وقرأ معاذ ، ، وبعض أهل وابن أبي عبلة الشام : الكذب ، بضم الثلاثة صفة للألسنة ، جمع كذوب . قال صاحب اللوامح : أو جمع كاذب أو كذاب ; انتهى . فيكون كشارف وشرف ، أو مثل كتاب وكتب ، ونسب هذه القراءة صاحب اللوامح لمسلمة بن محارب . وقال ابن عطية : وقرأ مسلمة بن محارب الكذب ، بفتح الباء ; على أنه جمع كذاب ، ككتب في جمع كتاب . وقال صاحب اللوامح : وجاء عن يعقوب ( الكذب ) بضمتين والنصب ، فأما الضمتان فلأنه جمع كذاب وهو مصدر ، ومثله كتاب وكتب . وقال : بالنصب على الشتم ، أو بمعنى الكلم الكواذب ، أو هو جمع الكذاب من قولك : كذب كذابا ذكره الزمخشري ; انتهى . والخطاب على قول الجمهور بقوله : ولا تقولوا ، للكفار في شأن ما أحلوا وما حرموا من أمور الجاهلية ، وعلى ذلك ابن جني الزمخشري وابن عطية . وقال العسكري : الخطاب للمكلفين كلهم ، أي : لا تسموا ما لم يأتكم حظره ولا إباحته عن الله ورسوله حلالا ولا حراما ، فتكونوا كاذبين على الله في إخباركم بأنه حلله وحرمه ; انتهى . وهذا هو الظاهر ، لأنه خطاب معطوف على خطاب وهو : فكلوا إنما حرم عليكم ، فهو شامل لجميع المكلفين . واللام في ( لتفتروا ) لام التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض ، قاله ، وهي التي تسمى لام العاقبة ولام الصيرورة . قيل : ذلك الافتراء ما كان غرضا لهم ، والظاهر أنها لام التعليل وأنهم قصدوا الافتراء كما قالوا : ( الزمخشري وجدنا عليها آباءنا ) والله أمرنا بها ، ولا يكون ذلك على سبيل التوكيد لما تقدم لتضمنه الكذب ، لأن هذا التعليل فيه التنبيه على من افتروه عليه ، وهو الله تعالى . وقال الواحدي : لتفتروا على الله الكذب بدل من قوله : لما تصف ألسنتكم الكذب ، لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله ، ففسر وصفهم بالافتراء على الله ; انتهى . وهو على تقدير ما مصدرية ، وأما إذا كانت بمعنى الذي فاللام في ( لما ) ليست للتعليل ، فيبدل منها ما يقتضي التعليل ، بل اللام متعلقة بـ ( لا تقولوا ) على حد تعلقها في قولك : لا تقولوا ، لما أحل الله هذا حرام ، [ ص: 546 ] أي : لا تسموا الحلال حراما ، وكما تقول لزيد عمرو ، أي : لا تطلق على زيد هذا الاسم . والظاهر أنهم افتروا على الله حقيقة ، وهو ظاهر الافتراء الوارد في آي القرآن . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد أنه كان شرعهم لأتباعهم سننا لا يرضاها الله افتراء عليه ، لأن من شرع أمرا فكأنه قال لتابعه : هذا هو الحق ، وهذا مراد الله . ثم أخبر تعالى عن الذين يفترون على الله الكذب بانتفاء الفلاح . والفلاح : الظفر بما يؤمل ، فتارة يكون في البقاء كما قال الشاعر :
والمسى والصبح لا فلاح معه
وتارة في نجح المساعي
كما قال عبيد بن الأبرص :
أفلح بما شئت فقد يب لغ بالضعف وقد يخدع الأريب
وارتفاع متاع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، فقدر منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعقابها عظيم . وقال الزمخشري ابن عطية : عيشهم في الدنيا . وقال العسكري : يجوز أن يكون المتاع هنا ما حللوه لأنفسهم مما حرمه الله تعالى . وقال أبو البقاء : بقاؤهم متاع قليل . وقال الحوفي : متاع قليل : ابتداء وخبر ; انتهى . ولا يصح إلا بتقدير الإضافة ، أي : متاعهم قليل . ولما بين تعالى ما يحل وما يحرم لأهل الإسلام أتبعه بما كان خص به اليهود محالا على ما تقدم ذكره في سورة الأنعام ، وهذا يدل على أن سورة الأنعام نزلت قبل هذه السورة ، إذ لا تصح الحوالة إلا بذلك . ويتعلق من قبل بقصصنا ، وهو الظاهر . وقيل : بحرمنا ، والمحذوف الذي في ( من قبل ) تقديره من قبل تحريمنا على أهل ملتك . والسوء هنا قال : الشرك قبل المعرفة بالله ; انتهى . ما يسوء صاحبه من كفر ومعصية غيره . والكلام في ( ابن عباس للذين عملوا ) وما يتعلق به تقدم نظيره في قوله : ( ثم إن ربك للذين هاجروا ) فأغنى عن إعادته . وقال قوم : بجهالة : تعمد . وقال ابن عطية : ليست هنا ضد العلم ، بل تعدى الطور وركوب الرأس ، منه : أو أجهل أو يجهل علي . وقول الشاعر :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
والتي هي ضد العلم ، تصحب هذه كثيرا ، ولكن يخرج منها المتعمد وهو الأكثر . وقل ما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علم بخطر المعصية التي يواقع ; انتهى ملخصا . وقال : بجهالة في موضع الحال ، أي : عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه ، أو غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم . وقال الزمخشري سفيان : جهالته : أن يلتذ بهواه ، ولا يبالي بمعصية مولاه . وقال الضحاك : باغترار الحال عن المآل . وقال العسكري : ليس المعنى أنه يغفر لمن يعمل السوء بجهالة ، ولا يغفر لمن عمله بغير جهالة ، بل المراد أن جميع من تاب فهذا سبيله ، وإنما خص من يعمل السوء بجهالة ، لأن أكثر من يأتي الذنوب يأتيها بقلة فكر في عاقبة ، أو عند غلبة شهوة ، أو في جهالة شباب ، فذكر الأثر على عادة العرب في مثل ذلك . والإشارة بذلك إلى عمل السوء ، وأصلحوا : استمروا على الإقلاع عن تلك المعصية . وقيل : أصلحوا : آمنوا وأطاعوا ، والضمير في ( من بعدها ) عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة ، أي : من بعد عمل السوء والتوبة والإصلاح . وقيل : يعود على الجهالة . وقيل : على السوء على معنى المعصية .