ثم الذي حاورهم به من الكلام وخاطبهم به هو من أفصح الكلام وأجله وأدله على معانيه بحيث يفقهه من كان بعيد الفهم ، فضلا عن الأذكياء العقلاء ، ولكن الله تعالى أراد خذلانهم . ومعنى ضعيفا : لا قوة لك ولا عز فيما بيننا ، فلا تقدر على الامتناع منه إن أردناك بمكروه ، وعن الحسن : ضعيفا مهينا . وقيل : كان ناحل البدن زمنه لا يقع في القلب منه هيبة ولا في العين منه امتلاء ، والعرب تعظم بكبر الأجسام ، وتذم بدمامتها .
وقال : مهجورا لا تجالس ولا تعاشر . وقال الباقر مقاتل : ضعيفا ، أي : لم يؤمن بك رهطك . وقال : وحيدا في مذهبك واعتقادك . وقال السدي ابن جبير : ( ضعيفا ) : ضرير البصر أعمى . وشريك القاضي
وحكى الزهراوي : أن والزمخشري حمير تسمي الأعمى : ضعيفا ، ويبعده تفسيره هنا بأعمى أو بناحل البدن ، أو بضعيف البصر كما قاله . وزعم الثوري : أن الله لم يبعث نبيا أعمى ، ولا نبيا به زمانة ، بل الظاهر أنه ضعيف الانتصار والقدرة . ( أبو روق ولولا رهطك ) : احترموه لرهطه إذ كانوا كفارا مثلهم ، أو كان في عزة ومنعة منهم . ( لرجمناك ) . ظاهره القتل بالحجارة ، وهي من شر القتلات ، وبه قال ابن زيد ، وقال : رجمناك بالسب ، وهذا أيضا تستعمله العرب ومنه : ( الطبري لأرجمنك واهجرني مليا ) وقيل : لأبعدناك وأخرجناك من أرضنا . ( وما أنت علينا بعزيز ) ، أي : لا تعز ولا تكرم حتى نكرمك من القتل ، ونرفعك عن الرجم .
وإنما يعز علينا رهطك لأنهم من أهل ديننا لم يحتاجوك علينا . وقيل : بعزيز بذي منعة وعزة منزلة في نفوسنا . وقيل : بذي غلبة . وقيل : بملك ، وكانوا يسمون الملك عزيزا . قال : وقد دل إيلاء ضميره حرف النفي على أن الكلام واقع في الفاعل لا في الفعل ، كأنه قيل : وما أنت علينا بعزيز بل رهطك هم الأعزة علينا ، ولذلك قال في جوابهم : ( الزمخشري أرهطي أعز عليكم من الله ) ؟ ولو قيل : وما عززت علينا لم يصح هذا الجواب . ( فإن قلت ) : فالكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه ، فكيف صح قوله : ( أرهطي أعز عليكم من الله ) ( قلت ) : تهاونهم به وهو نبي الله تهاون بالله فحين عز عليهم رهطه دونه ، كان رهطه أعز عليهم من الله . ألا ترى إلى قوله تعالى : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) ، انتهى .
والظاهر في قوله : ( واتخذتموه ) : أن الضمير عائد على الله تعالى ، أي : ونسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به . والظهري بكسر الظاء : منسوب إلى الظهر من تغييرات النسب ، ونظيره قولهم في النسب إلى الأمس : إمسي بكسر الهمزة ، ولما خاطبوه خطاب الإهانة والجفاء جريا على عادة الكفار مع أنبيائهم ، خاطبهم خطاب الاستعطاف والتلطف جريا على عادته في إلانة القول لهم ، والمعنى : أعز عليكم من الله حتى جعلتم مراعاتي من أجلهم ولم تسندوها إلى الله ، وأنا أولى وأحق أن أراعى من أجله ، فالمراعاة لأجل الخالق أعظم من المراعاة لأجل المخلوق ، والظهري : المنسي المتروك الذي جعل كأنه خلف الظهر . وقيل : الضمير في ( واتخذتموه ) عائد على الشرع الذي جاء شعيب عليه السلام به .
وقيل : الظهري العون وما يتقوى به . قال : فالمعنى : واتخذتم العصيان عنده لدفعي ، انتهى . فيكون على حذف مضاف ، أي : واتخذتموه ، أي : عصيانه . قال المبرد ابن عطية : وقالت فرقة : واتخذتموه ، أي : [ ص: 257 ] وأنتم متخذون الله سند ظهوركم وعماد آمالكم . فقول الجمهور : على أن كفر قوم شعيب كان جحدا بالله وجهلا به ، وهذا القول الثاني على أنهم كانوا يقرون بالخالق الرازق ويعتقدون الأصنام وسائط ووسائل ، ومن اللفظة الاستظهار بالبينة .
وقال ابن زيد : الظهري : الفضل ، مثل الحمال يخرج معه بإبل ظهارية يعدها إن احتاج إليها ، وإلا فهي فضلة . ( محيط ) : أحاط بأعمالكم فلا يخفى عليه شيء منها ، وفي ضمنه توعد وتهديد ، وتقدم تفسير نظير قوله : ( ويا قوم اعملوا على مكانتكم ) وخلاف القراء في مكانتكم . وجوز الفراء : في ( والزمخشري من يأتيه ) أن تكون موصولة مفعولة بقوله : تعلمون ، أي : تعلمون الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب ، واستفهامية في موضع رفع على الابتداء ، و ( تعلمون ) : معلق كأنه قيل : أينا يأتيه عذاب يخزيه ، وأينا هو كاذب ؟ . قال ابن عطية : والأول أحسن ، يعني كونها مفعولة قال : لأنها موصولة ، ولا يوصل في الاستفهام ، ويقضي بصلتها أن المعطوفة عليها موصولة لا محالة ، انتهى .
