كان عبد الله بن الزبير قد عزل في هذه السنة عن نيابة البصرة المعروف الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي بالقباع ، وولاها لأخيه مصعب بن الزبير ; ليكون ردءا وقرنا وكفؤا للمختار ، فلما قدم مصعب البصرة دخلها متلثما فيمم المنبر ، فلما صعده قال الناس : أمير أمير . فلما كشف اللثام عرفه الناس فأقبلوا إليه ، وجاء القباع فجلس تحته بدرجة ، فلما اجتمع الناس قام مصعب خطيبا ، فاستفتح ( القصص ) حتى بلغ إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا وأشار بيده نحو الشام أو الكوفة ، ثم قال : [ ص: 59 ] ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض وأشار إلى الحجاز ، وقال : يا أهل البصرة ، إنكم تلقبون أمراءكم ، وقد سميت نفسي الجزار . فاجتمع عليه الناس وفرحوا به . ولما انهزم أهل الكوفة حين خرجوا على المختار فقهرهم وقتل منهم من قتل ، كان لا ينهزم أحد من أهلها إلا قصد البصرة ، ثم لما خرج المختار لتلقي ابن الأشتر حين بلغه أنه قتل ابن زياد ، اغتنم من بقي بالكوفة من أعداء المختار غيبته ، فذهبوا إلى البصرة فرارا من المختار ; لقلة دينه وكفره ودعواه أنه يأتيه الوحي ، وأنه قدم الموالي على الأشراف . واتفق أن ابن الأشتر حين قتل ابن زياد اشتغل بتلك النواحي ، فأحرز بلادا وأقاليم ورساتيق لنفسه ، واستهان بالمختار ، فطمع مصعب فيه وبعث محمد بن الأشعث بن قيس على البريد إلى ، وهو نائبهم على المهلب بن أبي صفرة خراسان ، فقدم في تجمل عظيم ومال ورجال وعدد وعدد وجيش كثيف ، ففرح به أهل البصرة وتقوى به مصعب ، فركب في أهل البصرة ومن اتبعهم من أهل الكوفة فركبوا في البحر والبر قاصدين الكوفة .
وقدم مصعب بين يديه عباد بن الحصين ، وجعل على ميمنته ، وعلى الميسرة عمر بن عبيد الله بن معمر ، ورتب الأمراء [ ص: 60 ] على راياتها وقبائلها المهلب بن أبي صفرة كمالك بن مسمع ، و ، و الأحنف بن قيس زياد بن عمر ، و قيس بن الهيثم وغيرهم . وخرج المختار بعسكره فنزل المذار ، وقد جعل على مقدمته أبا كامل الشاكري ، وعلى ميمنته عبد الله بن كامل ، وعلى ميسرته عبد الله بن وهب الجشمي ، وعلى الخيل وزير بن عبد الله السلولي ، وعلى الموالي أبا عمرة صاحب شرطته . ثم خطب الناس وحثهم على الخروج ، وبعث بين يديه الجيوش ، وركب هو وخلق من أصحابه وهو يبشرهم بالنصر . فلما انتهى مصعب إلى قريب الكوفة لقيتهم الكتائب المختارية ، فحملت عليهم الفرسان الزبيرية ، فما لبثت المختارية إلا يسيرا حتى هربوا على حمية ، وقد قتل منهم جماعة من الأمراء ، وخلق من القراء ، وطائفة كثيرة من الشيعة الأغبياء ، ثم انتهت الهزيمة إلى المختار .
وقال الواقدي : لما انتهت مقدمة المختار إليه ، جاء مصعب فقطع الدجلة إلى الكوفة وقد حصن المختار القصر واستعمل عليه ، وخرج عبد الله بن شداد المختار بمن بقي معه فنزل حروراء ، فلما قرب جيش مصعب منه جهز إلى كل قبيلة كردوسا ، فبعث إلى بكر بن وائل سعيد بن منقذ ، وإلى عبد القيس مالك [ ص: 61 ] بن المنذر ، وإلى العالية عبد الله بن جعدة ، وإلى الأزد مسافر بن سعيد ، وإلى بني تميم سليم بن يزيد الكندي ، وإلى محمد بن الأشعث السائب بن مالك ، ووقف المختار في بقية أصحابه فاقتتلوا قتالا شديدا إلى الليل ; فقتل أعيان أصحاب المختار وقتل تلك الليلة محمد بن الأشعث ، و عبيد الله بن علي بن أبي طالب .
