ذكر مسير أمير المؤمنين علي ،  رضي الله عنه ، إلى الخوارج  
 لما عزم علي  ومن معه من الجيش على البداءة بالخوارج ،  نادى مناديه في الناس بالرحيل ، فعبر الجسر فصلى ركعتين عنده ، ثم سلك على دير عبد الرحمن ،   ثم دير أبي موسى ،   ثم على شاطئ الفرات ،  فلقيه هنالك منجم ، فأشار عليه بوقت من النهار يسير فيه ولا يسير في غيره ، فإنه إن سار في غيره يخشى عليه ، فخالفه علي ،  وسار على خلاف ما قال المنجم ، وقال : نسير ثقة بالله ، وتوكلا عليه ، وتكذيبا لقول المنجم . فأظفره الله ، عز وجل ، وقال علي    : إنما أردت أن أبين للناس خطأه وخشيت أن يقول الناس : إنما ظفر لكونه   [ ص: 586 ] وافقه فيما أشار به ، فيشركوا بالله غيره . 
وسلك علي  ناحية الأنبار ،  وبعث بين يديه قيس بن سعد ،  وأمره أن يأتي المدائن ،  وأن يلقاه بنائبها سعد بن مسعود    - وهو أخو عبد الله بن مسعود الثقفي    - في جيش المدائن ،  فاجتمع الناس هنالك على علي ،  وبعث إلى الخوارج  أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم لنقتلهم بهم ، ثم إنا تاركوكم وذاهبون عنكم إلى الشام ،  ثم لعل الله أن يقبل بقلوبكم ، ويردكم إلى خير مما أنتم عليه ، فبعثوا إليه يقولون : كلنا قتل إخوانكم ، ونحن مستحلون دماءهم ودماءكم . فتقدم إليهم  قيس بن سعد بن عبادة ،  فوعظهم فيما هم مرتكبوه من الأمر العظيم ، والخطب الجسيم فلم ينفع ذلك فيهم ، وكذلك فعل  أبو أيوب الأنصاري ;  أنبهم ووبخهم ، فلم ينجع فيهم ، وتقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب  إليهم ، فوعظهم وخوفهم وحذرهم وأنذرهم وتهددهم وتوعدهم ، وقال : إنكم أنكرتم علي أمرا أنتم دعوتموني إليه وأبيتم إلا إياه ، فنهيتكم عنه فلم تقبلوا ، وها أنا وأنتم فارجعوا إلى ما خرجتم منه ، ولا تركبوا محارم الله فإنكم قد سولت لكم أنفسكم أمرا تقتلون عليه المسلمين ، والله لو قتلتم عليه دجاجة لكان عظيما عند الله ، فكيف بدماء المسلمين ؟ ! 
 [ ص: 587 ] فلم يكن لهم جواب إلا أن تبادروا فيما بينهم أن لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيئوا للقاء الرب ، عز وجل ، الرواح الرواح إلى الجنة ! وتقدموا فاصطفوا للقتال ، وتأهبوا للنزال ، فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي السنبسي ،  وعلى الميسرة شريح بن أوفى ،  وعلى خيالتهم حمزة بن سنان ،  وعلى الرجالة حرقوص بن زهير السعدي ،  ووقفوا مقاتلين لعلي  وأصحابه . 
وجعل علي  على ميمنته حجر بن عدي  وعلى الميسرة شبث بن ربعي  أو معقل بن قيس الرياحي ،  وعلى خيالته أبا أيوب الأنصاري ،  وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري ،  وعلى أهل المدينة    - وكانوا سبعمائة -  قيس بن سعد بن عبادة ،  وأمر علي  أبا أيوب الأنصاري  أن يرفع راية أمان للخوارج ،  ويقول لهم : من جاء إلى هذه الراية فهو آمن ، ومن انصرف إلى الكوفة  والمدائن  فهو آمن ، إنه لا حاجة لنا في دمائكم ، إلا في من قتل إخواننا . 
فانصرف منهم طوائف كثيرون ، وكانوا في أربعة آلاف فلم يبق منهم إلا ألف - أو أقل - مع عبد الله بن وهب الراسبي ،  فزحفوا إلى علي  فقدم علي  بين يديه الخيل ، وقدم منهم الرماة ، وصف الرجالة وراء الخيالة ، وقال لأصحابه : كفوا عنهم حتى يبدأوكم . وأقبلت الخوارج  وهم يقولون : لا حكم إلا لله ، الرواح الرواح إلى الجنة ! فحملوا على الخيالة الذين قدمهم علي ،  ففرقوهم حتى   [ ص: 588 ] أخذت طائفة من الخيالة إلى الميمنة ، وأخرى إلى الميسرة ، فاستقبلتهم الرماة بالنبل ، فرموا وجوههم ، وعطفت عليهم الخيالة من الميمنة والميسرة ، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف ، فأناموا الخوارج ،  فصاروا صرعى تحت سنابك الخيول ، وقتل أمراؤهم ;  عبد الله بن وهب ،  وحرقوص بن زهير ،  وشريح بن أوفى ،  وعبد الله بن شجرة السلمي ،  قبحهم الله . 
