وقد أنزل الله عز وجل في شأنه ، وما كان من أمره سورة من القرآن العظيم ليتدبر ما فيها من الحكم والمواعظ والآداب والأمر الحكيم . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم : الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين [ يوسف : 1 - 3 ] . قد تكلمنا على الحروف المقطعة في أول تفسير سورة البقرة فمن أراد تحقيقه فلينظر ثم ، وتكلمنا على هذه السورة مستقصى في موضعها من التفسير ، ونحن نذكر هاهنا نبذا مما هناك على وجه الإيجاز ، والنجاز .
وجملة القول في هذا المقام ، الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم بلسان عربي فصيح بين واضح جلي ، يفهمه كل عاقل ذكي زكي فهو أشرف كتاب نزل من السماء ، أنزله أشرف الملائكة على أشرف الخلق في أشرف زمان ومكان بأفصح لغة وأظهر بيان ، فإن كان السياق في الأخبار الماضية أو الآتية ذكر أحسنها وأبينها ، وأظهر الحق مما اختلف الناس فيه ، ودمغ الباطل وزيفه ورده ، وإن كان في الأوامر والنواهي فأعدل الشرائع وأوضح المناهج ، وأبين حكما [ ص: 457 ] وأعدل حكما ، فهو كما قال تعالى : أنه تعالى يمدح كتابه العظيم وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا [ الأنعام : 115 ] . يعني صدقا في الأخبار عدلا في الأوامر والنواهي ؛ ولهذا قال تعالى : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين . أي بالنسبة إلى ما أوحي إليك فيه ، كما قال تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات ، وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور [ الشورى : 52 - 53 ] . وقال تعالى : كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا [ طه : 99 - 101 ] . يعني من أعرض عن هذا القرآن ، واتبع غيره من الكتب فإنه يناله هذا الوعيد ، كما قال في الحديث المروي في المسند ، ، عن أمير المؤمنين والترمذي علي ، مرفوعا وموقوفا : من ابتغى الهدى في غيره أضله الله . وقال الإمام أحمد : حدثنا سريج بن النعمان ، حدثنا هشيم ، أنبأنا مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه [ ص: 458 ] على النبي صلى الله عليه وسلم قال : فغضب . وقال ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به ، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني . إسناد صحيح . ورواه أمتهوكون فيها يا أحمد من وجه آخر ، عن عمرو فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ، ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم إنكم حظي من الأمم ، وأنا حظكم من النبيين . وقد أوردت طرق هذا الحديث وألفاظه في أول سورة يوسف ، وفي بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال في خطبته : . ثم أمر بتلك الصحيفة فمحيت حرفا حرفا . أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه ، واختصر لي اختصارا ، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا ، ولا يغرنكم المتهوكون
إذ قال يوسف لأبيه ياأبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين قال يابني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم [ يوسف : 4 - 6 ] . قد قدمنا أن يعقوب كان له من البنين اثنا عشر ولدا ذكرا ، وسميناهم ، وإليهم تنسب أسباط بني إسرائيل كلهم ، وكان أشرفهم وأجلهم [ ص: 459 ] وأعظمهم يوسف عليه السلام ، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لم يكن فيهم نبي غيره وباقي إخوته لم يوح إليهم ، وظاهر ما ذكر من فعالهم ، ومقالهم في هذه القصة يدل على هذا القول ، ومن استدل على نبوتهم بقوله : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط [ البقرة : 136 ] . وزعم أن هؤلاء هم الأسباط ، فليس استدلاله بقوي ؛ لأن المراد بالأسباط شعوب بني إسرائيل ، وما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين ينزل عليهم الوحي من السماء ، والله أعلم .
ومما يؤيد أن يوسف عليه السلام هو المختص من بين إخوته بالرسالة والنبوة أنه نص على نبوته والإيحاء إليه في غير ما آية في كتابه العزيز ، ولم ينص على واحد من إخوته سواه ، فدل على ما ذكرناه . ويستأنس لهذا بما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبيه ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم . انفرد به ورواه عن البخاري عبد الله بن محمد ، وعبدة ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث به . وقد ذكرنا طرقه في قصة إبراهيم بما أغنى عن إعادته هاهنا ، ولله الحمد والمنة .
[ ص: 460 ] قال المفسرون ، وغيرهم : رأى يوسف عليه السلام وهو صغير قبل أن يحتلم كأن أحد عشر كوكبا ، وهم إشارة إلى بقية إخوته ، والشمس والقمر هما عبارة عن أبويه قد سجدوا له فهاله ذلك ، فلما استيقظ قصها على أبيه فعرف أبوه أنه سينال منزلة عالية ورفعة عظيمة في الدنيا والآخرة ، بحيث يخضع له أبواه وإخوته فيها ، فأمره بكتمانها وأن لا يقصها على إخوته كيلا يحسدوه ، ويبغوا له الغوائل ويكيدوه بأنواع الحيل والمكر ، وهذا يدل على ما ذكرناه ؛ ولهذا جاء في بعض الآثار استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها فإن كل ذي نعمة محسود . وعند . أهل الكتاب أنه قصها على أبيه وإخوته معا . وهو غلط منهم وكذلك يجتبيك ربك . أي وكما أراك هذه الرؤيا العظيمة فإذا كتمتها يجتبيك ربك أي يخصك بأنواع اللطف والرحمة ويعلمك من تأويل الأحاديث . أي يفهمك من معاني الكلام ، وتعبير المنام مالا يفهمه غيرك ويتم نعمته عليك . أي بالوحي إليك وعلى آل يعقوب . أي بسببك ، ويحصل لهم بك خير الدنيا والآخرة كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق . أي ينعم عليك ويحسن إليك بالنبوة ، كما أعطاها أباك يعقوب وجدك إسحاق ووالد جدك إبراهيم الخليل إن ربك عليم حكيم . كما قال تعالى : الله أعلم حيث يجعل رسالته [ الأنعام : 124 ] .