وتفرق عن المختار باقي أصحابه فقيل له : القصر القصر . فقال : والله ما خرجت منه وأنا أريد أن أعود إليه ، ولكن هذا حكم الله . ثم سار إلى القصر فدخله ، وجاءه مصعب ففرق القبائل في نواحي الكوفة ، واقتسموا المحال ، وخلصوا إلى القصر ، وقد منعوا المختار المادة والماء ، وكان المختار يخرج فيقاتلهم ثم يعود إلى القصر . ولما اشتد عليه الحصار قال لأصحابه : إن الحصار لا يزيدنا إلا ضعفا ، فانزلوا بنا حتى نقاتل حتى الليل حتى نموت كراما . فوهنوا ، فقال : أما أنا فوالله لا أعطي بيدي . ثم اغتسل وتطيب وتحنط وخرج ، فقاتل هو ومن معه حتى قتلوا .
وقيل : بل أشار عليه جماعة من أساورته بأن يدخل القصر دار إمارته فدخله وهو ملوم مذموم ، وعن قريب ينفذ فيه القدر المحتوم ، فحاصره مصعب فيه وجميع أصحابه ، حتى أصابهم من جهد العطش ما الله به عليم ، [ ص: 62 ] وضيق عليهم المسالك والمقاصد وانسدت عليهم أبواب الحيل ، وليس فيهم رجل رشيد ولا حليم ، ثم جعل المختار يجيل فكرته ويكرر رويته في الأمر الذي قد حل به ، واستشار من عنده من الموالي والعبيد ولسان القدر والشرع يناديه قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ثم قوى عزمه قوة الشجاعة المركبة فيه على أن أخرجته من بين أظهر من كان يحالفه ويواليه ، ورأى أن يموت على فرسه ، حتى يكون عليها انقضاء آخر نفسه ، فنزل حمية وغضبا ، وشجاعة وكلبا ، وهو مع ذلك لا يجد مناصا ولا مفرا ولا مهربا ، وليس معه من أصحابه سوى تسعة عشر . ولعله إن كان قد استمر على ما عاش عليه أن لا يفارقه التسعة عشر الموكلون بسقر . ولما خرج من القصر قال لأصحاب مصعب : أتؤمنوني ؟ قالوا : لا ، إلا على حكم الأمير . فقال : إلا حكم نفسي أبدا . ثم قاتل قتالا شديدا ، وتقدم إليه رجلان شقيقان أخوان ، وهما طرفة ، و طراف ابنا عبد الله بن دجاجة من بني حنيفة ، فقتلاه بمكان الزياتين من الكوفة واحتزا رأسه وأتيا به إلى مصعب بن الزبير ، وقد دخل قصر الإمارة ، فوضع بين يديه كما وضع رأس ابن زياد بين يدي المختار ، وكما وضع [ ص: 63 ] رأس الحسين بين يدي ابن زياد - وكما سيوضع رأس مصعب بين يدي - فلما وضع رأس عبد الملك بن مروان المختار بين يدي مصعب أمر لهما بثلاثين ألفا .
وقد قتل مصعب جماعة من المختارية وأسر منهم خمسمائة أسير ، فضربت أعناقهم عن آخرهم في يوم واحد ، وقد قتل من أصحاب مصعب في الوقعة محمد بن الأشعث بن قيس .
وأمر مصعب بكف المختار فقطعت وسمرت إلى جانب المسجد فلم يزل هنالك حتى قدم الحجاج ، فسأل عنها فقيل له : هي كف المختار ، فأمر بها فرفعت وانتزعت من هنالك ; لأن المختار كان من قبيلة الحجاج - فالمختار هو الكذاب والمبير الحجاج - ولهذا أخذ الحجاج بثأره من ابن الزبير فقتله وصلبه شهورا .