قال أبو أيوب    : وطعنت رجلا من الخوارج  بالرمح ، فأنفذته من ظهره ، وقلت له : أبشر يا عدو الله بالنار ، فقال : ستعلم أينا أولى بها صليا . 
قالوا : ولم يقتل من أصحاب علي  إلا سبعة نفر . 
وجعل علي  يمشي بين القتلى منهم ويقول : بؤسا لكم ، لقد ضركم من غركم . فقالوا : يا أمير المؤمنين ومن غرهم ؟ قال : الشيطان ، وأنفس بالسوء أمارة ، غرتهم بالأماني ، وزينت لهم المعاصي ، ونبأتهم أنهم ظاهرون . ثم أمر بالجرحى من بينهم فإذا هم أربعمائة ، فسلمهم إلى قبائلهم ليداووهم ، وقسم ما وجد من سلاح ومتاع لهم . 
وقال الهيثم بن عدي  في كتاب " الخوارج    " : حدثنا محمد بن قيس الأسدي  ومنصور بن دينار ،  عن عبد الملك بن ميسرة ،  عن النزال بن سبرة ،  أن عليا  لم يخمس ما أصاب من الخوارج  يوم النهروان ،  ولكن رده إلى   [ ص: 589 ] أهليهم كله ، حتى كان آخر ذلك مرجل أتي به فرده . 
وقال أبو مخنف    : حدثني عبد الملك بن أبي حرة ،  أن عليا  خرج في طلب ذى الثدية ،  ومعه سليمان بن ثمامة الحنفي أبو جبرة ،  والريان بن صبرة بن هوذة ،  فوجده الريان  في حفرة على جانب النهر في أربعين أو خمسين قتيلا ، قال : فلما استخرج له نظر إلى عضده ، فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة ، له حلمة كحلمة الثدي ، عليها شعرات سود ، فإذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الأخرى ، ثم تترك فتعود إلى منكبه كثدي المرأة . فلما رآه قال علي    : أما والله لولا أن تتكلوا على غير العمل لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه ، صلى الله عليه وسلم ، لمن قاتلهم مستبصرا في قتالهم عارفا للحق . 
 [ ص: 590 ] وقال الهيثم بن عدي  في كتابه في الخوارج    : وحدثني محمد بن ربيعة الأحمسي ،  عن نافع بن مسلمة الأحمسي ،  قال : كان ذو الثدية  رجلا من عرينة  من بجيلة ،  وكان أسود شديد السواد ، له ريح منتنة معروف في العسكر ، يرافقنا على ذلك وينازلنا وننازله . 
وحدثني أبو إسماعيل الحنفي ،  عن الريان بن صبرة الحنفي  قال : شهدنا النهروان  مع علي ،  فلما وجد المخدج سجد سجدة طويلة شكرا لله . 
وحدثني  سفيان الثوري ،  عن محمد بن قيس الهمداني ،  عن رجل من قومه يكنى أبا موسى ،  أن عليا  لما وجد المخدج سجد . 
وحدثني يونس بن أبي إسحاق ،  حدثني إسماعيل بن سعيد بن عروة ،  عن حبة العرني  قال : لما قتل علي  أهل النهروان ،  جعل الناس يقولون : الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي قطع دابرهم . فقال علي    : كلا والله إنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فإذا خرجوا من بين الشرايين فقلما يقاتلون أحدا إلا   [ ص: 591 ] ألفوا أن يظهروا عليه . قال : وكان عبد الله بن وهب الراسبي  قد قحلت مواضع السجود منه من شدة اجتهاده وكثرة سجوده ، وكان يقال له : ذو المنقبات . 
وروى الهيثم  عن بعض الخوارج  أنه قال : ما كان  عبد الله بن وهب  من بغضته لعلي  يسميه إلا الجاحد . 
وقال الهيثم بن عدي    : ثنا إسماعيل بن أبي خالد ،  عن حكيم بن جابر  قال : سئل علي  عن أهل النهروان  أمشركون هم ؟ فقال : من الشرك فروا . قيل : أفمنافقون هم ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا . فقيل : فما هم يا أمير المؤمنين ؟ قال : إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا . هذا ما أورده ابن جرير ،  وغيره في هذا المقام . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					