ففيها غزا محمد بن مروان - أخو ، وهو والد عبد الملك بن مروان مروان الحمار - صائفة الروم حين خرجوا من عند مرعش ، وفيها ولى نيابة عبد الملك بن مروان المدينة ليحيى بن الحكم بن أبي العاص ، وهو عمه ، وعزل عنها الحجاج .
وفيها ولى عبد الملك الحجاج بن يوسف نيابة العراق ; البصرة والكوفة ، وما يتبع ذلك من الأقاليم الكبار ، وذلك بعد موت أخيه بشر بن مروان ، فرأى عبد الملك أنه لا يسد عنه أهل العراق غير الحجاج ; لسطوته وقهره وقسوته وشهامته ، فكتب إليه وهو بالمدينة بولاية العراق ، فسار من المدينة إلى العراق في اثني عشر راكبا على النجائب ، فنزل قريب الكوفة فاغتسل واختضب ، ولبس ثيابه ، وتقلد سيفه ، وألقى عذبة العمامة بين كتفيه ، ثم سار فنزل دار الإمارة ، وذلك يوم الجمعة ، وقد أذن المؤذن الأول ، فخرج عليهم وهم لا يعلمون ، فصعد المنبر وجلس عليه ، وأمسك عن الكلام طويلا ، وقد شخصوا إليه بأبصارهم ، وجثوا على الركب ، وتناولوا الحصى ليقذفوه بها ، وقد كانوا حصبوا الذي كان قبله ، فلما سكت أبهتهم ، وأحبوا أن يسمعوا كلامه ، فكان أول ما تكلم به أن قال : [ ص: 244 ] يا أهل العراق ، يا أهل الشقاق ، ويا أهل النفاق ومساوئ الأخلاق ، والله إن كان أمركم ليهمني قبل أن آتى إليكم ، ولقد كنت أدعو الله أن يبتليكم بي ، فأجاب دعوتي ، إلا أني سرت البارحة فسقط مني سوطي الذي أؤذيكم به ، فاتخذت هذا مكانه - وأشار إلى سيفه - ثم قال : والله لأجرنه فيكم جر المرأة ذيلها ، ولأفعلن بكم ولأصنعن ، فلما سمعوا كلامه جعل الحصى يتساقط من أيديهم ، وقيل : إنه دخل الكوفة في شهر رمضان من هذه السنة ظهرا ، فأتى المسجد ، وصعد المنبر وهو معتجر بعمامة حمراء ، متلثم بطرفها ، ثم قال : علي بالناس . فحسبه الناس وأصحابه من الخوارج ، فهموا به حتى إذا اجتمع الناس قام وكشف عن وجهه ، وقال :
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
ثم قال : أما والله إني لأحمل الشر بحمله ، وأحذوه بنعله ، [ ص: 245 ] وأجزيه بمثله ، وإني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها ، وإني لأنظر إلى الدماء تترقرق بين العمائم واللحى :قد شمرت عن ساقها فشمري
ثم أنشد أيضا :هذا أوان الشد فاشتدي زيم قد لفها الليل بسواق حطم
لست براعي إبل ولا غنم ولا بجزار على ظهر وضم
قد لفها الليل بعصلبي أروع خراج من الدوي
مهاجر ليس بأعرابي
ويقال : إنه لما صعد المنبر واجتمع الناس تحته أطال السكوت ، حتى إن محمد بن عمير أخذ كفا من حصى وأراد أن يحصبه بها ، وقال : قبحه الله ، ما أعياه وأذمه . فلما نهض الحجاج وتكلم بما تكلم به ، جعل الحصى يتناثر من يده وهو لا يشعر به ; لما يرى من فصاحته وبلاغته .
ويقال : إن الحجاج قال في خطبته هذه : شاهت الوجوه ، إن الله ضرب مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ( النحل : 112 ) ، وأنتم أولئك ، فاستوثقوا واستقيموا ، فوالله لأذيقنكم الهوان حتى تدروا ، ولأعصبنكم عصب السلمة حتى تنقادوا ، وأقسم بالله لتقبلن على الإنصاف ، ولتدعن الإرجاف وكان وكان ، وأخبرني فلان عن فلان ، والخبر وما الخبر ، أو لأهبرنكم بالسيف هبرا يدع النساء أيامى ، والأولاد يتامى ، حتى تمشوا السمهى ، وتقلعوا عن ها وها . في كلام طويل بليغ غريب ، يشتمل على وعيد شديد ، ليس فيه وعد بخير .