وقد سأل مصعب أم ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار عنه فقالت : ما عسى أن أقول فيه إلا ما تقولون أنتم فيه ؟ فتركها واستدعى بزوجته الأخرى ، وهي عمرة بنت النعمان بن بشير فقال لها ما تقولين فيه ؟ فقالت : رحمه الله ، لقد كان عبدا من عباد الله الصالحين . فسجنها وكتب إلى أخيه : إنها تقول إنه نبي . فكتب إليه أن أخرجها فاقتلها . فأخرجها إلى ظاهر البلد فضربت ضربات حتى ماتت ، فقال في ذلك عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
[ ص: 64 ]
إن من أعجب العجائب عندي قتل بيضاء حرة عطبول قتلت هكذا على غير جرم
إن لله درها من قتيل كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول
وقال أبو مخنف : حدثني محمد بن يوسف أن مصعبا لقي فسلم عليه ، فقال عبد الله بن عمر بن الخطاب ابن عمر من أنت ؟ فقال : أنا ابن أخيك مصعب بن الزبير . فقال له ابن عمر : نعم ، أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة ؟ عش ما استطعت ! فقال مصعب : إنهم كانوا كفرة سحرة . فقال ابن عمر : والله لو قتلت عدتهم غنما من تراث أبيك لكان ذلك سرفا .
وهذه المختار بن أبي عبيد الكذاب ترجمة
هو ، أسلم أبوه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم يره ، فلهذا لم يذكره أكثر الناس في الصحابة ، وإنما ذكره المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف الثقفي في الغابة ، [ ص: 65 ] وقد كان ابن الأثير عمر بعثه في جيش كثيف في قتال الفرس سنة ثلاث عشرة ، فقتل يومئذ شهيدا ، وقتل معه نحو من أربعة آلاف من المسلمين - كما قدمنا - وعرف ذلك الجسر به ، وهو جسر على دجلة ، فيقال له إلى اليوم جسر أبي عبيد ، وكان له من الولد صفية بنت أبي عبيد ، وكانت من الصالحات العابدات ، وهي زوجة ، وكان عبد الله بن عمر بن الخطاب عبد الله لها مكرما ومحبا وماتت في حياته . وأما أخوها المختار هذا فإنه كان أولا ناصبيا يبغض عليا بغضا شديدا ، وكان عند عمه بالمدائن ، وكان عمه نائبها ، فلما دخلها الحسن بن علي يوم خذله أهل العراق وهو سائر إلى الشام لقتال معاوية بعد مقتل أبيه علي ، فلما أحس الحسن منهم بالغدر ، فر منهم إلى المدائن في جيش قليل ، فقال المختار لعمه : لو أخذت الحسن فبعثته إلى معاوية لاتخذت عنده بذلك اليد البيضاء أبدا . فقال له عمه : بئس ما تأمرني به يابن أخي .
فما زالت الشيعة تبغضه حتى كان من أمر مسلم بن عقيل بالكوفة ما كان ، وكان المختار من الأمراء بالكوفة ، فجعل يقول : أما لأنصرنه ، فبلغ ابن زياد ذلك فحبسه بعدما ضربه مائة جلدة ، فأرسل ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يشفع فيه ، فأرسل يزيد إلى ابن زياد فأطلقه وسيره إلى [ ص: 66 ] الحجاز في عباءة ، فضوى إلى ابن الزبير بمكة ، فقاتل معه حين حصره أهل الشام قتالا شديدا ، ثم بلغ المختار ما أهل العراق فيه من التخبيط ، فسار إليهم وترك ابن الزبير ، ويقال : إنه سأل ابن الزبير أن يكتب له كتابا إلى ابن مطيع نائب الكوفة ففعل ، فسار إليها .
وكان يظهر مدح ابن الزبير في العلانية ويسبه في السر ، ويمدح ويدعو إليه ، وما زال حتى استحوذ على محمد ابن الحنفية الكوفة بطريق التشيع وإظهار الأخذ بثأر الحسين ، وبسبب ذلك التفت عليه جماعات كثيرة من الشيعة حتى قاوم نواب ابن الزبير على الكوفة ، وأخرج عامل ابن الزبير منها ، واستقر ملك المختار بها ، ثم كتب إلى ابن الزبير يعتذر إليه ويخبره أن ابن مطيع كان مداهنا لبني أمية ، وقد خرج من الكوفة ، وأنا ومن بها في طاعتك ، فصدقه ابن الزبير ; لأنه كان يدعو له على المنبر يوم الجمعة على رءوس الناس ، ويظهر طاعته .