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل ؟ قال : يوسف نبي الله ابن [ ص: 461 ] نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله أي الناس أكرم . وقد روى ابن جرير ، في تفسيريهما ، وابن أبي حاتم وأبو يعلى ، في مسنديهما من حديث والبزار الحكم بن ظهير ، وقد ضعفه الأئمة ، عن ، عن السدي عبد الرحمن بن سابط ، عن جابر قال : اليهود يقال له : بستانة اليهودي . فقال : يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ما أسماؤها ؟ قال : فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه بشيء . ونزل جبريل عليه السلام بأسمائها ، قال : فبعث إليه رسول الله . فقال : هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها . قال : نعم . فقال : هي جربان ، والطارق ، والذيال ، وذو الكنفات ، وقابس ، ووثاب ، وعمودان ، والفيلق ، والمصبح ، والصروح ، وذو الفرع ، والضياء ، والنور . فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها . وعند أبي يعلى ، فلما قصها على أبيه ، قال : هذا أمر مشتت يجمعه الله ، والشمس أبوه والقمر أمه . أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من
[ ص: 462 ] لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين [ يوسف : 7 - 10 ] . ينبه تعالى على ما في هذه القصة من الآيات والحكم والدلالات والمواعظ ، والبينات . ثم ذكر حسد إخوة يوسف له على محبة أبيه له ولأخيه يعنون شقيقه لأمه بنيامين أكثر منهم وهم عصبة ، أي جماعة . يقولون : فكنا نحن أحق بالمحبة من هذين إن أبانا لفي ضلال مبين . أي بتقديمه حبهما علينا . ثم اشتوروا فيما بينهم في قتل يوسف أو إبعاده إلى أرض لا يرجع منها ليخلو لهم وجه أبيه أي لتتمحض محبته لهم وتتوفر عليهم ، وأضمروا التوبة بعد ذلك ، فلما تمالأوا على ذلك وتوافقوا عليه قال قائل منهم . قال مجاهد : هو شمعون . وقال : هو السدي يهوذا . وقال قتادة ، : هو أكبرهم ومحمد بن إسحاق روبيل لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة . أي المارة من المسافرين إن كنتم فاعلين . ما تقولون لا محالة فليكن هذا الذي أقول لكم فهو أقرب حالا من قتله أو نفيه ، وتغريبه فأجمعوا رأيهم على هذا فعند ذلك قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون [ يوسف : 11 - 14 ] . طلبوا من أبيهم أن [ ص: 463 ] يرسل معهم أخاهم يوسف ، وأظهروا له أنهم يريدون أن يرعى معهم ، وأن يلعب وينبسط ، وقد أضمروا له ما الله به عليم ، فأجابهم الشيخ عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم : يا بني يشق علي أن أفارقه ساعة من النهار ، ومع هذا أخشى أن تشتغلوا في لعبكم ، وما أنتم فيه فيأتي الذئب فيأكله ، ولا يقدر على دفعه عنه لصغره وغفلتكم عنه قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون . أي لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا أو اشتغلنا عنه حتى وقع هذا ونحن جماعة إنا إذا لخاسرون . أي عاجزون هالكون . وعند أهل الكتاب أنه أرسله وراءهم يتبعهم ، فضل عن الطريق حتى أرشده رجل إليهم ، وهذا أيضا من غلطهم وخطئهم في التعريب فإن يعقوب عليه السلام كان أحرص عليه من أن يبعثه معهم فكيف يبعثه وحده فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وجاءوا أباهم عشاء يبكون قالوا ياأبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون [ يوسف : 15 - 18 ] . لم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم فما كان إلا أن غابوا عن عينيه فجعلوا يشتمونه ويهينونه بالفعال والمقال ، وأجمعوا على إلقائه في غيابة الجب أي في قعره على راعوفته ، وهي الصخرة التي تكون في وسطه يقف عليها المائح ، وهو الذي ينزل ليملأ الدلاء إذا قل الماء ، والذي يرفعها بالحبل يسمى الماتح ، فلما ألقوه فيه أوحى الله إليه أنه لا بد لك من فرج [ ص: 464 ] ومخرج من هذه الشدة التي أنت فيها ، ولتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا في حال أنت فيها عزيز ، وهم محتاجون إليك خائفون منك . وهم لا يشعرون . قال مجاهد ، وقتادة : وهم لا يشعرون . بإيحاء الله إليه ذلك . وعن ابن عباس وهم لا يشعرون أي لتخبرنهم بأمرهم هذا في حال لا يعرفونك فيها . رواه ابن جرير عنه ، فلما وضعوه فيه ورجعوا عنه أخذوا قميصه فلطخوه بشيء من دم ، ورجعوا إلى أبيهم عشاء وهم يبكون أي على أخيهم ؛ ولهذا قال بعض السلف : لا يغرنك بكاء المتظلم فرب ظالم وهو باك . وذكر بكاء إخوة يوسف . وقد جاءوا أباهم عشاء يبكون أي في ظلمة الليل ليكون أمشى لغدرهم لا لعذرهم قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا . أي ثيابنا فأكله الذئب أي في غيبتنا عنه في استباقنا . وقولهم : وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين . أي وما أنت بمصدق لنا في الذي أخبرناك من أكل الذئب له ، ولو كنا غير متهمين عندك ، فكيف وأنت تتهمنا في هذا ؟ فإنك خشيت أن يأكله الذئب ، وضمنا لك أن لا يأكله لكثرتنا حوله فصرنا غير مصدقين عندك ، فمعذور أنت في عدم تصديقك لنا والحالة هذه وجاءوا على قميصه بدم كذب . أي مكذوب مفتعل لأنهم عمدوا إلى سخلة ذبحوها فأخذوا من دمها فوضعوه على قميصه ليوهموا أنه أكله الذئب . قالوا : ونسوا أن يخرقوه - " وآفة الكذب النسيان . " ، ولما ظهرت عليهم علائم الريبة لم يرج [ ص: 465 ] صنيعهم على أبيهم فإنه كان يفهم عداوتهم له ، وحسدهم إياه على محبته له من بينهم أكثر منهم لما كان يتوسم فيه من الجلالة والمهابة التي كانت عليه في صغره لما يريد الله أن يخصه به من نبوته ، ولما راودوه عن أخذه فبمجرد ما أخذوه أعدموه وغيبوه عن عينيه جاءوا وهم يتباكون وعلى ما تمالأوا عليه يتواطئون ؛ ولهذا قال : بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون [ يوسف : 18 ] . وعند أهل الكتاب أن روبيل أشار بوضعه في الجب ليأخذه من حيث لا يشعرون ، ويرده إلى أبيه فغافلوه وباعوه لتلك القافلة ، فلما جاء روبيل من آخر النهار ليخرج يوسف لم يجده فصاح وشق ثيابه وحزن ، وعمد أولئك إلى جدي فذبحوه ولطخوا من دمه جبة يوسف ، فلما علم يعقوب شق ثيابه ، ولبس مئزرا أسود وحزن على ابنه أياما كثيرة ، وهذه الركاكة جاءت من خطئهم في التعبير والتصوير وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يابشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين [ يوسف : 19 - 22 ] . يخبر تعالى عن قصة يوسف حين وضع في الجب أنه جلس ينتظر فرج الله ولطفه به وجاءت سيارة أي مسافرون . قال : أهل الكتاب كانت بضاعتهم من الفستق والصنوبر والبطم ، قاصدين ديار مصر [ ص: 466 ] من الشام فأرسلوا بعضهم ليستقوا من ذلك البئر ، فلما أدلى أحدهم دلوه تعلق فيه يوسف ، فلما رآه ذلك الرجل قال : يا بشرى أي يا بشارتي هذا غلام وأسروه بضاعة أي أوهموا أن معهم غلاما من جملة متجرهم والله عليم بما يعملون . أي هو عالم بما تمالأ عليه إخوته ، وبما يسره واجدوه من أنه بضاعة لهم ، ومع هذا لا يغيره تعالى لما له في ذلك من الحكمة العظيمة والقدر السابق والرحمة بأرض مصر بما يجري الله على يدي هذا الغلام الذي يدخلها في صورة أسير رقيق ، ثم بعد هذا يملكه أزمة الأمور ، وينفعهم الله به في دنياهم وأخراهم بما لا يحد ولا يوصف .
