في هذه السنة فتح قرقيسياء وهيت
قال ابن جرير وغيره : لما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن وكان أهل الجزيرة قد أمدوا أهل حمص على قتال أبي عبيدة وخالد - لما كان هرقل بقنسرين - واجتمع أهل الجزيرة في مدينة هيت كتب سعد إلى عمر في ذلك ، فكتب إليه أن يبعث إليهم جيشا ، وأن يؤمر عليهم عمر بن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف ، فسار في من معه من المسلمين إلى هيت فوجدهم قد خندقوا عليهم ، فحاصرهم حينا فلم يظفر بهم ، فسار في طائفة من أصحابه ، [ ص: 30 ] واستخلف على محاصرة هيت الحارث بن يزيد ، فراغ عمر بن مالك إلى قرقيسياء ، فأخذها عنوة ، وأنابوا إلى بذل الجزية ، وكتب إلى نائبه على هيت إن لم يصالحوا ، أن يحفر من وراء خندقهم خندقا ، ويجعل له أبوابا من ناحيته . فلما بلغهم ذلك أنابوا إلى المصالحة .
قال شيخنا أبو عبد الله الحافظ الذهبي : وفي هذه السنة بعث أبو عبيدة عمرو بن العاص بعد فراغه من اليرموك إلى قنسرين فصالح أهل حلب ومنبج ، وأنطاكية ، على الجزية ، وفتح سائر بلاد قنسرين عنوة . قال : وفيها افتتحت سروج والرها على يدي عياض بن غنم قال : وفيها فيما ذكر ابن الكلبي سار أبو عبيدة وعلى مقدمته خالد بن الوليد ، فحاصر إيلياء فسألوا الصلح على أن يقدم عمر فيصالحهم على ذلك ، فكتب أبو عبيدة إلى عمر ، فقدم حتى صالحهم ، وأقام أياما ثم رجع إلى المدينة . قلت : قد تقدم هذا فيما قبل هذه السنة ، والله أعلم .
قال الواقدي : وفي هذه السنة حمى عمر الربذة لخيل المسلمين ، وفيها غرب عمر أبا محجن الثقفي إلى باضع ، وفيها تزوج عبد الله بن عمر صفية [ ص: 31 ] بنت أبي عبيد . قلت : الذي قتل يوم الجسر ، وكان أمير السرية ، وهي أخت المختار بن أبي عبيد ، أمير العراق فيما بعد ، وكانت امرأة صالحة ، وكان أخوها فاجرا ، وكافرا أيضا . قال الواقدي : وفيها حج عمر بالناس ، واستخلف على المدينة . قال : وكان نائبه على زيد بن ثابت مكة عتاب ، وعلى الشام أبو عبيدة ، وعلى العراق سعد ، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص ، وعلى اليمن ، وعلى يعلى بن أمية اليمامة والبحرين وعلى العلاء بن الحضرمي ، عمان حذيفة بن محصن ، وعلى البصرة المغيرة بن شعبة ، وعلى الموصل ربعي بن الأفكل ، وعلى الجزيرة عياض بن غنم الأشعري .
قال الواقدي : وفي ربيع الأول من هذه السنة - أعني سنة ست عشرة - عمر بن الخطاب التأريخ ، وهو أول من كتبه . قلت : قد ذكرنا سببه في " سيرة كتب عمر " ، وذلك أنه رفع إلى عمر صك مكتوب لرجل على آخر بدين يحل عليه في شعبان ، فقال : أي شعبان ؟ أمن هذه السنة أم التي قبلها ، أم التي بعدها ؟ ثم جمع الناس فقال : ضعوا للناس شيئا يعرفون به حلول ديونهم . فيقال : إنهم أراد بعضهم أن يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم ، كلما هلك ملك أرخوا من تاريخ ولاية الذي بعده ، فكرهوا ذلك . ومنهم من قال : أرخوا [ ص: 32 ] بتاريخ الروم من زمان إسكندر . فكرهوا ذلك ، ولطوله أيضا . وقال قائلون : أرخوا من مولد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . وقال آخرون : من مبعثه ، صلى الله عليه وسلم . وأشار علي بن أبي طالب وآخرون أن يؤرخ من هجرته من مكة إلى المدينة ; لظهوره لكل أحد فإنه أظهر من المولد والمبعث . فاستحسن ذلك عمر والصحابة ، فأمر عمر أن يؤرخ من هجرة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . وأرخوا من أول تلك السنة من محرمها . وعند مالك ، رحمه الله ، فيما حكاه عنه السهيلي وغيره أن أول السنة من ربيع الأول لقدومه ، صلى الله عليه وسلم ، إلى المدينة فيه . والجمهور على أن أول السنة من المحرم ; لأنه أضبط ، لئلا تختلف الشهور ، فإن المحرم أول السنة الهلالية العربية . وفي هذه السنة - أعني سنة ست عشرة - توفيت مارية أم إبراهيم ابن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وذلك في المحرم منها ، فيما ذكره الواقدي وغير واحد ، وصلى عليها وابن جرير عمر بن الخطاب ، وكان يجمع الناس لشهود جنازتها ، ودفنت بالبقيع ، رضي الله عنها وأرضاها . وهي مارية القبطية ، أهداها صاحب إسكندرية - وهو جريج بن مينا - في جملة تحف وهدايا لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فقبل ذلك منه ، وكان معها أختها سيرين التي وهبها رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فولدت له ابنه لحسان بن ثابت ، عبد الرحمن بن حسان . ويقال : أهدى المقوقس معهما جاريتين أخريين . فيحتمل أنهما كانتا خادمتين لمارية وسيرين . وأهدى [ ص: 33 ] معهن غلاما خصيا اسمه مأبور ، وأهدى مع ذلك بغلة شهباء اسمها الدلدل ، وأهدى حلة حرير من عمل الإسكندرية . وكان قدوم هذه الهدية في سنة ثمان . فحملت مارية من رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بإبراهيم ، عليه السلام ، فعاش عشرين شهرا ، ومات قبل أبيه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بسنة سواء ، وقد حزن عليه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وبكى عليه وقال : إبراهيم لمحزونون . وقد تقدم ذلك في سنة عشر . وكانت تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بك يا مارية هذه من الصالحات الخيرات الحسان ، وقد حظيت عند رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وأعجب بها ، وكانت جميلة ملاحة ، أي حلوة وهي تشابه هاجر سرية الخليل ، فإن كلا منهما من ديار مصر وتسراها نبي كريم ، وخليل جليل ، عليهما السلام .