[ ص: 248 ] فلما كان في اليوم الثالث سمع تكبيرا في السوق ، فخرج حتى جلس على المنبر ، فقال : يا أهل العراق ، يا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق ، إني سمعت تكبيرا في الأسواق ، ليس بالتكبير الذي يراد به الترغيب ، ولكنه تكبير يراد به الترهيب ، وقد عصفت عجاجة تحتها قصف ، يا بني اللكيعة ، وعبيد العصا ، وأبناء الإماء والأيامى ، ألا يربع كل رجل منكم على ظلعه ، ويحسن حقن دمه ، ويبصر موضع قدمه ، وأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالا لما قبلها ، وأدبا لما بعدها . فقام إليه عمير بن ضابئ التميمي ثم الحنظلي ، قال : أصلح الله الأمير ، أنا في هذا البعث ، وأنا شيخ كبير وعليل ، وهذا ابني هو أشب مني . قال : ومن أنت ؟ قال : أنا عمير بن ضابئ التميمي . قال : أسمعت كلامنا بالأمس ؟ قال : نعم . قال : ألست الذي غزا عثمان بن عفان ؟ قال : بلى . قال : وما حملك على ذلك ؟ قال : كان حبس أبي وكان شيخا كبيرا . قال : أوليس هو الذي يقول :
هممت ولم أفعل وكدت وليتني فعلت ووليت البكاء حلائله
قال : فخرج الناس حتى ازدحموا على الجسر ، فعبر عليه في ساعة واحدة أربعة آلاف من مذحج ، وخرجت معهم العرفاء حتى وصلوا بهم إلى المهلب ، وأخذوا منه كتابا بوصولهم إليه ، فقال المهلب : قدم العراق والله رجل ذكر ، اليوم قوتل العدو .
ويروى أن الحجاج لم يعرف عمير بن ضابئ حتى قال له عنبسة بن سعيد : أيها الأمير ، إن هذا جاء إلى عثمان وقد قتل فلطم وجهه ، فأمر الحجاج عند ذلك بقتله .
وبعث الحجاج الحكم بن أيوب الثقفي نائبا على البصرة من جهته ، وأمره أن يشتد على ، وأقر على قضاء خالد بن عبد الله الكوفة شريحا ، ثم ركب الحجاج إلى البصرة واستخلف على الكوفة أبا يعفور ، وولى قضاء البصرة ، ثم عاد إلى لزرارة بن أوفى الكوفة .
وحج بالناس في هذه السنة ، وأقر عمه عبد الملك بن مروان يحيى على نيابة المدينة ، وعلى بلاد خراسان أمية بن عبد الله .
وفي هذه السنة وثب الناس بالبصرة على الحجاج ، وذلك أنه لما ركب من [ ص: 250 ] الكوفة ، بعد قتل عمير بن ضابئ ، وقام في أهل البصرة بخطبة نظير ما قام في أهل الكوفة من الوعيد الشديد والتهديد الأكيد ، ثم أتي برجل من بني يشكر ، فقيل : هذا عاص . فقال الرجل : إن بي فتقا ، وقد عذرني بشر بن مروان ، وهذا عطائي مردود على بيت المال . فلم يقبل منه وأمر بقتله فقتل ، ففزع أهل البصرة ، وخرجوا من البصرة حتى اجتمعوا عند قنطرة رامهرمز ، وعليهم ، وخرج إليهم عبد الله بن الجارود الحجاج - وذلك في شعبان من هذه السنة - في أمراء الجيش من المصرين ، فاقتتلوا هناك قتالا شديدا ، فهزمهم الحجاج ، وقتل أميرهم في رءوس من القبائل معه ، وأمر برءوسهم فنصبت عند الجسر من عبد الله بن الجارود رامهرمز ، ثم بعث بها إلى المهلب فقوي بذلك ، وضعف أمر الخوارج ، وأرسل الحجاج إلى المهلب ، و عبد الرحمن بن مخنف فأمرهما بمناهضة الأزارقة ، فنهضا بمن معهما إلى الخوارج الأزارقة فأجلوهم عن أماكنهم من رامهرمز بأيسر قتال ، فهربوا إلى أرض كازرون من إقليم سابور ، وسار الناس وراءهم ، فالتقوا في العشر الآخر من رمضان .