ولما استشعر إخوة يوسف بأخذ السيارة له لحقوهم ، وقالوا : هذا غلامنا أبق منا فاشتروه منهم بثمن بخس ؛ أي قليل نزر . وقيل : هو الزيف دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين . قال ابن مسعود ، ، وابن عباس ونوف البكالي ، ، والسدي وقتادة ، : باعوه بعشرين درهما اقتسموها درهمين درهمين . وقال وعطية العوفي مجاهد : اثنان وعشرون درهما . وقال عكرمة ، : أربعون درهما . فالله أعلم ومحمد بن إسحاق وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه . أي أحسني إليه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا . وهذا من لطف الله به ورحمته ، وإحسانه إليه بما يريد أن يؤهله له ، ويعطيه من خيري الدنيا والآخرة . قالوا : وكان الذي اشتراه من أهل مصر عزيزها ، وهو الوزير بها الذي الخزائن مسلمة إليه قال ابن إسحاق : [ ص: 467 ] واسمه أطفير بن روحيب . قال : وكان ملك مصر يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق . قال : واسم امرأة العزيز راعيل بنت رعائيل . وقال غيره : كان اسمها زليخا . والظاهر أنه لقبها . وقيل : فكا بنت ينوس . رواه الثعلبي ، عن . وقال أبي هشام الرفاعي محمد بن إسحاق ، عن محمد بن السائب ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : كان اسم الذي باعه بمصر يعني الذي جلبه إليها مالك بن دغر بن ثويب بن عفقا بن مديان بن إبراهيم . فالله أعلم .
وقال ابن إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن ابن مسعود قال : أفرس الناس ثلاثة ؛ عزيز مصر حين قال لامرأته : أكرمي مثواه والمرأة التي قالت لأبيها عن موسى : يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين [ القصص : 26 ] . وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما . ثم قيل : اشتراه العزيز بعشرين دينارا . وقيل : بوزنه مسكا ووزنه حريرا ووزنه ورقا . فالله أعلم .
وقوله : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض . أي وكما قيضنا هذا العزيز ، وامرأته يحسنان إليه ويعتنيان به ، مكنا له في أرض مصر ولنعلمه من تأويل الأحاديث . أي فهمها ، وتعبير الرؤيا من ذلك والله غالب على أمره . [ ص: 468 ] أي إذا أراد شيئا فإنه يقيض له أسبابا ، وأمورا لا يهتدي إليها العباد ؛ ولهذا قال تعالى : ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين . فدل على أن هذا كله كان ، وهو قبل بلوغ الأشد ، وهو حد الأربعين الذي يوحي الله فيه إلى عباده النبيين عليهم الصلاة والسلام من رب العالمين .
وقد اختلفوا في مدة العمر الذي هو بلوغ الأشد . فقال مالك ، وربيعة ، وزيد بن أسلم ، : هو الحلم . وقال والشعبي سعيد بن جبير : ثماني عشرة سنة . وقال الضحاك : عشرون سنة . وقال عكرمة : خمس وعشرون سنة . وقال : ثلاثون سنة . وقال السدي ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : ثلاث وثلاثون سنة . وقال الحسن : أربعون سنة . ويشهد له قوله تعالى : حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة [ الأحقاف : 105 ] . وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين [ يوسف : 23 - 29 ] .
[ ص: 469 ] يذكر تعالى ما كان من مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام عن نفسه وطلبها منه ما لا يليق بحاله ومقامه ، وهي في غاية الجمال والمال والمنصب والشباب ، وكيف غلقت الأبواب عليها وعليه ؟ وتهيأت له وتصنعت ولبست أحسن ثيابها وأفخر لباسها ، وهي مع هذا كله امرأة الوزير . قال ابن إسحاق : وبنت أخت الملك الريان بن الوليد صاحب مصر . وهذا كله مع أن يوسف عليه السلام شاب بديع الجمال والبهاء ، إلا أنه نبي من سلالة الأنبياء عن الفحشاء وحماه من مكر النساء ، فهو سيد السادة النجباء السبعة الأتقياء المذكورين في الصحيحين عن خاتم الأنبياء في قوله عليه الصلاة والسلام من رب الأرض والسماء فعصمه ربه سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ؛ إمام عادل ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، ورجل معلق قلبه بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ، فقال : إني أخاف الله ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال .
والمقصود أنها دعته إليها ، وحرصت على ذلك أشد الحرص . فقال : معاذ الله إنه ربي . يعني زوجها صاحب المنزل سيدي أحسن مثواي أي أحسن إلي ، وأكرم مقامي عنده إنه لا يفلح الظالمون . وقد تكلمنا على قوله : ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه . بما فيه كفاية ، ومقنع في التفسير .
