[ ص: 335 ] استفعل هنا بمعنى المجرد ، يئس واستيأس بمعنى واحد ، نحو : سخر واستسخر ، وعجب واستعجب . وزعم أن زيادة السين والتاء في المبالغة ، قال نحو ما مر في استعصم ، انتهى . وقرأ الزمخشري ابن كثير : ( استيأسوا ) استفعلوا ، من أيس مقلوبا من يئس ، ودليل القلب كون ياء أيس لم تنقلب ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ومعنى ( خلصوا نجيا ) انفردوا من غيرهم يناجي بعضهم بعضا ، والنجي فعيل بمعنى مفاعل ، كالخليط والعشير ، ومعنى المصدر الذي هو التناجي كما قيل : النجوى بمعنى التناجي ، وهو لفظ يوصف به من له نجوى واحدا كان أو جماعة ، مؤنثا أو مذكرا ، فهو كعدل ، ويجمع على أنجية ، قال لبيد :
وشهدت أنجية الأفاقة عاليا كعبي وأرداف الملوك شهود
وقال آخر :إني إذا ما القوم كانوا أنجيه
ويقول قوم نجي وهم نجوى تنزيلا للمصدر منزلة الأوصاف ، ويجوز أن يكون هم نجي من باب هم صديق ؛ لأنه بزنة المصادر محصوا للتناجي ، ينظرون ماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم لهذا الذي دهمهم من الخطب فيه ، فاحتاجوا إلى التشاور ، و ( كبيرهم ) أي : رأيا وتدبيرا وعلما ، وهو شمعون قاله : مجاهد ، أو كبيرهم في السن وهو روبيل قاله : قتادة ، وقيل : في العقل والرأي ، وهو يهوذا ، ذكرهم الميثاق في قول يعقوب : ( لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ) و " ما " زائدة أي : [ ص: 336 ] ومن قبل هذا فرطتم في يوسف ، و ( من قبل ) متعلق بـ ( فرطتم ) وقد جوزوا في إعرابه وجوها : أحدها : أن تكون " ما " مصدرية أي : ومن قبل تفريطكم . قال : على أن محل المصدر الرفع على الابتداء ، وخبره الظرف ، وهو ومن قبل ، ومعناه : ووقع من قبل تفريطكم في الزمخشري يوسف . وقال ابن عطية : ولا يجوز أن يكون قوله : ( من قبل ) متعلقا بـ ( ما فرطتم ) وإنما تكون على هذا مصدرية ، التقدير : من قبل تفريطكم في يوسف واقع ومستقر ، وبهذا القدر يتعلق قوله : ( من قبل ) انتهى .وهذا وقول راجع إلى معنى واحد وهو : إن ما فرطتم ؛ يقدر بمصدر مرفوع بالابتداء ، و ( من قبل ) في موضع الخبر ، وذهلا عن قاعدة عربية ، وحق لهما أن يذهلا وهو أن هذه الظروف التي هي غايات إذا ثبتت لا تقع أخبارا للمبتدأ جرت أو لم تجر ، تقول : يوم السبت مبارك والسفر بعده ، ولا يجوز والسفر بعد وعمر وزيد خلفه ، ولا يقال : عمر وزيد خلف ، وعلى ما ذكراه يكون " تفريطكم " مبتدأ ، و " من قبل " خبر وهو مبني ، وذلك لا يجوز وهذا مقرر في علم العربية ، ولهذا ذهب الزمخشري أبو علي إلى أن المصدر مرفوع بالابتداء ، و ( في يوسف ) هو الخبر ؛ أي : كائن أو مستقر في يوسف ، والظاهر أن ( في يوسف ) معمول لقوله : ( فرطتم ) لا أنه في موضع خبر ، وأجاز الزمخشري وابن عطية : أن تكون ( ما ) مصدرية ، والمصدر المسبوك في موضع نصب ، والتقدير : ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا من قبل ، وتفريطكم في يوسف . وقدره : وتفريطكم من قبل في الزمخشري يوسف ، وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيد ؛ لأن فيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف الذي هو على حرف واحد وبين المعطوف ، فصار نظير : ضربت زيدا وبسيف عمرا ، وقد زعم أبو علي الفارسي أنه لا يجوز ذلك إلا في ضرورة الشعر . وأما تقدير : وتفريطكم من قبل في الزمخشري يوسف ، فلا يجوز ؛ لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري والفعل عليه ، وهو لا يجوز ، وأجاز أيضا أن تكون موصولة بمعنى الذي . قال : ومحله الرفع أو النصب على الوجهين ، انتهى . الزمخشري
يعني بالرفع أن يرتفع على الابتداء ، و ( من قبل ) الخبر ، وقد ذكرنا أن ذلك لا يجوز ، ويعني بالنصب أن يكون عطفا على المصدر المنسبك من قوله : ( إن أباكم قد أخذ ) وفيه الفصل بين حرف العطف الذي هو الواو ، وبين المعطوف ، وأحسن هذه الأوجه ما بدأنا به من كون ما زائدة ، وبرح التامة تكون بمعنى ذهب وبمعنى ظهر ، ومنه برح الخفاء أي : ظهر ، وذهب لا ينتصب الظرف المكاني المختص بها ، إنما يصل إليه بوساطة " في " فاحتيج إلى اعتقاد تضمين برح بمعنى فارق ، فانتصب الأرض على أنه مفعول به ، ولا يجوز أن تكون ناقصة لأنه لا ينعقد من اسمها ، والأرض المنصوب على الظرف مبتدأ وخبر ؛ لأنه لا يصل إلا بحرف " في " . لو قلت : زيد الأرض لم يجز ، وعني بالأرض أرض مصر التي فيها الواقعة ، ثم غيا ذلك بغايتين ؛ إحداهما : خاصة وهي قوله : ( حتى يأذن لي أبي ) يعني في الانصراف إليه . والثانية : عامة وهي قوله : ( أو يحكم الله لي ) لأن إذن الله له هو من حكم الله له في مفارقة أرض مصر ، وكأنه لما علق الأمر بالغاية الخاصة رجع إلى نفسه فأتى بغاية عامة تفويضا لحكم الله تعالى ، ورجوعا إلى من له الحكم حقيقة ، ومقصوده التضييق على نفسه ، كأنه سجنها في القطر الذي أداه إلى سخط أبيه إبلاء لعذره ، وحكم الله تعالى له بجميع أنواع العذر كالموت ، وخلاص أخيه ، أو انتصافه من أخذ أخيه . وقال أبو صالح : أو يحكم الله لي بالسيف أو [ ص: 337 ] غير ذلك . والظاهر أن " يحكم " معطوف على ( يأذن ) وجوز أن يكون منصوبا بإضمار ( أن ) بعد ( أو ) في جواب النفي ، وهو : ( فلن أبرح الأرض ) أي : إلا أن يحكم الله لي ، كقولك : لألزمنك أو تقضيني حقي ؛ أي : إلا أن تقضيني ، ومعناها ومعنى الغاية متقاربان .
روي أنهم لما وصلوا إلى يعقوب أخبروه بالقصة فبكى وقال : يا بني ما تذهبون عني مرة إلا نقصتم ، ذهبتم فنقصتم شمعون حيث ارتهن ، ثم ذهبتم فنقصتم بنيامين وروبيل ، والظاهر أن الأمر بالرجوع هو من قول كبيرهم ، وقيل : من قول يوسف لهم ، وقرأ الجمهور : ( سرق ) ثلاثيا مبنيا للفاعل ، إخبارا بظاهر الحال ، وقرأ ابن عباس وأبو رزين في رواية : ( سرق ) بتشديد الراء مبنيا للمفعول ، لم يقطعوا عليه بالسرقة بل ذكروا أنه نسب إلى السرقة ، ويكون معنى ( والكسائي وما شهدنا إلا بما علمنا ) من التسريق ، ( وما كنا للغيب ) أي : للأمر الخفي ( حافظين ) أسرق بالصحة أم دس الصاع في رحله ولم يشعر ؟ وقرأ الضحاك : ( سارق ) اسم فاعل .
