وتولى عنهم ؛ أي : أعرض عنهم كراهة لما جاءوا به ، وأنه ساء ظنه بهم ، ولم يصدق قولهم ، وجعل يتفجع ويتأسف ، قال الحسن : خصت هذه الأمة بالاسترجاع ، ألا ترى إلى قول يعقوب : ( ياأسفى ) ونادى الأسف على سبيل المجاز على معنى : هذا زمانك فاحضر ، والظاهر أنه يضاف إلى ياء المتكلم قلبت ألفا ، كما قالوا : في يا غلامي يا غلاما ، وقيل : هو على الندبة ، وحذف الهاء التي للسكت . قال : والتجانس بين لفظتي " الأسف ، و الزمخشري يوسف " مما يقع مطبوعا غير مستعمل فيملح ويبدع ، ونحوه : ( اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم ) ، ( وهم ينهون عنه وينأون عنه ) ، ( يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) ، ( من سبأ بنبأ ) انتهى . ويسمى هذا تجنيس التصريف ، وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف .
وذكر يعقوب ما دهاه من أمر بنيامين والقائل ( فلن أبرح الأرض ) وفقدانه يوسف ، فتأسف عليه وحده ، ولم يتأسف عليهما ؛ لأنه هو الذي لا يعلم أحي هو أم ميت ؟ بخلاف إخوته ، ولأنه كان أصل الرزايا عنده ، إذ ترتبت عليه ، وكان أحب أولاده إليه ، وكان دائما يذكره ولا ينساه ، وابيضاض عينيه من توالي العبرة ، فينقلب سواد العين إلى بياض كدر ، والظاهر أنه كان عمي لقوله : ( فارتد بصيرا ) ، وقال : ( وما يستوي الأعمى والبصير ) فقابل البصير بالأعمى ، وقيل : كان يدرك إدراكا ضعيفا ، وعلل الابيضاض بالحزن ، وإنما هو من البكاء المتوالي ، وهو ثمرة الحزن ، فعلل بالأصل الذي نشأ منه البكاء وهو الحزن .
وقرأ ابن عباس ومجاهد : ( من الحزن ) بفتح الحاء والزاي ، وقتادة : بضمها ، والجمهور : بضم الحاء وإسكان الزاي . والكظيم إما للمبالغة وهو الظاهر اللائق بحال يعقوب ؛ أي : شديد الكظم كما قال : ( والكاظمين الغيظ ) ولم يشك يعقوب إلى أحد ، وإنما كان يكتمه في نفسه ، ويمسك همه في صدره ، فكان يكظمه أي : يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب والضجر ، وإما أن يكون فعيلا بمعنى مفعول ، وهو لا ينقاس ، وقاله قوم كما قال في يونس : ( إذ نادى وهو مكظوم ) قال ابن عطية : وإنما يتجه على تقدير أنه مليء بحزنه ، فكأنه كظم حزنه في صدره ، وفسر ناس الكظيم بالمكروب وبالمكمود ، وروي : أنه ما جفت عيناه من فراق يوسف إلى لقائه ثمانين عاما ، وأن وجده عليه وجد سبعين ثكلى ، وأجره [ ص: 339 ] أجر مائة شهيد . وقال : ( الزمخشري فهو كظيم ) فهو مملوء من الغيظ على أولاده ، ولا يظهر ما يسوءهم ، انتهى .
وقد ذكرنا أن فعيلا بمعنى مفعول لا ينقاس ، وجواب القسم ( تفتأ ) حذفت منه ، لا لأن حذفها جائز ، والمعنى : لا تزال . وقال مجاهد : لا تفتر من حبه ، كأنه جعل الفتوء والفتور أخوين ، والحرض الذي قدرنا موته ، قال مجاهد : ما دون الموت . وقال قتادة : البالي الهرم ، وقال نحوه الضحاك والحسن . وقال : الفاسد الذي لا عقل له . وكأنهم قالوا له ذلك على جهة تفنيد الرأي أي : لا تزال تذكر ابن إسحاق يوسف إلى حال القرب من الهلاك ، أو إلى أن تهلك فقال هو : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) أي : لا أشكو إلى أحد منكم ولا غيركم . وقال أبو عبيدة وغيره : البث أشد الحزن ، سمي بذلك ؛ لأنه من صعوبته لا يطيق حمله ، فيبثه أي ينشره . وقرأ الحسن وعيسى : ( وحزني ) بفتحتين ، وقرأ قتادة : بضمتين .
( وأعلم من الله ما لا تعلمون ) أي : أعلم من صنعه ورحمته وحسن ظني به أنه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب ، قاله . وقال الزمخشري ابن عطية : ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة ، أو إلى ما وقع في نفسه من قول ملك مصر إني أدعو له برؤيته ابنه قبل الموت ، وقيل : رأى ملك الموت في منامه فسأله : هل قبضت روح يوسف ؟ فقال : لا ، هو حي فاطلبه .
( اذهبوا ) أمر بالذهاب إلى الأرض التي جاءوا منها وتركوا بها أخويهم بنيامين والمقيم بها ، وأمرهم بالتحسس ؛ وهو الاستقصاء والطلب بالحواس ، ويستعمل في الخير والشر ، وقرئ بالجيم ، كالذي في الحجرات : ( ولا تجسسوا ) والمعنى : فتحسسوا نبأ من أمر يوسف وأخيه ، وإنما خصهما لأن الذي أقام وقال : فلن أبرح الأرض ، إنما أقام مختارا . وقرأ الجمهور : ( تيأسوا ) ، وفرقة : ( تأيسوا ) ، وقرأ : ( تئسوا ) بكسر التاء . و ( الأعرج روح الله ) رحمته وفرجه وتنفيسه ، وقرأ عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة : ( من روح الله ) بضم الراء . قال ابن عطية : وكان معنى هذه القراءة : لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه ، فإن من بقي روحه يرجى ، ومن هذا قول الشاعر :
وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع
ومن هذا قول عبيد بن الأبرص :وكل ذي غيبة يئوب وغائب الموت لا يئوب وقال : ( الزمخشري من روح الله ) بالضم ؛ أي : من رحمته التي تحيا بها العباد ، انتهى . وقرأ أبي : ( من رحمة الله ) من صفات الكافر إذ فيه التكذيب بالربوبية أو الجهل بصفات الله .