وأكثر أقوال المفسرين هاهنا متلقى من كتب أهل [ ص: 470 ] الكتاب فالإعراض عنه أولى بنا ، والذي يجب أن يعتقد أن الله تعالى عصمه وبرأه ونزهه عن الفاحشة وحماه عنها وصانه منها ؛ ولهذا قال تعالى : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين واستبقا الباب . أي هرب منها طالبا إلى الباب ليخرج منه فرارا منها فاتبعته في أثره : وألفيا : أي وجدا سيدها أي زوجها لدى الباب ، فبادرته بالكلام وحرضته عليه قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم . اتهمته وهي المتهمة وبرأت عرضها ونزهت ساحتها ، فلهذا قال يوسف عليه السلام : هي راودتني عن نفسي . احتاج إلى أن يقول الحق عند الحاجة . وشهد شاهد من أهلها قيل : كان صغيرا في المهد قاله ابن عباس . وروي عن ، أبي هريرة وهلال بن يساف ، والحسن البصري ، ، وسعيد بن جبير والضحاك ، واختاره ابن جرير . وروى فيه حديثا مرفوعا عن ابن عباس ، ووقفه غيره عنه . وقيل : كان رجلا قريبا إلى أطفير بعلها . وقيل : قريبا إليها . وممن قال إنه كان رجلا ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، ، والسدي ، ومحمد بن إسحاق وزيد بن أسلم . فقال : إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين . أي لأنه يكون قد راودها فدافعته حتى قدت مقدم قميصه : وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين . أي لأنه يكون قد هرب منها فاتبعته ، وتعلقت فيه فانشق قميصه لذلك ، وكذلك كان ؛ ولهذا قال تعالى : فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم . [ ص: 471 ] أي هذا الذي جرى من مكركن أنت راودته عن نفسه ، ثم اتهمته بالباطل ، ثم أضرب بعلها عن هذا صفحا . فقال : يوسف أعرض عن هذا . أي لا تذكره لأحد لأن كتمان مثل هذه الأمور هو الأليق والأحسن ، وأمرها بالاستغفار لذنبها الذي صدر منها والتوبة إلى ربها ، فإن العبد إذا تاب إلى الله تاب الله عليه ، وأهل مصر وإن كانوا يعبدون الأصنام إلا أنهم يعلمون أن الذي يغفر الذنوب ، ويؤاخذ بها هو الله وحده لا شريك له في ذلك ؛ ولهذا قال لها بعلها وعذرها من بعض الوجوه ؛ لأنها رأت ما لا صبر لها على مثله إلا أنه عفيف نزيه برئ العرض سليم الناحية فقال : واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم [ يوسف : 30 - 34 ] . يذكر تعالى ما كان من قبل نساء المدينة يعني مصر من نساء الأمراء وبنات الكبراء في الطعن على امرأة العزيز وعيبها والتشنيع عليها في مراودتها فتاها وحبها الشديد له ، يعنين : [ ص: 472 ] وهو لا يساوي هذا لأنه مولى من الموالي ، وليس مثله أهلا لهذا ؛ ولهذا قلن : إنا لنراها في ضلال مبين . أي في وضعها الشيء في غير محله فلما سمعت بمكرهن . أي بتشنيعهن عليها والتنقص لها ، والإشارة إليها بالعيب والمذمة بحب مولاها وعشق فتاها فأظهرن ذما ، وهي معذورة في نفس الأمر ، فلهذا أحبت أن تبسط عذرها عندهن وتبين أن هذا الفتى ليس كما حسبن ولا من قبيل ما لديهن ، فأرسلت إليهن فجمعتهن في منزلها ، وأعتدت لهن ضيافة مثلهن ، وأحضرت في جملة ذلك شيئا مما يقطع بالسكاكين كالأترج ونحوه . وآتت كل واحدة منهن سكينا ، وكانت قد هيأت يوسف عليه السلام وألبسته أحسن الثياب ، وهو في غاية طراوة الشباب ، وأمرته بالخروج عليهن بهذه الحالة فخرج وهو أحسن من البدر لا محالة فلما رأينه أكبرنه . أي أعظمنه وأجللنه وهبنه ، وما ظنن أن يكون مثل هذا في بني آدم وبهرهن حسنه حتى اشتغلن عن أنفسهن ، وجعلن يحززن في أيديهن بتلك السكاكين ، ولا يشعرن بالجراح وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم .
وقد جاء في حديث الإسراء فمررت بيوسف ، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن . قال السهيلي ، وغيره من الأئمة : معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام لأن الله تعالى خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه فكان في غاية نهايات الحسن البشري ؛ ولهذا ، يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم وحسنه ويوسف كان على النصف من حسن آدم ولم يكن بينهما أحسن منهما ، كما أنه لم تكن أنثى بعد حواء أشبه بها من سارة امرأة الخليل عليه السلام .
قال ابن مسعود : يوسف مثل البرق ، وكان إذا أتته [ ص: 473 ] امرأة لحاجة غطى وجهه . وقال غيره : كان في الغالب مبرقعا لئلا يراه الناس . ولهذا لما قام عذر وكان وجه امرأة العزيز في محبتها لهذا المعنى المذكور ، وجرى لهن وعليهن ما جرى من تقطيع أيديهن بجراح السكاكين ، وما ركبهن من المهابة ، والدهش عند رؤيته ، ومعاينته قالت : فذلكن الذي لمتنني فيه ثم مدحته بالعفة التامة فقالت : ولقد راودته عن نفسه فاستعصم . أي امتنع ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين . وكان بقية النساء حرضنه على السمع والطاعة لسيدته فأبى أشد الإباء ونأى لأنه من سلالة الأنبياء ، ودعا فقال في دعائه لرب العالمين : رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين . يعني : إن وكلتني إلى نفسي فليس لي من نفسي إلا العجز والضعف ، ولا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله فأنا ضعيف إلا ما قويتني وعصمتني وحفظتني وحطتني بحولك وقوتك . ولهذا قال تعالى : فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم .
[ ص: 474 ] ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ياصاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ياصاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان [ يوسف : 35 - 41 ] . [ ص: 474 ] يذكر تعالى عن العزيز وامرأته أنهم بدا لهم أي ظهر لهم من الرأي بعد ما علموا براءة يوسف أن يسجنوه إلى وقت ليكون ذلك أقل لكلام الناس في تلك القضية ، وأخمد لأمرها وليظهروا أنه راودها عن نفسها فسجن بسببها ، فسجنوه ظلما وعدوانا ، وكان هذا مما قدر الله له ، ومن جملة ما عصمه به فإنه أبعد له عن معاشرتهم ومخالطتهم ، ومن هاهنا استنبط بعض الصوفية ما حكاه عنهم الشافعي أن من العصمة أن لا تجد . قال الله تعالى : ودخل معه السجن فتيان . قيل : كان أحدهما ساقي الملك ، واسمه فيما قيل : بنو . والآخر خبازه يعني الذي يلي طعامه ، وهو الذي يقول له الترك : الجاشنكير ، واسمه فيما قيل : مجلث . كان الملك قد اتهمهما في بعض الأمور فسجنهما ، فلما رأيا يوسف في السجن أعجبهما سمته وهديه ودله وطريقته وقوله وفعله وكثرة عبادته ربه وإحسانه إلى خلقه ، فرأى كل واحد منهما رؤيا تناسبه قال أهل التفسير : رأيا في ليلة واحدة أما الساقي فرأى كأن ثلاث قضبان من حبلة قد أورقت وأينعت عناقيد العنب فأخذها فاعتصرها في كأس الملك وسقاه ، ورأى الخباز [ ص: 475 ] على رأسه ثلاث سلال من خبز ، وضواري الطيور تأكل من السل الأعلى . فقصاها عليه ، وطلبا منه أن يعبرهما لهما ، وقالا : إنا نراك من المحسنين . فأخبرهما أنه عليم بتعبيرهما خبير بأمرهما . و قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما . قيل : معناه مهما رأيتما من حلم فإني أعبره لكما قبل وقوعه ، فيكون كما أقول . وقيل : معناه إني أخبركما بما يأتيكما من الطعام قبل مجيئه حلوا أو حامضا . كما قال عيسى عليه السلام : وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم [ آل عمران : 49 ] . وقال لهما إن هذا من تعليم الله إياي لأني مؤمن به موحد له متبع ملة آبائي الكرام إبراهيم الخليل وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا . أي بأن هدانا لهذا وعلى الناس أي بأن أمرنا أن ندعوهم إليه ونرشدهم وندلهم عليه ، وهو في فطرهم مركوز ، وفي جبلتهم مغروز ولكن أكثر الناس لا يشكرون .
ثم دعاهم إلى التوحيد ، وذم عبادة ما سوى الله عز وجل ، وصغر أمر الأصنام وحقرها وضعف أمرها . فقال : ياصاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله . أي هو المتصرف في خلقه الفعال لما يريد الذي يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء [ ص: 476 ] أمر ألا تعبدوا إلا إياه . أي وحده لا شريك له ذلك الدين القيم أي المستقيم والصراط القويم ولكن أكثر الناس لا يعلمون . أي فهم لا يهتدون إليه مع وضوحه وظهوره ، وكانت دعوته لهما في هذه الحال في غاية الكمال ؛ لأن نفوسهما معظمة له منبعثة على تلقي ما يقول بالقبول فناسب أن يدعوهما إلى ما هو الأنفع لهما مما سألا عنه وطلبا منه ، ثم لما قام بما وجب عليه وأرشد إلى ما أرشد إليه قال : يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا . قالوا : وهو الساقي وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه . قالوا : وهو الخباز قضي الأمر الذي فيه تستفتيان . أي وقع هذا لا محالة ووجب كونه على كل حالة ؛ ولهذا جاء في الحديث الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت .
وقد روي عن ابن مسعود ، ومجاهد ، أنهما قالا : لم نر شيئا . فقال لهما : وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم قضي الأمر الذي فيه تستفتيان . وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين . [ يوسف : 42 ] يخبر تعالى أن يوسف عليه السلام قال للذي ظن أنه ناج منهما وهو الساقي : اذكرني عند ربك . يعني اذكر أمري ، وما أنا فيه من السجن بغير جرم عند الملك ، وفي هذا دليل على جواز السعي في الأسباب ، ولا ينافي ذلك التوكل على رب الأرباب . وقوله : فأنساه الشيطان ذكر ربه . أي فأنسى الناجي منهما الشيطان [ ص: 477 ] أن يذكر ما وصاه به يوسف عليه السلام قاله مجاهد ، ، وغير واحد . وهو الصواب ، وهو منصوص ومحمد بن إسحاق أهل الكتاب فلبث في السجن بضع سنين . والبضع : ما بين الثلاث إلى التسع . وقيل : إلى السبع . وقيل : إلى الخمس . وقيل : ما دون العشرة . حكاها الثعلبي . ويقال : بضع نسوة ، وبضعة رجال ومنع الفراء استعمال البضع فيما دون العشر . قال : وإنما يقال : نيف . وقال الله تعالى : فلبث في السجن بضع سنين . وقال تعالى : في بضع سنين [ الروم : 4 ] . وهذا رد لقوله قال الفراء : ويقال : بضعة عشر ، وبضعة وعشرون . إلى التسعين ، ولا يقال : بضع ومائة ، وبضع وألف . وخالف الجوهري فيما زاد على بضعة عشر ، فمنع أن يقال : بضعة وعشرون . إلى تسعين ، وفي الصحيح الإيمان بضع وستون . وفي رواية . وسبعون شعبة أعلاها قول : لا إله إلا الله . وأدناها إماطة الأذى عن الطريق
ومن قال : إن الضمير في قوله : فأنساه الشيطان ذكر ربه . عائد على يوسف . فقد ضعف ما قاله ، وإن كان قد روي عن ابن عباس ، وعكرمة . والحديث الذي رواه ابن جرير في هذا الموضع ضعيف من كل وجه ؛ [ ص: 478 ] تفرد بإسناده إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي ، وهو متروك ، ومرسل الحسن ، وقتادة لا يقبل ، ولاسيما هاهنا بطريق الأولى والأحرى ، والله أعلم .