وعلى قراءة ( سرق ) و ( سارق ) ، اختلف التأويل في قوله : ( إلا بما علمنا ) . قال : بما علمنا من سرقته وتيقنا ؛ لأن الصواع أخرج من وعائه ، ولا شيء أبين من هذا . وقال الزمخشري ابن عطية : أي ، وقولنا لك إن ابنك سرق إنما هي شهادة عندك بما علمناه من ظاهر ما جرى ، والعلم في الغيب إلى الله تعالى ليس ذلك في حفظنا ، هذا قول : وقال ابن إسحاق ابن زيد : أرادوا وما شهدنا به عند يوسف أن السارق يسترق في شرعك ، إلا بما علمنا من ذلك ، وما كنا للغيب حافظين أن السرقة تخرج من رحل أحدنا ، بل حسبنا أن ذلك لا يكون البتة ، فشهدنا عنده حين سألنا بعلمنا ، ويحتمل قوله : ( وما كنا للغيب حافظين ) أي : حين واثقناك ، إنما قصدنا أن لا يقع منا نحن في جهته شيء يكرهه ، ولم نعلم الغيب في أنه سيأتي هو بما يوجب رقه . وقال : ( الزمخشري وما كنا للغيب حافظين ) وما علمنا أنه يسترق حين أعطيناك الموثق ، أو ربما علمنا أنك تصاب كما أصبت ب يوسف ، ومن غريب التفسير أن المعنى قولهم : ( للغيب ) لليل ، والغيب الليل بلغة حمير ، وكأنهم قالوا : وما شهدنا إلا بما علمنا من ظاهر حاله ، وما كنا بالليل حافظين لما يقع من سرقته هو ، أو التدليس عليه ، وفي الكلام حذف تقديره : رجعوا إلى أبيهم وأخبر بالقصة ، وقول من قال : ارجعوا ، ثم استشهدوا بأهل القرية التي كانوا فيها وهي مصر قاله : أي : أرسل إلى القرية واسأل عن كنه القصة ، والعير كانوا قوما من ابن عباس كنعان من جران يعقوب ، وقيل : من أهل صنعاء ، فالظاهر أن ذلك على إضمار أهل كأنه قيل : وسل أهل القرية وأهل العير ، إلا أن أريد بالعير القافلة ، فلا إضمار في قوله : ( والعير ) ، وأحالوا في توضيح القصة على ناس حاضرين الحال فيشهدون بما سمعوا ، وعلى ناس غيب يرسل إليهم فيسألون ، وقالت فرقة : بل أحالوه على سؤال الجمادات والبهائم حقيقة ، ومن حيث هو نبي ، ولا يبعد أن يخبره بالحقيقة ، وحذف المضاف هو قول الجمهور ، قال ابن عطية : وهذا مجاز . وحكى أبو المعالي عن بعض المتكلمين أنه قال : هذا من الحذف وليس من المجاز ، قال : وإنما المجاز لفظة استعيرت لغير ما هي له ، قال : وحذف المضاف هو عين المجاز ، وعظم هذا مذهب وغيره ، وحكى أنه قول الجمهور أو نحو هذا ، انتهى . سيبويه
وفي المحصول لأبي عبد الله محمد الرازي ، وفي مختصراته : أن الإضمار والمجاز متباينان ليس أحدهما قسما من الآخر ، و ( بل ) للإضراب ، فيقتضي كلاما محذوفا قبلها حتى يصح الإضراب فيها ، وتقديره : ليس الأمر حقيقة كما أخبرتم بل سولت ، قال ابن عطية : والظاهر أن قوله : ( بل سولت لكم أنفسكم أمرا ) إنما هو ظن سوء بهم كما كان في قصة يوسف قبل ، فاتفق أن صدق ظنه هناك ، ولم يتحقق هنا . وقال : ( الزمخشري بل سولت لكم أنفسكم أمرا ) أردتموه ، وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم ، وتقدم شرح ( سولت ) وإعراب ( فصبر جميل ) ، ثم [ ص: 338 ] ترجى أن الله يجمعهم عليه وهم : يوسف وبنيامين ، وكبيرهم على الخلاف الذي فيه ، وترجى يعقوب للرؤيا التي رآها يوسف ، فكان ينتظرها ويحسن ظنه بالله في كل حال ، ولما أخبر به عن ملك مصر أنه يدعو له برؤية ابنه ، ووصفه الله بهاتين الصفتين لائق بما يؤخره تعالى من لقاء بنيه ، وتسليم لحكمة الله فيما جرى عليه .