ثم شرع في تتبع قتلة الحسين ومن شهد الوقعة بكربلاء من ناحية ابن زياد ، فقتل منهم خلقا كثيرا ، وظفر برءوس كبار منهم كعمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الجيش الذين قتلوا الحسين ، و شمر بن ذي الجوشن أمير الألف الذين ولوا قتل الحسين ، و سنان بن أبي أنس ، و خولي بن يزيد الأصبحي ، وخلقا غير هؤلاء ، وما زال حتى بعث سيف نقمته النخعي في عشرين ألفا [ ص: 67 ] إلى إبراهيم بن الأشتر ابن زياد ، وهو في جيش أعظم من جيش المختار بأضعاف ، كانوا ستين ألفا ، وقيل : ثمانين ألفا ، فقتل ابن الأشتر بن زياد وكسر جيشه ، واحتاز ما في معسكره ، - واتفق ذلك في يوم عاشوراء سنة سبع وستين - ، ثم بعث برأس ابن زياد ورءوس أصحابه مع البشارة إلى المختار ، ففرح بذلك فرحا شديدا . ثم إن المختار بعث برأس عبيد الله بن زياد ورأس حصين بن نمير ومن معهما إلى عبد الله بن الزبير بمكة فأمر ابن الزبير بها فنصبت على عقبة الحجون ، وقد كانوا نصبوها بالمدينة .
وطابت نفس المختار بالملك وظن أنه لم يبق له عدو ولا منازع ، ثم إن ابن الزبير تبين خداعه ومكره وسوء مذهبه ، فبعث أخاه مصعبا أميرا على العراق ، فسار إلى البصرة فاجتمع إليه أهلها ، ووفد إليه جماعات من الكوفة فلم يتم سرور المختار حتى سار إليه مصعب بن الزبير من البصرة في جيش هائل فحاصره بالكوفة ، وضيق عليه ، وما زال حتى أمكن الله منه ، فقتله واحتز رأسه ، وأمر بصلب كفه على باب المسجد ، وبعثمصعب برأس المختار مع رجل من الشرط على البريد إلى أخيه عبد الله بن الزبير ، فوصل مكة بعد العشاء فوجد عبد الله يتنفل ، فما زال يصلي حتى أسحر ، ولم يلتفت إلى البريد الذي جاء بالرأس ، فلما كان قريب الفجر قال : ما جاء بك ؟ فألقى إليه الكتاب فقرأه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، معي الرأس . فقال : ألقه على باب [ ص: 68 ] المسجد . فألقاه ثم جاء فقال : جائزتي يا أمير المؤمنين . فقال : جائزتك الرأس الذي جئت به تأخذه معك إلىالعراق .
ثم زالت دولة المختار كأن لم تكن ، وكذلك سائر الدول ، وفرح المسلمون بزوالها ، وذلك لأن الرجل لم يكن في نفسه صادقا ، بل كان كاذبا وكاهنا ، وكان يزعم أن الوحي ينزل عليه على يد جبريل يأتي إليه .
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير ، حدثنا عيسى القارئ أبو عمر بن عمر ، حدثنا السدي ، عن رفاعة القتباني قال : دخلت على المختار فألقى لي وسادة وقال : لولا أن أخي جبريل قام عن هذه لألقيتها لك . قال : فأردت أن أضرب عنقه . قال : فذكرت حديثا حدثنيه أخي عمرو بن الحمق ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما مؤمن أمن مؤمنا على دمه فقتله ، فأنا من القاتل بريء
وقال الإمام أحمد : حدثنا ، عن يحيى بن سعيد القطان حماد بن سلمة ، حدثني ، عن عبد الملك بن عمير رفاعة بن شداد ، قال : كنت أقوم على رأس المختار ، فلما عرفت كذبه هممت أن أسل سيفي فأضرب عنقه ، فذكرت حديثا حدثناه عمر بن الحمق قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أمن رجلا على نفسه فقتله أعطي لواء غدر يوم القيامة ورواه ، و النسائي ابن ماجه [ ص: 69 ] من غير وجه ، عن به . وفي لفظ لهما : عبد الملك بن عمير وفي سند هذا الحديث اختلاف . وقد قيل من أمن رجلا على دم فقتله ، فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا : إن لابن عمر المختار يزعم أن الوحي يأتيه . فقال : صدق ، قال الله تعالى : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم وروى ابن أبي حاتم ، عن عكرمة قال : قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني حتى كان يتعاهد مبيتي بالليل ، قال : فقال لي : اخرج فحدث الناس . قال : فخرجت فجاء رجل فقال : ما تقول في الوحي ؟ فقلت : الوحي وحيان ، قال الله تعالى : بما أوحينا إليك هذا القرآن . وقال تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا قال : فهموا بي أن يأخذوني ، فقلت : ما لكم وذاك ، إني مفتيكم وضيفكم ، فتركوني . وإنما أراد عكرمة أن يعرض بالمختار وكذبه في ادعائه أن الوحي ينزل عليه .
وروى ، من طريق الطبراني أنيسة بنت زيد بن أرقم ، أن أباها دخل [ ص: 70 ] على المختار بن أبي عبيد فقال له : يا أبا عامر لو سبقت رأيت جبريل وميكائيل . فقال له زيد : حقرت وتعست ، أنت أهون على الله من ذلك ، كذاب مفتر على الله ورسوله .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن يوسف ، ثنا ابن عوف ، عن أبي الصديق الناجي ، أن دخل على الحجاج بن يوسف ، بعدما قتل ابنها أسماء بنت أبي بكر الصديق عبد الله بن الزبير ، فقال : إن ابنك ألحد في هذا البيت ، وإن الله أذاقه من عذاب أليم ، وفعل به وفعل ، فقالت : كذبت ، كان برا بالوالدين ، صواما قواما ، والله لقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الأول وهو مبير . هكذا رواه أنه سيخرج من أحمد بهذا السند واللفظ .
وقد أخرجه مسلم في " صحيحه " في كتاب الفضائل ، عن ، عن عقبة بن مكرم العمي البصري يعقوب بن إسحاق الحضرمي ، عن الأسود بن شيبان ، عن أبي نوفل عن أبي عقرب - واسمه معاوية بن مسلم - عن [ ص: 71 ] أسماء بنت أبي بكر الصديق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن في ثقيف كذابا ومبيرا . وفي الحديث قصة طويلة في مقتل الحجاج ولدها عبد الله بن الزبير في سنة ثلاث وسبعين ، كما سيأتي . وقد ذكر هذا الحديث في دلائل النبوة . البيهقي
وذكر العلماء أن الكذاب هو المختار بن أبي عبيد ، وكان يظهر التشيع ويبطن الكهانة ، ويسر إلى أخصائه أنه يوحى إليه ، ولكن ما أدري هل كان يدعي النبوة أم لا ؟ وكان قد وضع له كرسي يعظم ، ويحف بالرجال ويستر بالحرير ، ويحمل على البغال ، وكان يضاهي به تابوت بني إسرائيل المذكور في القرآن ، ولا شك أنه كان ضالا مضلا ، أراح الله المسلمين منه بعدما انتقم به من قوم آخرين من الظالمين ، كما قال تعالى وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون . وأما المبير فهو القتال وهو ، نائب الحجاج بن يوسف الثقفي العراق ، الذي انتزع لعبد الملك بن مروان العراق من يد مصعب بن الزبير ، كما سيأتي بيانه قريبا .
وذكر الواقدي أن المختار لم يزل مظهرا موافقة ابن الزبير حتى قدم مصعب إلى البصرة في أول سنة سبع وستين ، وأظهر مخالفته ، فسار إليه مصعب فقاتله ، وكان المختار في نحو من عشرين ألفا ، وقد حمل عليه المختار مرة فهزمه ، ولكن لم يثبت جيش المختار حتى جعلوا ينصرفون إلى مصعب ويدعون المختار ، [ ص: 72 ] وينقمون عليه ما هو فيه من الكهانة والكذب . فلما رأى المختار ذلك انصرف إلى قصر الإمارة ، فحاصره مصعب فيه أربعة أشهر ، ثم قتله في رابع عشر رمضان سنة سبع وستين ، وله من العمر سبع وستون سنة فيما قيل .