فأما قول في صحيحه : ذكر السبب الذي من أجله لبث ابن حبان يوسف في السجن ما لبث ؛ أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي ، ثنا مسدد بن مسرهد ، ثنا ، ثنا خالد بن عبد الله محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قالها " اذكرني عند ربك " ما لبث في السجن ما لبث ، ورحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد ، إذ قال لقومه : " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد " قال : فما بعث الله نبيا بعده إلا في ثروة من قومه . فإنه حديث منكر من هذا الوجه . له أشياء ينفرد بها وفيها نكارة ، وهذه اللفظة من أنكرها وأشدها ، والذي في الصحيحين يشهد بغلطها ، والله أعلم . ومحمد بن عمرو بن علقمة
[ ص: 479 ] وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ياأيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلوني يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون [ يوسف : 43 - 49 ] . هذا كله من جملة أسباب خروج يوسف عليه السلام من السجن على وجه الاحترام والإكرام ، وذلك أن ملك مصر ، وهو الريان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح رأى هذه الرؤيا . قال أهل الكتاب : رأى كأنه على حافة نهر ، وكأنه قد خرج منه سبع بقرات سمان فجعلن يرتعن في روضة هناك ، فخرجت سبع هزال ضعاف من ذلك النهر فرتعن معهن ، ثم ملن عليهن فأكلنهن ، فاستيقظ مذعورا ، ثم نام فرأى سبع سنبلات خضر في قصبة واحدة ، وإذا سبع أخر دقاق يابسات تأكلهن ، فاستيقظ مذعورا ، فلما قصها على ملإه ، وقومه لم يكن فيهم من يحسن تعبيرها ، بل قالوا أضغاث أحلام أي أخلاط أحلام من الليل لعلها لا تعبير لها ، ومع هذا فلا خبرة لنا بذلك ؛ ولهذا قالوا : [ ص: 480 ] وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين . فعند ذلك تذكر الناجي منهما الذي وصاه يوسف بأن يذكره عند ربه فنسي إلى حينه هذا ، وذلك عن تقدير الله عز وجل وله الحكمة في ذلك ، فلما سمع رؤيا الملك ، ورأى عجز الناس عن تعبيرها تذكر أمر يوسف وما كان أوصاه به من التذكار ؛ ولهذا قال تعالى : وقال الذي نجا منهما وادكر . أي تذكر بعد أمة أي بعد مدة من الزمان ، وهو بضع سنين . وقرأ بعضهم ، كما حكي ، عن ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك : " وادكر بعد أمه " أي بعد نسيان . وقرأها مجاهد : " بعد أمه " بإسكان الميم ، وهو النسيان أيضا . يقال : أمه الرجل يأمه أمها ، وأمها إذا نسي قال الشاعر :
أمهت وكنت لا أنسى حديثا كذاك الدهر يردي بالعقول
. فقال لقومه وللملك : أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون . أي فأرسلوني إلى يوسف . فجاءه فقال : يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون . وعند أهل الكتاب أن الملك لما ذكره له الناجي استدعاه إلى حضرته ، وقص عليه ما رآه ففسره له . وهذا غلط ، والصواب ما قصه الله في كتابه القرآن لا ما عربه هؤلاء الجهلة الثيران من قرائئ [ ص: 481 ] وربان . فبذل يوسف عليه السلام ما عنده من العلم بلا تأخر ولا شرط ولا طلب الخروج سريعا ، بل أجابهم إلى ما سألوا ، وعبر لهم ما كان من منام الملك الدال على وقوع سبع سنين من الخصب ويعقبها سبع جدب ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس . يعني يأتيهم الغيث والخصب والرفاهية وفيه يعصرون يعني ما كانوا يعصرونه من الأقصاب والأعناب والزيتون والسمسم وغيرها . فعبر لهم وعلى الخير دلهم وأرشدهم إلى ما يعتمدونه في حالتي خصبهم وجدبهم ، وما يفعلونه من ادخار حبوب سني الخصب في السبع الأول في سنبله إلا ما يرصد بسبب الأكل ، ومن تقليل البذر في سني الجدب في السبع الثانية إذ الغالب على الظن أنه لا يرد البذر من الحقل ، وهذا يدل على كمال العلم ، وكمال الرأي والفهم .وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم [ يوسف : 50 - 53 ] . لما أحاط الملك علما بكمال علم يوسف عليه الصلاة والسلام ، وتمام عقله ورأيه السديد وفهمه ، أمر بإحضاره إلى حضرته ليكون من جملة خاصته ، فلما جاءه الرسول بذلك أحب أن لا يخرج حتى يتبين لكل أحد أنه حبس ظلما وعدوانا ، وأنه بريء الساحة مما نسبوه إليه [ ص: 482 ] بهتانا قال ارجع إلى ربك . يعني الملك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم . قيل : معناه : إن سيدي العزيز يعلم براءتي مما نسب إلي أي فمر الملك فليسألهن كيف كان امتناعي الشديد عند مراودتهن إياي ، وحثهن لي على الأمر الذي ليس برشيد ولا سديد . فلما سئلن عن ذلك اعترفن بما وقع من خطأ الأمر ، وما كان منه من الأمر الحميد وقلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء . فعند ذلك قالت امرأة العزيز وهي زليخا الآن حصحص الحق . أي ؛ ظهر وتبين ووضح ، والحق أحق أن يتبع أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين . أي فيما يقوله من أنه برئ وأنه لم يراودني ، وأنه حبس ظلما وعدوانا وزورا وبهتانا . وقوله : ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين . قيل : إنه من كلام يوسف . أي إنما طلبت تحقيق هذا ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب . وقيل : إنه من تمام كلام زليخا أي إنما اعترفت بهذا ليعلم زوجي أني لم أخنه في نفس الأمر ، وإنما كان مراودة لم يقع معها فعل فاحشة . وهذا القول هو الذي نصره طائفة كثيرة من أئمة المتأخرين وغيرهم ، ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم سوى الأول وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم . قيل : إنه من كلام يوسف . وقيل : من كلام زليخا . وهو مفرع على القولين الأولين . وكونه من تمام كلام زليخا أظهر وأنسب ، وأقوى ، والله أعلم .
[ ص: 483 ] وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون [ يوسف : 54 - 57 ] . لما ظهر للملك براءة عرضه ، ونزاهة ساحته عما كانوا أظهروا عنه مما نسبوه إليه قال : ائتوني به أستخلصه لنفسي . أي أجعله من خاصتي ومن أكابر دولتي ومن أعيان حاشيتي ، فلما كلمه وسمع مقاله وتبين حاله قال إنك اليوم لدينا مكين أمين . أي ذو مكانة وأمانة قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم . طلب أن يوليه النظر فيما يتعلق بالأهراء لما يتوقع من حصول الخلل فيما بعد مضي سبع سني الخصب لينظر فيها بما يرضي الله في خلقه من الاحتياط لهم والرفق بهم ، وأخبر الملك أنه حفيظ أي قوي على حفظ ما لديه أمين عليه عليم بضبط الأشياء ومصالح الأهراء ، وفي هذا دليل على جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الأمانة والكفاءة ، وعند أهل الكتاب أن فرعون عظم يوسف عليه السلام جدا ، وسلطه على جميع أرض مصر وألبسه خاتمه وألبسه الحرير وطوقه الذهب وحمله على مركبه الثاني ، ونودي بين يديه أنت رب أي مالك ومسلط . وقال [ ص: 484 ] له : لست أعظم منك إلا بالكرسي . قالوا : وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة ، وزوجه امرأة عظيمة الشأن .
وحكى الثعلبي أنه عزل قطفير عن وظيفته وولاها يوسف . وقيل : إنه لما مات زوجه امرأته زليخا فوجدها عذراء ؛ لأن زوجها كان لا يأتي النساء فولدت ليوسف عليه السلام رجلين ، وهما أفراثيم ، ومنشا . قال : واستوثق ليوسف ملك مصر ، وعمل فيهم بالعدل فأحبه الرجال والنساء . وحكي أن يوسف كان يوم دخل على الملك عمره ثلاثين سنة ، وأن الملك خاطبه بسبعين لغة ، وكل ذلك يجاوبه بكل لغة منها فأعجبه ذلك مع حداثة سنه . فالله أعلم .
قال الله تعالى : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء . أي بعد السجن والضيق والحصر صار مطلق الركاب بديار مصر يتبوأ منها حيث يشاء . أي أين شاء حل منها مكرما محسودا معظما نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين . أي هذا كله من جزاء الله وثوابه للمؤمن مع ما يدخر له في آخرته من الخير الجزيل والثواب الجميل ؛ ولهذا قال : ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون . ويقال : إن أطفير زوج زليخا كان قد مات . فولاه الملك مكانه وزوجه امرأته زليخا فكان وزير صدق .
وذكر محمد بن إسحاق أن صاحب مصر الوليد بن الريان أسلم على يدي يوسف عليه السلام . فالله أعلم . وقد قال [ ص: 485 ] بعضهم :
وراء مضيق الخوف يتسع الأمن وأول مفروح به آخر الحزن
فلا تيأسن فالله ملك يوسفا خزائنه بعد الخلاص من السجن
وقد اختلف المفسرون في بضاعتهم على أقوال سيأتي ذكرها ، وعند أهل الكتاب أنها كانت صررا من ورق . وهو أشبه ، والله أعلم .
[ ص: 487 ] فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ يوسف : 63 - 68 ] .
يذكر تعالى ما كان من أمرهم بعد رجوعهم إلى أبيهم وقولهم له : منع منا الكيل . أي بعد عامنا هذا إن لم ترسل معنا أخانا فإن أرسلته معنا لم يمنع منا ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي . أي أي شيء نريد وقد ردت إلينا بضاعتنا ونمير أهلنا أي نمتار لهم ، ونأتيهم بما يصلحهم في سنتهم ، ومحلهم ونحفظ أخانا ونزداد . بسببه كيل بعير قال الله تعالى : ذلك كيل يسير . أي في مقابلة ذهاب ولده الآخر ، وكان يعقوب عليه السلام أضن شيء بولده بنيامين ؛ لأنه كان يشم فيه رائحة أخيه ويتسلى به عنه ، ويتعوض بسببه منه ، فلهذا قال : لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم . أي إلا أن تغلبوا كلكم عن الإتيان به فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل . أكد المواثيق وقرر العهود واحتاط لنفسه في ولده ، ولن يغني حذر من قدر ، ولولا حاجته [ ص: 488 ] وحاجة قومه إلى الميرة لما بعث الولد العزيز ، ولكن الأقدار لها أحكام ، ، ويختار ما يريد ، ويحكم ما يشاء ، وهو الحكيم العليم ، ثم أمرهم أن لا يدخلوا المدينة من باب واحد ، ولكن ليدخلوا من أبواب متفرقة . قيل : أراد أن لا يصيبهم أحد بالعين ، وذلك ؛ لأنهم كانوا أشكالا حسنة ، وصورا بديعة قاله والرب تعالى يقدر ما يشاء ابن عباس ، ومجاهد ، ، ومحمد بن كعب وقتادة ، ، والسدي والضحاك . وقيل : أراد أن يتفرقوا لعلهم يجدون خبرا ليوسف أو يحدثون عنه بأيسر شيء قاله . والأول أظهر ؛ ولهذا قال : إبراهيم النخعي وما أغني عنكم من الله من شيء . وقال تعالى : ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
وعند أهل الكتاب أنه بعث معهم هدية إلى العزيز من الفستق واللوز والصنوبر والبطم والعسل ، وأخذوا الدراهم الأولى ، وعرضا آخر .
ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون قالوا ياأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون [ يوسف : 69 - 79 ] . [ ص: 489 ]
يذكر تعالى ما كان من أمرهم حين دخلوا بأخيهم بنيامين على شقيقه يوسف ، وإيوائه إليه وإخباره له سرا عنهم بأنه أخوه ، وأمره بكتم ذلك عنهم ، وسلاه عما كان منهم من الإساءة إليه ، ثم احتال على أخذه منهم ، وتركه إياه عنده دونهم ، فأمر فتيانه بوضع سقايته ، وهي التي كان يشرب بها ، ويكيل بها للناس الطعام من عزته في متاع بنيامين ، ثم أعلمهم بأنهم قد سرقوا صواع الملك ، ووعدهم جعالة على رده حمل بعير ، وضمنه المنادي لهم فأقبلوا على من اتهمهم بذلك فأنبوه ، وهجنوه فيما قاله لهم ، وقالوا : تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين . يقولون : أنتم تعلمون منا خلاف ما رميتمونا به من السرقة قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين . وهذه كانت شريعتهم أن السارق يدفع إلى المسروق منه ؛ ولهذا قالوا : كذلك نجزي الظالمين . قال الله تعالى : فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه . ليكون ذلك أبعد للتهمة وأبلغ في الحيلة ، ثم قال الله تعالى : كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك . أي لولا اعترافهم بأن جزاءه من وجد [ ص: 490 ] في رحله فهو جزاؤه لما كان يقدر يوسف على أخذه منهم في سياسة ملك مصر إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء . أي في العلم وفوق كل ذي علم عليم . وذلك ؛ لأن يوسف كان أعلم منهم وأتم رأيا وأقوى عزما وحزما ، وإنما فعل ما فعل عن أمر الله له في ذلك ؛ لأنه يترتب على هذا الأمر مصلحة عظيمة بعد ذلك من قدوم أبيه وقومه عليه ووفودهم إليه ، فلما عاينوا استخراج الصواع من حمل بنيامين قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل . يعنون يوسف . قيل : كان قد سرق صنم جده أبي أمه فكسره . وقيل : كانت عمته قد علقت عليه بين ثيابه ، وهو صغير ، منطقة كانت لإسحاق ، ثم استخرجوها من بين ثيابه ، وهو لا يشعر بما صنعت ، وإنما أرادت أن يكون عندها ، وفي حضانتها لمحبتها له . وقيل : كان يأخذ الطعام من البيت فيطعمه الفقراء . وقيل غير ذلك . فلهذا قالوا : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه . وهي كلمته بعدها . وقوله : أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون . أجابهم سرا لا جهرا حلما وكرما وصفحا وعفوا فدخلوا معه في الترقق والتعطف فقالوا : يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون . أي إن أطلقنا المتهم وأخذنا البريء هذا ما لا نفعله ولا نسمح به . وإنما نأخذ من وجدنا متاعنا عنده .
وعند أهل الكتاب أن يوسف تعرف إليهم حينئذ . وهذا مما غلطوا فيه ولم يفهموه جيدا . [ ص: 491 ] فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى أبيكم فقولوا ياأبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون [ يوسف : 80 - 87 ] .
يقول تعالى مخبرا عنهم أنهم لما استيأسوا من أخذه منه خلصوا يتناجون فيما بينهم قال كبيرهم وهو روبيل : ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله . لقد أخلفتم عهده وفرطتم فيه ، كما فرطتم في أخيه يوسف من قبله فلم يبق لي وجه أقابله به فلن أبرح الأرض . أي لا أزال مقيما هاهنا حتى يأذن لي أبي . في القدوم عليه : أو يحكم الله لي . بأن يقدرني على رد أخي إلى أبي وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق . أي أخبروه بما رأيتم من الأمر في ظاهر المشاهدة وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها . أي فإن هذا الذي أخبرناك به من أخذهم [ ص: 492 ] أخانا لأنه سرق أمر اشتهر بمصر ، وعلمه العير التي كنا نحن وهم هناك وإنا لصادقون قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل . أي ليس الأمر كما ذكرتم لم يسرق فإنه ليس بسجية له ، ولا خلقه ، وإنما سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل .
قال ابن إسحاق ، وغيره : لما كان التفريط منهم في بنيامين مترتبا على صنيعهم في يوسف قال لهم ما قال . وهذا كما قال بعض السلف : إن من . ثم قال : جزاء السيئة السيئة بعدها عسى الله أن يأتيني بهم جميعا . يعني يوسف وبنيامين وروبيل إنه هو العليم . أي بحالي ، وما أنا فيه من فراق الأحبة الحكيم فيما يقدره ويفعله وله الحكمة البالغة والحجة القاطعة وتولى عنهم أي أعرض عن بنيه وقال يا أسفى على يوسف .
ذكره حزنه الجديد بالحزن القديم وحرك ما كان كامنا ، كما قال بعضهم :
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
لقد لامني عند القبور على البكا رفيقي لتذراف الدموع السوافك
. فقال : أتبكي كل قبر رأيته لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك ؟
[ ص: 493 ] فقلت له إن الأسى يبعث الأسى فدعني فهذا كله قبر مالك
[ ص: 494 ] فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين [ يوسف : 88 - 93 ] .
يخبر تعالى عن رجوع إخوة يوسف إليه وقدومهم عليه ورغبتهم فيما لديه من الميرة والصدقة عليهم برد أخيهم بنيامين إليهم ، فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر . أي من الجدب وضيق الحال وكثرة العيال وجئنا ببضاعة مزجاة . أي ضعيفة لا يقبل مثلها منا إلا أن يتجاوز عنا . قيل : كانت دراهم رديئة . وقيل : قليلة . وقيل : حب الصنوبر ، وحب البطم ، ونحو ذلك . وعن ابن عباس : كانت خلق الغرائر والحبال ، ونحو ذلك . فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين . قيل : بقبولها قاله . وقيل : برد أخينا إلينا قاله السدي . وقال سفيان بن عيينة : إنما حرمت الصدقة على نبينا ابن جريج محمد صلى الله عليه وسلم . ونزع بهذه الآية . رواه ابن جرير . فلما رأى ما هم فيه من الحال ، وما جاءوا به مما لم يبق عندهم سواه من ضعيف المال تعرف إليهم وعطف عليهم قائلا لهم عن أمر ربه وربهم ، وقد حسر لهم عن جبينه الشريف ، وما يحويه من الخال فيه الذي يعرفون هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا وتعجبوا كل العجب ، وقد ترددوا إليه مرارا عديدة ، وهم لا يعرفون أنه هو أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي . [ ص: 495 ] يعني : أنا يوسف الذي صنعتم معه ما صنعتم ، وسلف من أمركم فيه ما فرطتم . وقوله : وهذا أخي تأكيد لما قال وتنبيه على ما كانوا أضمروا لهما من الحسد ، وأعملوا في أمرهما من الاحتيال ؛ ولهذا قال : قد من الله علينا . أي بإحسانه إلينا ، وصدقته علينا ، وإيوائه لنا ، وشده معاقد عزنا ، وذلك بما أسلفنا من طاعته ، وصبرنا على ما كان منكم إلينا ، وطاعتنا وبرنا لأبينا ، ومحبته الشديدة لنا ، وشفقته علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا . أي فضلك ، وأعطاك ما لم يعطنا : وإن كنا لخاطئين . أي فيما أسدينا إليك ، وها نحن بين يديك قال لا تثريب عليكم اليوم . أي لست أعاتبكم على ما كان منكم بعد يومكم هذا ، ثم زادهم على ذلك ، فقال : يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين .
ومن زعم أن الوقف على قوله : لا تثريب عليكم . وابتدأ بقوله : اليوم يغفر الله لكم . فقوله ضعيف ، والصحيح الأول . ثم أمرهم بأن يذهبوا بقميصه ، وهو الذي يلي جسده فيضعوه على عيني أبيه فإنه يرجع إليه بصره بعد ما كان ذهب بإذن الله ، وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوات وأكبر المعجزات ، ثم أمرهم أن يتحملوا بأهلهم أجمعين إلى ديار مصر إلى الخير والدعة وجمع الشمل بعد الفرقة على أكمل الوجوه ، وأعلى الأمور .
ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون قالوا ياأبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم [ يوسف : 94 - 98 ] . [ ص: 496 ] قال عبد الرزاق : أنبأنا إسرائيل ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن أبي الهذيل سمعت ابن عباس يقول : ولما فصلت العير قال : لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف . فقال إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون . قال : فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام . وكذا رواه الثوري ، وشعبة ، وغيرهما ، عن أبي سنان به . وقال ، الحسن البصري : كان بينهما مسيرة ثمانين فرسخا ، وكان له منذ فارقه ثمانون سنة . وقوله : وابن جريج المكي لولا أن تفندون . أي تقولون : إنما قلت هذا من الفند وهو الخرف وكبر السن . قال ابن عباس ، ، وعطاء