحنبلي ، فتوقف في ذلك . وفي يوم الاثنين الحادي والعشرين منه قرئ كتاب السلطان بصرف الوكلاء من أبواب القضاة الأربعة ، فصرفوا .
وفي شهر جمادى الآخرة توفي الشيخ شمس الدين شيخ الحنابلة بالصالحية - ويعرف بالتتري - يوم الخميس ثامنه . صلي عليه بالجامع المظفري [ ص: 688 ] بعد العصر ، ودفن بالسفح ، وقد قارب الثمانين .
وفي الرابع عشر منه عقد بدار السعادة مجلس حافل اجتمع فيه القضاة الأربعة وجماعة من المفتين ، وطلبت فحضرت معهم بسبب المدرسة التدمرية وقرابة الواقف ، ودعواهم أنه وقف عليهم الثلث ، فوقف الحنبلي في أمرهم ، ودافعهم عن ذلك أشد الدفاع .
وفي العشر الأول من رجب وجد جراد كثير منتشر ، ثم تزايد ، وتراكم ، وتضاعف ، وتفاقم الأمر بسببه ، وسد الأرض كثرة ، وعاث يمينا وشمالا ، وأفسد شيئا كثيرا من الكروم ، والمقاثي ، والزروعات النفيسة ، وأتلف للناس شيئا كثيرا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وفي يوم الاثنين ثالث شعبان توجه القضاة ، ووكيل بيت المال إلى باب كيسان ، فوقفوا عليه وعلى هيئته ، ومن نية نائب السلطنة فتحه ليتفرج الناس به .
وعدم للناس غلات كثيرة ، وأشياء من أنواع الزروع; بسبب كثرة الجراد ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وفي هذا الشهر كثر الوباء والفناء في الناس ، وبلغت العدة إلى السبعين ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .