[ ص: 31 ] ذكر موسى الكليم ، عليه الصلاة والسلام قصة
وهو موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، عليهم السلام ، قال الله تعالى : واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا [ مريم 51 - 53 ] . ذكره بالرسالة والنبوة والإخلاص والتكليم والتقريب ، ومن عليه بأن جعل أخاه هارون نبيا وقد ذكره الله تعالى في مواضع كثيرة متفرقة من القرآن ، وذكر قصته في مواضع متعددة مبسوطة ، ومتوسطة ، ومختصرة ، وقد تكلمنا على ذلك كله في مواضعه من " التفسير " وسنورد سيرته هاهنا ، من ابتدائها إلى آخرها من الكتاب والسنة ، وما ورد في الآثار المنقولة من الإسرائيليات ، التي ذكرها السلف وغيرهم ، إن شاء الله ، وبه الثقة وعليه التكلان .
قال الله تعالى : طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون [ القصص 1 - 6 ] . يذكر تعالى ملخص القصة ثم يبسطها بعد هذا ، فذكر أنه سبحانه يتلو على نبيه خبر موسى وفرعون بالحق ; أي بالصدق الذي كأن سامعه مشاهد للأمر معاين له إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا أي ; تجبر وعتا ، وطغى وبغى ، وآثر الحياة الدنيا وأعرض عن طاعة الرب الأعلى . وجعل أهلها شيعا أي ; قسم رعيته إلى أقسام وفرق وأنواع يستضعف طائفة منهم وهم شعب بني إسرائيل ، الذين هم من سلالة نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله . وكانوا إذ ذاك خيار أهل الأرض ، وقد سلط الله عليهم هذا الملك الظالم الغاشم الكافر الفاجر ، يستعبدهم ويستخدمهم في أخس الصنائع والحرف ، وأردئها ، وأدناها ، ومع هذا يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين وكان الحامل له على هذا الصنيع القبيح ، أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم ما كانوا يأثرونه عن إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، من أنه سيخرج من ذريته غلام يكون هلاك ملك مصر على يديه ، وذلك ، والله أعلم ، حين جرى على سارة امرأة الخليل من ملك مصر ، من إرادته إياها على السوء ، وعصمة الله لها . [ ص: 33 ] وكانت هذه البشارة مشهورة في بني إسرائيل ، فتحدث بها القبط فيما بينهم ، ووصلت إلى فرعون في مجلس مسامرته مع أمرائه وأساورته وهم يسمرون عنده ، فأمر عند ذلك بقتل أبناء بني إسرائيل ; حذرا من وجود هذا الغلام ، ولن يغني حذر من قدر .
وذكر عن السدي أبي صالح ، وأبي مالك ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من الصحابة أن فرعون رأى في منامه كأن نارا قد أقبلت من نحو بيت المقدس فأحرقت دور مصر وجميع القبط ، ولم تضر بني إسرائيل ، فلما استيقظ هاله ذلك فجمع الكهنة والحزاة والسحرة وسألهم عن ذلك ، فقال له الكهنة : هذا غلام يولد من بني إسرائيل ، يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه . فلهذا أمر بقتل الغلمان وترك النسوان . ولهذا قال الله تعالى : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض وهم بنو إسرائيل ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين أي ; الذين يئول ملك مصر وبلادها إليهم ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون أي ; سنجعل الضعيف قويا ، والمقهور قاهرا ، والذليل عزيزا . وقد جرى هذا كله لبني إسرائيل ; كما قال [ ص: 34 ] تعالى : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا [ الأعراف : 137 ] وقال تعالى : فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل [ الشعراء 57 - 59 ] . وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى .
والمقصود أن فرعون احترز كل الاحتراز أن لا يوجد موسى ، حتى جعل رجالا وقوابل يدورون على الحبالى ، ويعلمون ميقات وضعهن ، فلا تلد امرأة ذكرا إلا ذبحه أولئك الذباحون من ساعته . وعند أهل الكتاب أنه إنما كان يأمر بذبح الغلمان لتضعف شوكة بني إسرائيل ، فلا يقاومونهم إذا غالبوهم أو قاتلوهم . وفي هذا نظر ، بل هو باطل ، وإنما وقع هذا بعد بعثة موسى فجعل يقتل الولدان ، كما قال تعالى : فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم [ غافر : 5 ] . ولهذا قالت بنو إسرائيل لموسى : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا [ الأعراف : 129 ] . فالصحيح أن فرعون إنما أمر بقتل الغلمان أولا حذرا من وجود موسى عليه السلام . هذا ، والقدر يقول : يا أيها الملك الجبار ، المغرور بكثرة جنوده ، وسلطة بأسه واتساع سلطانه ، قد حكم العظيم الذي لا [ ص: 35 ] يغالب ولا يمانع ، ولا تخالف أقداره أن هذا المولود الذي تحترز منه ، وقد قتلت بسببه من النفوس ما لا يعد ولا يحصى ، لا يكون مرباه إلا في دارك وعلى فراشك ، ولا يغذى إلا بطعامك وشرابك في منزلك ، وأنت الذي تتبناه وتربيه وتتعداه ، ولا تطلع على سر معناه ، ثم يكون هلاكك في دنياك وأخراك على يديه ; لمخالفتك ما جاءك به من الحق المبين ، وتكذيبك ما أوحي إليه ، لتعلم أنت وسائر الخلق أن رب السماوات والأرض هو الفعال لما يريد ، وأنه هو القوي الشديد ، ذو البأس العظيم ، والحول والقوة والمشيئة ، التي لا مرد لها .
وقد ذكر غير واحد من المفسرين ، أن القبط شكوا إلى فرعون قلة بني إسرائيل ، بسبب قتل ولدانهم الذكور ، وخشوا أن تتفانى الكبار مع قتل الصغار ، فيصيرون هم الذين يلون ما كان يليهبنو إسرائيل من الأعمال الشاقة ، فأمر فرعون بقتل الأبناء عاما ، وأن يتركوا عاما ، فولد هارون ، عليه السلام ، في عام المسامحة عن قتل الأبناء ، وولد موسى ، عليه السلام ، في عام قتلهم ، فضاقت أمه به ذرعا ، واحترزت من أول ما حبلت به ، ولم يكن يظهر عليها مخايل الحبل ، فلما وضعت ألهمت أن اتخذت له تابوتا ، فربطته في حبل ، وكانت دارها متاخمة للنيل ، فكانت ترضعه ، فإذا خشيت من أحد وضعته في ذلك التابوت فأرسلته في البحر ، وأمسكت طرف الحبل عندها ، [ ص: 36 ] فإذا ذهبوا استرجعته إليها به .
قال الله تعالى : وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون [ القصص 7 - 9 ] . هذا الوحي وحي إلهام وإرشاد ، كما قال تعالى : وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا [ النحل : 68 ، 69 ] . وليس هو بوحي نبوة ; كما زعمه ، وغير واحد من المتكلمين ، بل الصحيح الأول ، كما حكاه ابن حزم عن مذهب أهل السنة والجماعة . قال أبو الحسن الأشعري السهيلي : واسم أم موسى ياوخ وقيل : أياذخت .
والمقصود أنها أرشدت إلى هذا الذي ذكرناه ، وألقي في خلدها وروعها أن لا تخافي ولا تحزني ، فإنه إن ذهب فإن الله سيرده إليك ، وإن الله سيجعله نبيا مرسلا ، يعلي كلمته في الدنيا والآخرة ، فكانت تصنع ما أمرت به ، فأرسلته ذات يوم ، وذهلت أن تربط طرف الحبل عندها ، فذهب مع النيل فمر على [ ص: 37 ] دار فرعون فالتقطه آل فرعون قال الله تعالى : ليكون لهم عدوا وحزنا قال بعضهم : هذه لام العاقبة . وهو ظاهر إن كان متعلقا بقوله فالتقطه وأما إن جعل متعلقا بمضمون الكلام ; وهو أن آل فرعون قيضوا لالتقاطه ; ليكون لهم عدوا وحزنا ، صارت اللام معللة لغيرها ، والله أعلم . ويقوي هذا التفسير الثاني قوله إن فرعون وهامان وهو الوزير السوء وجنودهما المتابعين لهما كانوا خاطئين أي ; كانوا على خلاف الصواب ، فاستحقوا هذه العقوبة والحسرة .
وذكر المفسرون أن الجواري التقطنه من البحر في تابوت مغلق عليه ، فلم يتجاسرن على فتحه ، حتى وضعنه بين يدي امرأة فرعون ; آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد ، الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف . وقيل : إنها كانت من بني إسرائيل من سبط موسى . وقيل : بل كانت عمته . حكاه السهيلي . فالله أعلم . وسيأتي مدحها والثناء عليها في قصة مريم بنت عمران ، وأنهما يكونان يوم القيامة من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة . فلما فتحت الباب وكشفت الحجاب ، رأت وجهه يتلألأ بتلك الأنوار النبوية والجلالة الموسوية ، فلما رأته ووقع نظرها عليه أحبته حبا شديدا ، فلما جاء [ ص: 38 ] فرعون قال : ما هذا ؟ وأمر بذبحه ، فاستوهبته منه ودفعت عنه ، وقالت : قرة عين لي ولك فقال لها فرعون : أما لك فنعم ، وأما لي فلا . أي ; لا حاجة لي به . والبلاء موكل بالمنطق . وقولها : عسى أن ينفعنا وقد أنالها الله ما رجت من النفع ; أما في الدنيا فهداها الله به ، وأما في الآخرة فأسكنها جنته بسببه أو نتخذه ولدا وذلك لأنهما تبنياه ; لأنه لم يكن يولد لهما ولد . قال الله تعالى : وهم لا يشعرون أي ; لا يدرون ماذا يريد الله بهم ، أن قيضهم لالتقاطه ، من النقمة العظيمة بفرعون وجنوده . وعند أهل الكتاب أن الذي التقطت موسى وربته ابنة فرعون ، وليس لامرأته ذكر بالكلية . وهذا من غلطهم على كتاب الله ، عز وجل . قال الله تعالى وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون [ القصص : 10 - 13 ] . قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، ، وسعيد بن جبير وأبو عبيدة ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم : وأصبح فؤاد أم موسى فارغا أي ; من كل شيء من أمور الدنيا إلا من [ ص: 39 ] أمر موسى إن كادت لتبدي به أي ; لتظهر أمره وتسأل عنه جهرة . لولا أن ربطنا على قلبها أي ; صبرناها وثبتناها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته وهي ابنتها الكبيرة : قصيه أي; اتبعي أثره واطلبي لي خبره فبصرت به عن جنب قال مجاهد : عن بعد . وقال قتادة : جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده . ولهذا قال تعالى : وهم لا يشعرون وذلك لأن موسى ، عليه السلام ، لما استقر بدار فرعون أرادوا أن يغذوه برضاعة ، فلم يقبل ثديا ولا أخذ طعاما ، فحاروا في أمره واجتهدوا في ذلك ، أي على تغذيته بكل ممكن فلم يفعل ، كما قال تعالى : وحرمنا عليه المراضع من قبل فأرسلوه مع القوابل والنساء إلى السوق ; لعلهم يجدون من يوافق رضاعته ، فبينما هم وقوف به والناس عكوف عليه ، إذ بصرت به أخته ، فلم تظهر أنها تعرفه ، بل قالت : هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون قال ابن عباس : لما قالت ذلك ، قالوا لها : ما يدريك بنصحهم وشفقتهم عليه ؟ فقالت : رغبة في صهر الملك ، ورجاء منفعته . فأطلقوها وذهبوا معها إلى منزلهم ، فأخذته أمه ، فلما أرضعته التقم ثديها وأخذ يمتصه ويرتضعه ، ففرحوا بذلك فرحا شديدا ، وذهب البشير إلى آسية يعلمها بذلك ، فاستدعتها إلى منزلها ، وعرضت عليها أن تكون عندها ، وأن تحسن إليها ، فأبت عليها وقالت : إن لي بعلا وأولادا ، ولست [ ص: 40 ] أقدر على هذا إلا أن ترسليه معي . فأرسلته معها ، ورتبت لها رواتب ، وأجرت عليها النفقات والكساوى والهبات ، فرجعت به تحوزه إلى رحلها ، وقد جمع الله شمله بشملها ، قال الله تعالى فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق أي ; كما وعدناها برده ورسالته ، فهذا رده ، وهو دليل على صدق البشارة برسالته ولكن أكثرهم لا يعلمون .
وقد امتن الله بهذا على موسى ليلة كلمه ، فقال له فيما قال له : ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني [ طه 37 - 39 ] . وذلك أنه لا يراه أحد إلا أحبه ولتصنع على عيني قال قتادة ، وغير واحد من السلف : أي تطعم وترفه وتغذى بأطيب المآكل ، وتلبس أحسن الملابس ; بمرأى مني ، وذلك كله بحفظي وكلاءتي لك فيما صنعت بك ولك ، وقدرته من الأمور التي لا يقدر عليها غيري إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا [ طه : 40 ] . وسنورد حديث الفتون في موضعه بعد هذا ، إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة وعليه التكلان .
[ ص: 41 ] ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين [ القصص : 14 - 17 ] . لما ذكر تعالى أنه أنعم على أمه برده إليها ، وإحسانه بذلك ، وامتنانه عليها ، شرع في ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى ; وهو احتكام الخلق والخلق ، وهو سن الأربعين ، في قول الأكثرين ، آتاه الله حكما وعلما ; وهو النبوة والرسالة التي كان بشر بها أمه ، حيث قال : إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ثم شرع في ذكر سبب خروجه من بلاد مصر ، وذهابه إلى أرض مدين وإقامته هنالك ، حتى كمل الأجل ، وانقضى الأمد ، وكان ما كان من كلام الله له ، وإكرامه بما أكرمه به كما سيأتي .
قال تعالى : ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها قال ابن عباس ، ، وسعيد بن جبير وعكرمة ، وقتادة ، : وذلك نصف النهار . وفي رواية عن والسدي ابن عباس : بين العشائين فوجد فيها رجلين يقتتلان أي ; يتضاربان ويتهاوشان هذا من شيعته أي ; إسرائيلي وهذا من عدوه أي ; قبطي . قاله ابن عباس ، وقتادة ، ، والسدي [ ص: 42 ] ومحمد بن إسحاق فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه وذلك أن موسى ، عليه السلام ، كانت له بديار مصر صولة ; بسبب نسبته إلى تبني فرعون له وتربيته في بيته ، وكانت بنو إسرائيل قد عزوا وصارت لهم وجاهة ، وارتفعت رءوسهم بسبب أنهم أرضعوه ، وهم أخواله ، أي من الرضاعة ، فلما استغاث ذلك الإسرائيلي موسى ، عليه السلام ، على ذلك القبطي ، أقبل إليه موسى فوكزه قال مجاهد : أي طعنه بجمع كفه . وقال قتادة : بعصا كانت معه فقضى عليه أي ; فمات منها . وقد كان ذلك القبطي كافرا مشركا بالله العظيم ، ولم يرد موسى قتله بالكلية ، وإنما أراد زجره وردعه ، ومع هذا قال موسى هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي أي ، من العز والجاه فلن أكون ظهيرا للمجرمين .
فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين [ القصص 18 - 21 ] . يخبر تعالى [ ص: 43 ] أن موسى أصبح بمدينة مصر خائفا أي من فرعون وملئه ، أن يعلموا أن هذا القتيل الذي رفع إليه أمره إنما قتله موسى في نصرة رجل من بني إسرائيل ، فتقوى ظنونهم أن موسى منهم ويترتب على ذلك أمر عظيم ، فصار يسير في المدينة في صبيحة ذلك اليوم خائفا يترقب أي ; يتلفت . فبينما هو كذلك ، إذا ذلك الرجل الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس يستصرخه أي ; يصرخ به ، ويستغيثه على آخر قد قاتله ، فعنفه موسى ولامه على كثرة شره ، ومخاصمته ، قال له إنك لغوي مبين ثم أراد أن يبطش بذلك القبطي ، الذي هو عدو لموسى وللإسرائيلي ، فيردعه عنه ويخلصه منه ، فلما عزم على ذلك وأقبل على القبطي قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين [ القصص : 19 ] . قال بعضهم : إنما قال هذا الكلام الإسرائيلي الذي اطلع على ما كان صنع موسى بالأمس ، وكأنه لما رأى موسى مقبلا إلى القبطي ، اعتقد أنه جاء إليه لما عنفه قبل ذلك بقوله إنك لغوي مبين فقال ما قال لموسى ، وأظهر الأمر الذي كان وقع بالأمس ، فذهب القبطي فاستعدى فرعون على موسى . وهذا الذي لم يذكره كثير من الناس سواه . ويحتمل أن قائل هذا هو القبطي ، وأنه لما رآه مقبلا إليه خافه ; ورأى من سجيته انتصارا جيدا للإسرائيلي ، فقال ما قال من باب الظن والفراسة ، أن هذا لعله قاتل ذاك القتيل بالأمس ، أو لعله فهم من كلام الإسرائيلي ، حين استصرخه عليه ، ما دله على هذا . والله أعلم .
والمقصود أن فرعون بلغه أن موسى هو قاتل ذلك المقتول بالأمس ، فأرسل [ ص: 44 ] في طلبه ، وسبقهم رجل ناصح من طريق أقرب إليه ، وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى ساعيا إليه مشفقا عليه فقال : ياموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج أي ; من هذه البلدة إني لك من الناصحين أي ; فيما أقوله لك . قال الله تعالى : فخرج منها خائفا يترقب أي ; فخرج من مدينة مصر من فوره ، على وجهه ، لا يهتدي إلى طريق ولا يعرفه ، قائلا : رب نجني من القوم الظالمين .
ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير [ القصص : 22 - 24 ] . يخبر تعالى عن خروج عبده ورسوله وكليمه من مصر خائفا يترقب أي ; يتلفت خشية أن يدركه أحد من قوم فرعون ، وهو لا يدري أين يتوجه ، ولا إلى أين يذهب ، وذلك لأنه لم يخرج من مصر قبلها ولما توجه تلقاء مدين أي ; اتجه له طريق يذهب فيه قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل أي ; عسى أن تكون هذه الطريق موصلة إلى المقصود . وكذا وقع ، أوصلته إلى مقصود ، وأي مقصود ولما ورد ماء مدين وكانت بئرا يستقون منها . ومدين هي المدينة التي أهلك الله فيها أصحاب الأيكة ، وهم قوم شعيب عليه السلام ، وقد [ ص: 45 ] كان هلاكهم قبل زمن موسى ، عليه السلام ، في أحد قولي العلماء . ولما ورد الماء المذكور وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان أي ; تكفكفان غنمهما أن تختلط بغنم الناس . وعند أهل الكتاب ، أنهن كن سبع بنات . وهذا أيضا من الغلط . ولعله كان له سبع ، ولكن إنما كان تسقي اثنتان منهن . وهذا الجمع ممكن إن كان ذلك محفوظا ، وإلا فالظاهر أنه لم يكن له سوى بنتين .
قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير أي ; لا نقدر على ورد الماء إلا بعد صدور الرعاء ; لضعفنا ، وسبب مباشرتنا هذه الرعية ضعف أبينا وكبره . قال الله تعالى : فسقى لهما قال المفسرون : وذلك أن الرعاء كانوا إذا فرغوا من وردهم ، وضعوا على فم البئر صخرة عظيمة ، فتجيء هاتان المرأتان فيشرعان غنمهما في فضل أغنام الناس ، فلما كان ذلك اليوم جاء موسى فرفع تلك الصخرة وحده ، ثم استقى لهما ، وسقى غنمهما ، ثم رد الصخرة كما كانت . قال أمير المؤمنين عمر : وكان لا يرفعه إلا عشرة . وإنما استقى ذنوبا واحدا فكفاهما ، ثم تولى إلى الظل . قالوا : وكان ظل شجرة من السمر . وروى ابن جرير ، [ ص: 46 ] عن ابن مسعود ، أنه رآها خضراء ترف . فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير . قال ابن عباس : سار من مصر إلى مدين ، لم يأكل إلا البقل وورق الشجر ، وكان حافيا فسقطت نعلا قدميه من الحفاء وجلس في الظل ، وهو صفوة الله من خلقه ، وإن بطنه لاصق بظهره من الجوع ، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه ، وأنه لمحتاج إلى شق تمرة . قال عطاء بن السائب : لما قال : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير أسمع المرأة .
فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل [ القصص : 25 - 28 ] . لما جلس موسى ، عليه السلام ، في الظل ، وقال : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير سمعته المرأتان ، فيما قيل ، فذهبتا إلى أبيهما ، فيقال : إنه استنكر سرعة رجوعهما ، فأخبرتاه ما كان من أمر موسى عليه السلام ، فأمر إحداهما أن تذهب إليه فتدعوه فجاءته إحداهما تمشي على استحياء [ ص: 47 ] أي ; مشي الحرائر . قال عمر ، رضي الله عنه : تستر وجهها بكم درعها إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا صرحت له بهذا ; لئلا يوهم كلامها ريبة ، وهذا من تمام حيائها وصيانتها . فلما جاءه وقص عليه القصص أي ; وأخبره خبره ، وما كان من أمره ; في خروجه من بلاد مصر فرارا من فرعونها ، قال له ذلك الشيخ : لا تخف نجوت من القوم الظالمين أي ; خرجت من سلطانهم ، فلست في دولتهم .
وقد اختلفوا في هذا الشيخ ; من هو ؟ فقيل : هو شعيب ، عليه السلام . وهذا هو المشهور عند كثيرين . وممن نص عليه ، الحسن البصري ، وجاء مصرحا به في حديث ، ولكن في إسناده نظر . وصرح طائفة بأن ومالك بن أنس شعيبا ، عليه السلام ، عاش عمرا طويلا بعد هلاك قومه ، حتى أدركه موسى ، عليه السلام ، وتزوج بابنته . وروى ابن أبي حاتم وغيره ، عن ، أن صاحب الحسن البصري موسى ، عليه السلام ، هذا اسمه شعيب ، وكان سيد الماء ، ولكن ليس بالنبي صاحب مدين . وقيل : إنه ابن أخي شعيب . وقيل : ابن عمه . وقيل : رجل مؤمن من قوم شعيب . وقيل : رجل [ ص: 48 ] اسمه يثرون . هكذا هو في كتب أهل الكتاب : يثرون كاهن مدين . أي ; كبيرها وعالمها . قال ابن عباس ، : اسمه وأبو عبيدة بن عبد الله يثرون . زاد أبو عبيدة : وهو ابن أخي شعيب . زاد ابن عباس : صاحب مدين .
والمقصود أنه لما أضافه وأكرم مثواه ، وقص عليه ما كان من أمره ، بشره بأنه قد نجا ، فعند ذلك قالت إحدى البنتين لأبيها يا أبت استأجره أي; لرعي غنمك . ثم مدحته بأنه قوي أمين . قال عمر ، وابن عباس ، وشريح القاضي ، وأبو مالك ، وقتادة ، وغير واحد : لما قالت ذلك قال لها أبوها : وما علمك بهذا؟ فقالت : إنه رفع صخرة لا يطيق رفعها إلا عشرة ، وإنه لما جئت معه تقدمت أمامه ، فقال : كوني من ورائي ، فإذا اختلف الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق . قال ومحمد بن إسحاق ، ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة; صاحب يوسف حين قال لامرأته : أكرمي مثواه وصاحبة موسى حين قالت : ياأبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب
قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين استدل بهذا جماعة من أصحاب أبي حنيفة ، رحمه الله ، على صحة ما إذا ونحو ذلك ، أنه يصح; لقوله : إحدى ابنتي هاتين وفي هذا نظر; لأن هذه مراوضة لا معاقدة . [ ص: 49 ] والله أعلم . واستدل أصحاب باعه أحد هذين العبدين أو الثوبين ، أحمد على صحة كما جرت به العادة ، واستأنسوا بالحديث الذي رواه الإيجار بالطعمة والكسوة ، ابن ماجه في " سننه " مترجما في كتابه " باب استئجار الأجير على طعام بطنه " : حدثنا محمد بن المصفىالحمصي ، حدثنا بقية بن الوليد ، عن مسلمة بن علي ، عن عن سعيد بن أبي أيوب ، الحارث بن يزيد ، عن علي بن رباح ، قال : سمعت عتبة بن الندر يقول : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ " طسم " حتى إذا بلغ قصة موسى قال : إن موسى ، عليه السلام ، آجر نفسه ثماني سنين ، أو عشرا ، على عفة فرجه وطعام بطنه . وهذا من هذا الوجه لا يصح; لأن مسلمة بن علي الخشني الدمشقي البلاطي ضعيف عند الأئمة ، لا يحتج بتفرده ، ولكن قد روي من وجه آخر; فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثني ابن لهيعة ، ( ح ) . وحدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا عن عبد الله بن لهيعة ، الحارث بن يزيد الحضرمي ، عن قال : سمعت عتبة علي بن رباح اللخمي ، بن الندر السلمي ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أن رسول الله قال : إن موسى ، عليه السلام ، آجر نفسه لعفة فرجه وطعمة بطنه .
[ ص: 50 ] ثم قال تعالى : ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل [ القصص : 28 ] . يقول : إن موسى قال لصهره : الأمر على ما قلت ، فأيهما قضيت فلا عدوان علي ، والله على مقالتنا سامع وشاهد ، ووكيل علي وعليك . ومع هذا فلم يقض موسى إلا أكمل الأجلين وأتمهما ، وهو العشر سنين كوامل تامة .
قال : حدثنا البخاري محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا مروان بن شجاع ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى؟ فقلت : لا أدري ، حتى أقدم على حبر العرب فأسأله . فقدمت ، فسألت ابن عباس ، فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله إذا قال فعل . تفرد به من هذا الوجه . وقد رواه البخاري في حديث الفتون ، كما سيأتي من طريق النسائي القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير به . وقد رواه ابن جرير عن أحمد بن محمد الطوسي ، عن أبيه ، كلاهما عن وابن أبي حاتم عن الحميدي ، سفيان بن عيينة ، حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : جبريل : أي الأجلين قضى موسى؟ قال : أتمهما وأكملهما سألت وإبراهيم هذا غير معروف إلا [ ص: 51 ] بهذا الحديث . وقد رواه البزار عن أحمد بن أبان القرشي ، عن سفيان بن عيينة ، عن إبراهيم بن أعين ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . وقد رواه عن سنيد حجاج ، عن عن ابن جريج مجاهد مرسلا ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن ذلك جبريل ، فسأل جبريل إسرافيل ، فسأل إسرافيل الرب ، عز وجل ، فقال : أبرهما وأوفاهما وبنحوه رواه ابن أبي حاتم من حديث يوسف بن سرج مرسلا . ورواه ابن جرير من طريق محمد بن كعب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الأجلين قضى موسى؟ قال : أوفاهما وأتمهما . وقد رواه البزار من حديث وابن أبي حاتم ، عويد بن أبي عمران الجوني - وهو ضعيف - عن أبيه ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سئل : أي الأجلين قضى موسى؟ قال : أوفاهما وأبرهما . قال : وقد رواه وإن سئل : أي المرأتين تزوج؟ فقل : الصغرى منهما البزار من طريق وابن أبي حاتم عن عبد الله بن لهيعة ، الحارث بن يزيد الحضرمي ، عن علي بن رباح ، عن عتبة بن الندر ، موسى آجر نفسه بعفة فرجه وطعام [ ص: 52 ] بطنه . فلما وفى الأجل . قيل : يا رسول الله ، أي الأجلين؟ قال : أبرهما وأوفاهما ، فلما أراد فراق شعيب ، أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به ، فأعطاها ما ولدت غنمه من قالب لون من ولد ذلك العام ، وكانت غنمه سودا حسانا ، فانطلق موسى ، عليه السلام ، إلى عصا قسمها من طرفها ، ثم وضعها في أدنى الحوض ، ثم أوردها فسقاها ، ووقف موسى ، عليه السلام ، بإزاء الحوض ، فلم تصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة قال : فأتأمت وأثلثت ووضعت كلها قوالب ألوان ، إلا شاة أو شاتين; ليس فيها فشوش ، ولا ضبوب ، ولا عزوز ، ولا ثعول ، ولا كمشة تفوت الكف . قال النبي صلى الله عليه وسلم : لو افتتحتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم ، وهي السامرية قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إن ابن لهيعة : الفشوش : واسعة الشخب . والضبوب : طويلة الضرع تجره . والعزوز : ضيقة الشخب . والثعول : الصغيرة الضرع كالحلمتين . والكمشة التي لا يحكم الكف على ضرعها لصغره . وفي صحة رفع هذا الحديث نظر ، وقد يكون موقوفا ، كما قال ابن جرير : حدثنا حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا أبي ، عن معاذ بن هشام ، قتادة ، حدثنا أنس بن مالك قال : لما دعا نبي الله موسى صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما ، قال له صاحبه : كل شاة ولدت على لونها فلك ولدها . فعمد فوضع خيالا على الماء ، فلما رأت الخيال فزعت ، فجالت جولة ، فولدن كلهن بلقا إلا شاة واحدة ، [ ص: 53 ] فذهب بأولادهن ذلك العام . وهذا إسناد رجاله ثقات . والله أعلم . وقد تقدم ، عن نقل أهل الكتاب ، عن يعقوب عليه السلام ، حين فارق خاله لابان ، أنه أطلق له ما يولد من غنمه بلقا ، ففعل نحو ما ذكر عن موسى ، عليه السلام ، فالله أعلم .
فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين [ القصص : 29 - 32 ] . تقدم أن موسى قضى أتم الأجلين وأكملهما ، وقد يؤخذ هذا من قوله : فلما قضى موسى الأجل وعن مجاهد ، أنه أكمل عشرا ، وعشرا بعدها . وقوله : وسار بأهله أي; من عند صهره ذاهبا ، فيما ذكره غير واحد من المفسرين وغيرهم ، أنه اشتاق إلى أهله ، فقصد زيارتهم ببلاد مصر ، في صورة مختف ، فلما سار بأهله ، ومعه ولدان منهم ، وغنم قد استفادها مدة مقامه . قالوا : واتفق ذلك في ليلة مظلمة باردة ، وتاهوا في طريقهم ، فلم يهتدوا إلى [ ص: 54 ] السلوك في الدرب المألوف ، وجعل يوري زناده فلا يوري شيئا ، واشتد الظلام والبرد ، فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد نارا تأجج في جانب الطور ، وهو الجبل الغربي منه عن يمينه ، فقال لأهله : امكثوا إني آنست نارا وكأنه - والله أعلم - رآها دونهم; لأن هذه النار هي نور في الحقيقة ، ولا تصلح رؤيتها لكل أحد لعلي آتيكم منها بخبر أي; لعلي أستعلم من عندها عن الطريق أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فدل على أنهم كانوا قد تاهوا عن الطريق في ليلة باردة ومظلمة; لقوله في الآية الأخرى : وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى [ طه : 9 ، 10 ] . فدل على وجود الظلام ، وكونهم تاهوا عن الطريق .
وجمع الكل في سورة " النمل " في قوله تعالى : إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون [ النمل : 7 ] . وقد أتاهم منها بخبر ، وأي خبر؟ ووجد عندها هدى ، وأي هدى؟ واقتبس منها نورا ، وأي نور؟ . قال الله تعالى : فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وقال تعالى في " النمل " : فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين [ النمل : 8 ] . [ ص: 55 ] أي; سبحان الله الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . ياموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم [ النمل : 9 ] . وقال في سورة " طه " : فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى [ طه : 11 - 16 ] . قال غير واحد من المفسرين ، من السلف والخلف : لما قصد موسى إلى تلك النار التي رآها ، فانتهى إليها ، وجدها تأجج في شجرة خضراء من العوسج ، وكل ما لتلك النار في اضطرام ، وكل ما لخضرة تلك الشجرة في ازدياد ، فوقف متعجبا ، وكانت تلك الشجرة في لحف جبل غربي منه عن يمينه; كما قال تعالى وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين [ القصص : 44 ] . وكان موسى في واد اسمه طوى ، فكان موسى مستقبل القبلة ، وتلك الشجرة عن يمينه من ناحية الغرب ، فناداه ربه بالواد المقدس طوى ، فأمر أولا بخلع نعليه; تعظيما وتكريما وتوقيرا لتلك البقعة المباركة ، ولا سيما في تلك الليلة المباركة . وعند أهل الكتاب أنه وضع يده على وجهه من شدة ذلك النور; مهابة له وخوفا على بصره .
[ ص: 56 ] ثم خاطبه تعالى كما يشاء قائلا له : إني أنا الله رب العالمين إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري أي; أنا الله رب العالمين ، الذي لا إله إلا هو الذي لا تصلح العبادة وإقامة الصلاة إلا له . ثم أخبره أن هذه الدنيا ليست بدار قرار ، إنما الدار الباقية يوم القيامة ، التي لا بد من كونها ووجودها لتجزى كل نفس بما تسعى أي; من خير وشر . وحضه وحثه على العمل لها ومجانبة من لا يؤمن بها ممن عصى مولاه ، واتبع هواه . ثم قال له مخاطبا ومؤانسا ، ومبينا له أنه القادر على كل شيء الذي يقول للشيء : كن . فيكون : وما تلك بيمينك ياموسى [ طه : 17 ] . أي; أما هذه عصاك التي تعرفها منذ صحبتها؟ قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مئارب أخرى [ طه : 18 ] . أي; بل هذه عصاي التي أعرفها وأتحققها قال ألقها ياموسى فألقاها فإذا هي حية تسعى [ طه : 19 ، 20 ] . وهذا خارق عظيم ، وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه هو الذي يقول للشيء : كن فيكون . وأنه الفعال بالاختيار .
وعند أهل الكتاب أنه سأل برهانا على صدقه عند من يكذبه من أهل مصر ، فقال له الرب عز وجل : ما هذه التي في يدك؟ قال : عصاي . قال : ألقها إلى الأرض فألقاها فإذا هي حية تسعى فهرب موسى من قدامها ، فأمره الرب ، عز وجل ، أن يبسط يده ويأخذها بذنبها ، فلما استمكن منها ارتدت عصا في يده . وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى : وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب [ ص: 57 ] أي; صارت حية عظيمة لها ضخامة هائلة ، وأنياب تصطك ، وهي مع ذلك في سرعة حركة الجان ، وهو ضرب من الحيات يقال له : الجان والجنان . وهو لطيف ، ولكنه سريع الاضطراب والحركة جدا ، فهذه جمعت الضخامة والسرعة الشديدة فلما عاينها موسى ، عليه السلام ، ولى مدبرا أي; هاربا منها; لأن طبيعته البشرية تقتضي ذلك ولم يعقب أي; ولم يلتفت فناداه ربه قائلا له : ياموسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين فلما رجع أمره الله تعالى أن يمسكها قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى فيقال : إنه هابها شديدا ، فوضع يده في كم مدرعته ، ثم وضع يده في وسط فمها - وعند أهل الكتاب : بذنبها - فلما استمكن منها ، إذا هي قد عادت كما كانت عصا ذات شعبتين . فسبحان القدير العظيم رب المشرقين والمغربين . ثم أمره تعالى بإدخال يده في جيبه ، ثم أمره بنزعها فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضا من غير سوء أي; من غير برص ولا بهق . ولهذا قال : اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب قيل : معناه إذا خفت فضع يدك على فؤادك يسكن جأشك . وهذا وإن كان خاصا به ، إلا أن ببركة الإيمان به حق الإيمان ينتفع من استعمل ذلك على وجه الاقتداء بالأنبياء . وقال في سورة " النمل " : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين [ النمل : 12 ] . [ ص: 58 ] أي; هاتان الآيتان وهما العصا واليد ، وهما البرهانان المشار إليهما في قوله : فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين ومع ذلك سبع آيات أخر فذلك تسع آيات بينات وهي المذكورة في آخر سورة " سبحان " حيث يقول تعالى : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا [ الإسراء : 101 ، 102 ] . وهي المبسوطة في سورة " الأعراف " في قوله : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين [ الأعراف : 130 - 133 ] . كما سيأتي الكلام على ذلك في موضعه . وهذه التسع الآيات غير العشر كلمات; فإن التسع من آيات الله القدرية ، والعشر من كلماته الشرعية . وإنما نبهنا على هذا; لأنه قد اشتبه أمرها على بعض الرواة فظن أن هذه هي هذه ، كما قررنا ذلك في تفسير آخر سورة بني إسرائيل .
[ ص: 59 ] والمقصود أن الله سبحانه لما أمر موسى ، عليه السلام ، بالذهاب إلى فرعون قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون [ القصص : 33 - 35 ] . يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وكليمه موسى ، عليه السلام ، في جوابه لربه ، عز وجل ، حين أمره بالذهاب إلى عدوه ، الذي خرج من ديار مصر فرارا من سطوته وظلمه ، حين كان من أمره ما كان في قتل ذلك القبطي ولهذا قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون أي; اجعله معي معينا وردءا ووزيرا يساعدني ويعينني على أداء رسالتك إليهم ; فإنه أفصح مني لسانا وأبلغ بيانا . قال الله تعالى ، مجيبا له إلى سؤاله : سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا أي; برهانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أي; فلا ينالون منكما مكروها بسبب قيامكما بآياتنا . وقيل ببركة آياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون وقال في سورة " طه " : اذهب إلى فرعون إنه طغى قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي [ طه : 24 - 28 ] . قيل : إنه أصابه في لسانه لثغة; بسبب تلك الجمرة التي وضعها على لسانه ، التي كان فرعون أراد اختبار عقله ، حين [ ص: 60 ] أخذ بلحيته وهو صغير ، فهم بقتله ، فخافت عليه آسية ، وقالت : إنه طفل . فاختبره بوضع تمرة وجمرة بين يديه ، فهم بأخذ التمرة ، فصرف الملك يده إلى الجمرة ، فأخذها ، فوضعها على لسانه ، فأصابه لثغة بسببها ، فسأل زوال بعضها بمقدار ما يفهمون قوله ، ولم يسأل زوالها بالكلية . قال : والرسل إنما يسألون بحسب الحاجة . ولهذا بقيت في لسانه بقية ، ولهذا قال الحسن البصري فرعون ، قبحه الله ، فيما زعم إنه يعيب به الكليم : ولا يكاد يبين [ الزخرف : 52 ] . أي; يفصح عن مراده ، ويعبر عما في ضميره وفؤاده . ثم قال موسى ، عليه السلام : واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا قال قد أوتيت سؤلك يا موسى [ طه : 29 - 36 ] . أي; قد أجبناك إلى جميع ما سألت ، وأعطيناك الذي طلبت . وهذا من وجاهته عند ربه عز وجل ، حين شفع أن يوحي الله إلى أخيه فأوحى إليه ، وهذا جاه عظيم ، قال الله تعالى : وكان عند الله وجيها [ الأحزاب : 69 ] . وقال تعالى : ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا [ مريم : 53 ] . وقد سمعت أم المؤمنين عائشة رجلا يقول لأناس ، وهم سائرون في طريق الحج : أي أخ أمن على أخيه؟ فسكت القوم ، فقالت عائشة لمن حول هودجها : هو موسى بن عمران حين شفع في أخيه أن يكون نبيا يوحى إليه . قال الله تعالى : ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا .
[ ص: 61 ] وقال تعالى في سورة " الشعراء " : وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين [ الشعراء : 10 - 19 ] . تقدير الكلام : فأتياه فقولا له ذلك وبلغاه ما أرسلتما به من دعوته إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، وأن يفك أسارى بني إسرائيل من قبضته وقهره وسطوته ، ويتركهم يعبدون ربهم حيث شاءوا ، ويتفرغون لتوحيده ، ودعائه ، والتضرع لديه . فتكبر فرعون في نفسه ، وعتا وطغى ، ونظر إلى موسى ، عليه السلام ، بعين الازدراء والتنقص ، قائلا له : ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين أي; أما أنت الذي ربيناه في منزلنا وأحسنا إليه ، وأنعمنا عليه مدة من الدهر؟ وهذا يدل على أن فرعون الذي بعث إليه هو الذي فر منه ، خلافا لما عند أهل الكتاب من أن فرعون الذي فر منه مات في مدة مقامه بمدين ، وأن الذي بعث إليه فرعون آخر . وقوله : وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين أي; وقتلت الرجل القبطي ، وفررت منا ، وجحدت نعمتنا [ ص: 62 ] قال فعلتها إذا وأنا من الضالين أي; قبل أن يوحى إلى ، وينزل على ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين [ الشعراء : 21 ] . ثم قال مجيبا لفرعون عما امتن به عليه من التربية والإحسان إليه وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل [ الشعراء : 22 ] . أي; وهذه النعمة التي ذكرت ، من أنك أحسنت إلي ، وأنا رجل واحد من بني إسرائيل ، تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم بكماله ، واستعبدتهم في أعمالك وخدمتك وأشغالك .
قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون [ الشعراء : 23 - 28 ] . يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى ، من المقاولة والمحاجة والمناظرة ، وما أقامه الكليم على فرعون اللئيم من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية . وذلك أن فرعون ، قبحه الله ، أظهر جحد الصانع تبارك وتعالى ، وزعم أنه الإله فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى [ النازعات : 23 ، 24 ] . وقال : ياأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري [ القصص : 38 ] . وهو في هذه المقالة معاند ، [ ص: 63 ] يعلم أنه عبد مربوب ، وأن الله هو الخالق البارئ المصور ، الإله الحق ، كما قال تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين [ النمل : 14 ] . ولهذا قال لموسى ، عليه السلام ، على سبيل الإنكار لرسالته ، والإظهار أنه ما ثم رب أرسله : وما رب العالمين [ الشعراء : 23 ] . لأنهما قالا له : إنا رسول رب العالمين فكأنه يقول لهما : ومن رب العالمين ، الذي تزعمان أنه أرسلكما وابتعثكما؟ فأجابه موسى قائلا : رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين [ الشعراء : 24 ] . يعني رب العالمين ، خالق هذه السماوات والأرض المشاهدة ، وما بينهما من المخلوقات المتجددة; من السحاب والرياح والمطر والنبات والحيوانات ، التي يعلم كل موقن أنها لم تحدث بأنفسها ، ولا بد لها من موجد ومحدث وخالق ، وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين . قال أي; فرعون لمن حوله من أمرائه ، ومرازبته ووزرائه ، على سبيل التهكم والتنقص لما قرره موسى ، عليه السلام : ألا تستمعون يعني كلامه هذا . قال موسى مخاطبا له ولهم : ربكم ورب آبائكم الأولين [ الشعراء : 26 ] . أي; هو الذي خلقكم والذين من قبلكم; من الآباء والأجداد والقرون السالفة في الآباد ، فإن كل أحد يعلم أنه لم يخلق نفسه ولا أبوه ولا أمه ، ولم يحدث من غير محدث ، وإنما أوجده وخلقه رب العالمين . وهذان المقامان هما [ ص: 64 ] المذكوران في قوله تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ فصلت : 53 ] . ومع هذا كله لم يستفق فرعون من رقدته ، ولا نزع عن ضلالته ، بل استمر على طغيانه وعناده ، وكفرانه قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون [ الشعراء : 27 ، 28 ] . أي; هو المسخر لهذه الكواكب الزاهرة ، المسير للأفلاك الدائرة ، خالق الظلام والضياء ورب الأرض والسماء ، رب الأولين والآخرين ، خالق الشمس والقمر ، والكواكب السائرة والثوابت الحائرة ، خالق الليل بظلامه والنهار بضيائه ، والكل تحت قهره وتسخيره وتسييره سائرون ، وفي فلك يسبحون ، يتعاقبون في سائر الأوقات ويدورون ، فهو تعالى الخالق المالك المتصرف في خلقه بما يشاء .
فلما قامت الحجج على فرعون وانقطعت شبهه ولم يبق له قول سوى العناد ، عدل إلى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته ، قال : قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين [ الشعراء : 29 - 33 ] . وهذان هما البرهانان اللذان أيده الله بهما ، وهما العصا واليد . وذلك مقام أظهر فيه الخارق العظيم ، الذي بهر به العقول والأبصار ، حين ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، أي عظيم الشكل ، بديع في الضخامة والهول ، والمنظر العظيم الفظيع الباهر ، حتى قيل : إن فرعون [ ص: 65 ] لما شاهد ذلك وعاينه ، أخذه رعب شديد ، وخوف عظيم ، بحيث إنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم واحد ، وكان قبل ذلك لا يتبرز في كل أربعين يوما إلا مرة واحدة ، فانعكس عليه الحال . وهكذا لما أدخل موسى ، عليه السلام ، يده في جيبه واستخرجها ، أخرجها وهي كفلقة القمر ، تتلألأ نورا يبهر الأبصار ، فإذا أعادها إلى جيبه رجعت إلى صفتها الأولى ، ومع هذا كله لم ينتفع فرعون ، لعنه الله ، بشيء من ذلك ، بل استمر على ما هو عليه ، وأظهر أن هذا كله سحر ، وأراد معارضته بالسحرة ، فأرسل يجمعهم من سائر مملكته ، ومن في رعيته وتحت قهره ودولته ، كما سيأتي بسطه وبيانه في موضعه; من إظهار الله الحق المبين ، والحجة الباهرة القاطعة على فرعون وملئه ، وأهل دولته وملته ، ولله الحمد والمنة .
وقال تعالى في سورة " طه " : فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [ طه : 40 - 46 ] . يقول تعالى مخاطبا لموسى ، فيما كلمه به ليلة أوحى إليه ، وأنعم بالنبوة عليه ، وكلمه منه إليه : قد كنت مشاهدا لك وأنت في دار فرعون ، وأنت تحت كنفي وحفظي ولطفي ، ثم أخرجتك من أرض مصر إلى أرض مدين بمشيئتي وقدرتي وتدبيري ، فلبثت [ ص: 66 ] فيها سنين ثم جئت على قدر أي; مني لذلك ، فوافق ذلك تقديري وتسييري واصطنعتك لنفسي أي; اصطفيتك لنفسي برسالتي وبكلامي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري يعني : ولا تفترا في ذكري إذ قدمتما عليه ، ووفدتما إليه; فإن ذلك عون لكما على مخاطبته ومجاوبته ، وإهداء النصيحة إليه ، وإقامة الحجة عليه . وقد جاء في بعض الأحاديث : يقول الله تعالى : إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الأنفال : 45 ] .
ثم قال تعالى : اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وهذا من حلمه تعالى ، وكرمه ورأفته ورحمته بخلقه ، مع علمه بكفر فرعون وعتوه وتجبره ، وهو إذ ذاك أردى خلقه وقد بعث إليه صفوته من خلقه في ذلك الزمان ، ومع هذا يقول لهما ويأمرهما أن يدعواه إليه بالتي هي أحسن; برفق ولين ، ويعاملاه معاملة من يرجو أن يتذكر أو يخشى ، كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ النحل : 125 ] . وقال تعالى : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم الآية [ العنكبوت : 46 ] . قال : الحسن البصري فقولا له قولا لينا ; . أعذرا إليه ، قولا له : إن لك ربا ولك معادا ، وإن بين يديك جنة [ ص: 67 ] ونارا . وقال قولا له : إني إلي العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة . وقال وهب بن منبه : يزيد الرقاشي عند هذه الآية : يا من يتحبب إلى من يعاديه ، فكيف بمن يتولاه ويناديه؟ قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى وذلك أن فرعون كان جبارا عنيدا ، شيطانا مريدا ، له سلطان في بلاد مصر طويل عريض ، وجاه وجنود وعساكر وسطوة ، فهاباه من حيث البشرية ، وخافا أن يسطو عليهما في بادئ الأمر ، فثبتهما تعالى ، وهو العلي الأعلى ، فقال : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ، كما قال في الآية الأخرى : إنا معكم مستمعون فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى [ طه : 47 ، 48 ] . يذكر تعالى أنه أمرهما أن يذهبا إلى فرعون ، فيدعواه إلى الله تعالى; أن يعبده وحده لا شريك له ، وأن يرسل معهم بني إسرائيل ، ويطلقهم من أسره وقهره ، ولا يعذبهم قد جئناك بآية من ربك وهو البرهان العظيم في العصي واليد والسلام على من اتبع الهدى تقييد مفيد بليغ عظيم . ثم تهدداه وتوعداه على التكذيب ، فقالا :