فلما كان الليل بيت الخوارج المهلب من الليل ، فوجدوه قد تحصن بخندق حول معسكره ، فجاءوا إلى عبد الرحمن بن مخنف فوجدوه غير محترز - وكان المهلب قد أمره بالاحتراز بخندق حوله فلم يفعل - فاقتتلوا في الليل ، فقتلت الخوارج عبد الرحمن بن مخنف وطائفة من جيشه ، وهزموهم هزيمة منكرة .
ويقال : إن الخوارج لما التقوا مع الناس في هذه الوقعة كان ذلك في يوم الأربعاء لعشر بقين [ ص: 251 ] من رمضان ، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله من الخوارج ، وحملت الخوارج على جيش المهلب ، فاضطروه إلى معسكره ، فجعل عبد الرحمن بن مخنف يمده بالخيل بعد الخيل ، والرجال بعد الرجال ، فمالت الخوارج إلى معسكر عبد الرحمن بن مخنف بعد العصر ، فاقتتلوا معه إلى الليل ، فقتل عبد الرحمن في أثناء الليل ، وقتل معه طائفة كثيرة من أصحابه الذين ثبتوا معه ، فلما كان الصباح جاء المهلب فصلى عليه ودفنه ، وكتب إلى الحجاج بمهلكه ، فكتب الحجاج إلى عبد الملك يعزيه فيه ، فنعاه عبد الملك إلى الناس بمنى ، وأمر الحجاج مكانه عتاب بن ورقاء ، وكتب إليه أن يطيع المهلب ، فكره ذلك ، ولم يجد بدا من طاعة الحجاج ، ولم يمكنه مخالفته ، فسار إلى المهلب فجعل لا يطيعه إلا ظاهرا ، ويعصيه كثيرا ، ثم تقاولا ، فهم المهلب أن يوقع بعتاب ، ثم حجز بينهما الناس ، فكتب عتاب إلى الحجاج يشكو المهلب ، فكتب إليه أن يقدم عليه ، وأعفاه من ذلك ، وجعل المهلب مكانه ابنه حبيب بن المهلب .
وفيها خرج داود بن النعمان المازني بنواحي البصرة ، فوجه إليه الحجاج أميرا على سرية فقتله .
قال ابن جرير : وفي هذه السنة تحرك صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس ، وكان يرى رأي الصفرية ، وقيل : إنه أول من خرج من الصفرية ، وكان سبب ذلك أنه حج بالناس في هذه السنة ، ومعه شبيب بن يزيد ، و البطين ، [ ص: 252 ] وأشباههم من رءوس الخوارج ، واتفق حج أمير المؤمنين عبد الملك ، فهم شبيب بالفتك به ، فبلغ عبد الملك ذلك من خبره ، فكتب إلى الحجاج بعد انصرافه من الحج أن يتطلبهم ، وكان صالح بن مسرح هذا يكثر الدخول إلى الكوفة والإقامة بها ، وكان له جماعة من أهل دارا وأهل الموصل يعلمهم القرآن ويفقههم ، ويقص عليهم ، وكان مصفرا كثير العبادة ، وكان إذا قص يحمد الله ويثني عليه ، ويصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يأمر بالزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة ، ويحث على ذكر الموت ، ثم يترحم على الشيخين أبي بكر ، و عمر ، ويثني عليهما ثناء حسنا ، ولكن بعد ذلك يذكر عثمان بن عفان رضي الله عنه فيسبه وينال منه ، وينكر عليه أشياء من جنس ما كان ينكر عليه الذين خرجوا عليه وقتلوه من فجرة أهل الأمصار ، ثم يحض أصحابه على الخروج مع الخوارج للأمر بالمعروف ولإنكار المنكر الذي قد شاع في الناس وذاع ، ويهون عليهم القتل ، ويذم الدنيا وأمرها ويصغرها ، فالتف عليه جماعة من الناس ، وكتب إليه يستبطئه في الخروج ، ويحثه عليه ، ويندبه إليه ، ثم قدم شبيب بن يزيد الخارجي شبيب على صالح وهو بدارا ، فتواعدوا وتوافقوا على الخروج في مستهل صفر من السنة الآتية - وهي سنة ست وسبعين - وقدم على صالح شبيب ، وأخوه مصاد ، والمحلل ، والفضل بن عامر ، فاجتمع عليه من الأبطال وهو بدارا نحو [ ص: 253 ] مائة وعشرة أنفس ، ثم وثبوا على خيل لمحمد بن مروان ، فأخذوها وتقووا بها ، ثم كان من أمرهم بعد ذلك ما سنذكره في التي بعدها ، إن شاء الله تعالى .