وقوله : ويقضي بصلتها إلخ ، لا يقضي بصلتها ، إذ لا يتعين أن تكون موصولة لا محالة كما قال ، بل تكون استفهامية إذا قدرتها معطوفة على من الاستفهامية ، كما قدرناه : وأينا هو كاذب ؟ .
قال : ( فإن قلت ) : أي فرق بين إدخال الفاء ونزعها في سوف تعلمون ؟ ( قلت ) : إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل ، ونزعها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا : فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا ، وعملت أنت ؟ فقال : سوف تعلمون ، يوصل تارة بالفاء ، وتارة بالاستئناف ، كما هو عادة البلغاء من العرب . الزمخشري
وأقوى الوصلين وأبلغهما : الاستئناف ، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه . قال : ( فإن قلت ) : قد ذكر عملهم على مكانتهم ، وعمله على مكانته ، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم ، فكان القياس أن يقول : من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو صادق ، حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إلى الجاحدين ، ومن هو صادق إلى النبي المبعوث إليهم . الزمخشري
( قلت ) : القياس ما ذكرت ، ولكنهم لما كانوا يعدونه كاذبا قال : ومن هو كاذب يعني : في زعمكم ودعواكم تجهيلا لهم ، انتهى .
وفي ألفاظ هذا الرجل سوء أدب ، والذي قاله ليس بقياس ، لأن التهديد الذي وقع ليس بالنسبة إليه ، ولا هو داخل في التهديد المراد بقوله : ( سوف تعلمون ) ، إذ لم يأت التركيب اعملوا على مكانتكم ، وأعمل على مكانتي ، ولا سوف تعلمون .
واعلم أن التهديد مختص بهم . واستسلف قوله : قد ذكر عملهم على مكانتهم ، وعمله على مكانته ، فبنى على ذلك سؤالا فاسدا ، لأن المترتب على ما ليس مذكورا لا يصح البتة ، وجميع الآية والتي قبلها إنما هي بالنسبة إليهم على سبيل التهديد ، ونظيره في سورة ( تنزيل ) : ( الزمخشري فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ) ، فهذا جاء بالنسبة للمخاطبين في قوله : ( قل ياقوم اعملوا على مكانتكم ) كما جاء هنا ، ( وارتقبوا ) : انتظروا العاقبة وما أقول لكم . والرقيب بمعنى : الراقب فعيل للمبالغة ، أو بمعنى : المراقب كالعشير والجليس ، أو بمعنى : المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى : المفتقر والمرتفع ، ويحسن هذا مقابلة فارتقبوا .
وقال : ( فإن قلت ) : ما بال ساقتي قصة الزمخشري عاد وقصة مدين جاءتا بالواو والساقتان الوسطيان بالفاء ؟ ( قلت ) : قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعد وذلك قوله : ( إن موعدهم الصبح ) ( ذلك وعد غير مكذوب ) فجيء بالفاء التي للتسبب كما تقول : وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت ، وأما الأخريان فلم يقعا بتلك المنزلة ، وإنما وقعتا مبتدأتين ، فكان حقهما أن يعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما كما تعطف قصة على قصة ، انتهى .
وتقدم تفسير مثل ( ولما جاء أمرنا ) إلى قوله : ( كأن لم يغنوا فيها ) . وقرأ السلمي وأبو حيوة : ( كما بعدت ) بضم العين من البعد الذي هو ضد القرب ، والجمهور [ ص: 258 ] بكسرها ، أرادت العرب التفرقة بين البعد من جهة الهلاك وبين غيره ، فغيروا البناء ، وقراءة السلمي جاءت على الأصل اعتبارا لمعنى البعد من غير تخصيص كما يقال : ذهب فلان ، ومضى في معنى القرب .
وقيل : معناه بعدا لهم من رحمة الله كما بعدت ثمود منها . وقال ابن قتيبة : بعد يبعد إذا كان بعده هلكة ، وبعد يبعد إذا تأنى . وقال النحاس : المعروف في اللغة بعد يبعد بعدا وبعدا إذا هلك . وقال المهدوي : بعد يستعمل في الخير والشر ، وبعد في الشر خاصة .
وقال : من العرب من يسوي بين الهلاك والبعد الذي هو ضد القرب ، فيقول فيهما بعد يبعد ، وبعد يبعد . وقال ابن الأنباري مالك بن الريب : في بعد بمعنى : هلك .
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا
وبعدا لفلان : دعاء عليه ، ولا يدعى به إلا على مبغض كقولك : سحقا للكافرين .
وقال أهل علم البيان : لم يرد في القرآن استطراد إلا هذا الموضع ، والاستطراد قالوا : هو أن تمدح شيئا أو تذمه ، ثم تأتي في آخر الكلام بشيء هو غرضك في أوله . قال حسان :
إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجا برأس طمرة ولجام