ذكر مروان بن الحكم بيعة
وكان سبب ذلك أن حصين بن نمير لما رجع من أرض الحجاز ، وارتحل عبيد الله بن زياد من البصرة إلى الشام ، وانتقلت بنو أمية من المدينة إلى الشام ، اجتمعوا إلى بعد موت مروان بن الحكم ، وقد كان عزم على أن يبايع معاوية بن يزيد بن معاوية لابن الزبير بدمشق ، وقد بايع أهلها الضحاك بن قيس على أن يصلح بينهم ويقيم لهم أمرهم حتى تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والضحاك يريد أن يبايع لابن الزبير ، وقد بايع لابن الزبير النعمان بن بشير بحمص ، وبايع له زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين ، وبايع له ناتل بن قيس بفلسطين ، وأخرج منها روح بن زنباع الجذامي ، فلم يزل عبيد الله بن زياد و الحصين بن نمير بمروان بن الحكم ، حتى ثنوه عن رأيه ، وحذروه من دخول سلطان ابن الزبير وملكه إلى [ ص: 669 ] الشام وقالوا له : أنت شيخ قريش وسيدها ، فأنت أحق بهذا الأمر . والتف عليه هؤلاء كلهم مع قومه بني أمية ومع أهل اليمن ، فوافقهم ، وجعل يقول : ما فات شيء . وكتب إلى حسان بن مالك بن بحدل الكلبي الضحاك بن قيس يثنيه عن المبايعة لابن الزبير ، ويعرفه أيادي بني أمية عنده وإحسانهم إليه ، ويذكر فضلهم وشرفهم ، وقد بايع حسان بن مالك أهل الأردن لبني أمية ، وهو يدعو إلى ابن أخته خالد بن يزيد بن معاوية ، وبعث إلى الضحاك بذلك ، وأمره أن يقرأ كتابه على أهل دمشق يوم الجمعة على المنبر ، وبعث بالكتاب مع رجل يقال له : ناغضة بن كريب الطابخي . وقيل : هو من بني كلب . وقال له : إن لم يقرأه هو على الناس فاقرأه أنت . وأعطاه نسخة به ، فسار إلى الضحاك ، فأمره بقراءة الكتاب ، فلم يقبل ، فقام ناغضة فقرأه على الناس ، فصدقه جماعة من أمراء الناس ، وكذبه آخرون ، وثارت فتنة عظيمة بين الناس ، فقام خالد بن يزيد بن معاوية - وهو شاب حدث - على درجتين من المنبر ، فسكن الناس ، ونزل الضحاك فصلى بالناس الجمعة ، وأمر الضحاك بن قيس بأولئك الذين صدقوا ناغضة أن يسجنوا ، فثارت قبائلهم ، فأخرجوهم من السجن ، واضطرب أهل دمشق في ابن الزبير وبني أمية ، وكان اجتماع الناس ووقوفهم بعد صلاة الجمعة بباب الجيرون ، فسمي هذا اليوم يوم جيرون .
قال المدائني : وقد أراد الناس على أن يتولى [ ص: 670 ] عليهم فأبى ، وهلك في تلك الليالي ، ثم إن الوليد بن عتبة بن أبي سفيان الضحاك بن قيس صعد منبر المسجد الجامع ، فخطبهم به ، ونال من يزيد بن معاوية ، فقام إليه شاب من بني كلب ، فضربه بعصا كانت معه والناس جلوس متقلدي سيوفهم ، فقام بعضهم إلى بعض ، فاقتتلوا في المسجد قتالا شديدا ; فقيس ومن لف لفيفها يدعون إلى ابن الزبير وينصرون الضحاك بن قيس ، وبنو كلب يدعون إلى بني أمية وإلى البيعة ، ويتعصبون لخالد بن يزيد بن معاوية ليزيد وأهل بيته ، فنهض الضحاك بن قيس ، فدخل دار الإمارة وأغلق الباب ، ولم يخرج إلى الناس من يوم السبت لصلاة الفجر ، ثم أرسل إلى بني أمية ، فجمعهم إليه فدخلوا عليه ، وفيهم ، مروان بن الحكم وعمرو بن سعيد بن العاص ، وخالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية .
قال المدائني : فاعتذر إليهم مما كان منه ، واتفق معهم أن يركب معهم إلى ، فيتفقوا على رجل يرتضونه من حسان بن مالك الكلبي بني أمية للإمارة ، فركبوا جميعا إليه ، فبينما هم يسيرون إلى الجابية لقصد حسان ، إذ جاء ثور بن معن بن الأخنس في قومه قيس ، فقال له : إنك دعوتنا إلى بيعة ابن الزبير فأجبناك ، وأنت ذاهب إلى هذا الأعرابي ليستخلف ابن أخته خالد بن يزيد بن معاوية ، فقال له الضحاك : فما الرأي ؟ قال : الرأي أن نظهر ما كنا نسر ، وأن ندعو إلى طاعة ابن الزبير ونقاتل عليها . فمال الضحاك بمن معه ، فرجع إلى دمشق فأقام بها بمن معه من الجيش من قيس ومن لف لفيفها ، وبعث إلى أمراء الأجناد ، وبايع الناس لابن الزبير ، وكتب بذلك إلى ابن الزبير يعلمه بذلك ، [ ص: 671 ] فذكره ابن الزبير لأهل مكة وشكره على صنيعه ، وكتب إليه بنيابة الشام ، وقيل : بل بايع الناس لنفسه بالخلافة . فالله أعلم أي ذلك كان .
والذي ذكره المدائني أنه إنما دعا إلى بيعة ابن الزبير أولا ، ثم حسن له عبيد الله بن زياد أن يدعو إلى نفسه ، وذلك مكر منه به ، فدعا الضحاك إلى نفسه ثلاثة أيام ، فنقم الناس عليه ذلك ، وقالوا : دعوتنا إلى البيعة لرجل فبايعناه ، ثم خلعته من غير سبب ولا عذر ، ودعوت إلى نفسك ! فرجع إلى البيعة لابن الزبير ، فسقط بذلك عند الناس ، وذلك الذي أراد عبيد الله بن زياد .
وكان اجتماع عبيد الله بن زياد به بعد اجتماعه بمروان وتحسينه له أن يدعو إلى نفسه ، ثم فارقه ليخدع له الضحاك ، فنزل عنده بدمشق ، وجعل يركب إليه في كل يوم ، ثم أشار ابن زياد على الضحاك أن يخرج من دمشق إلى الصحراء ويدعو بالجيوش إليه ليكون أمكن له ، فركب الضحاك إلى مرج راهط ، فنزل بمن معه من الجنود ، وعند ذلك اجتمعت بنو أمية ومن تبعها بالأردن ، واجتمع إليهم من هنالك من قوم حسان بن مالك من بني كلب .
ولما رأى ما انتظم من البيعة مروان بن الحكم لابن الزبير ، وما استوسق له من الملك ، عزم على الرحيل إليه ليبايعه وليأخذ منه أمانا لبني أمية ، فسار حتى بلغ أذرعات فلقيه عبيد الله بن زياد مقبلا من العراق ، فصده عن ذلك ، وهجن رأيه ، واجتمع إليه عمرو بن سعيد بن العاص ، وحصين بن نمير ، وابن زياد ، وأهل اليمن وخلق ، فقالوا لمروان : أنت كبير قريش ورئيسها ، وخالد بن يزيد غلام ، كهل ، وإنما يقرع الحديد بعضه ببعض ، فلا تباره بهذا الغلام ، وارم بنحرك في نحره ، ونحن نبايعك ، ابسط يدك . فبسط يده ، فبايعوه [ ص: 672 ] وعبد الله بن الزبير بالجابية في يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي القعدة ، سنة أربع وستين . قاله الواقدي .
فلما تمهد له الأمر سار بمن معه نحو الضحاك بن قيس ، فالتقيا بمرج راهط ، فغلبه ، وقتله وقتل من قيس مقتلة لم يسمع بمثلها ، على ما سيأتي تفصيله في أول سنة خمس وستين . فإن مروان بن الحكم الواقدي وغيره قالوا : إنما كانت هذه الوقعة في المحرم من أول سنة خمس وستين .
وفي رواية محمد بن سعد ، عن الواقدي وغيره قالوا : إنما كانت في أواخر هذه السنة .
وقال الليث بن سعد ، ، والواقدي والمدائني ، وأبو سليمان بن زبر ، وأبو عبيدة وغير واحد : كانت وقعة مرج راهط للنصف من ذي الحجة سنة أربع وستين . والله سبحانه وتعالى أعلم .