[ ] الاقتدار
الاقتدار : هو أن يبرز المتكلم المعنى الواحد في عدة صور اقتدارا منه على نظم الكلام وتركيبه على صياغة قوالب المعاني والأغراض ، فتارة يأتي به في لفظ الاستعارة ، وتارة في صورة الإرداف ، وحينا في مخرج الإيجاز ، ومرة في قالب الحقيقة .
قال ابن أبي الإصبع : وعلى هذا أتت جميع قصص القرآن ، فإنك ترى القصة الواحدة التي لا تختلف معانيها تأتي في صورة مختلفة ، وقوالب من الألفاظ متعددة ، حتى لا تكاد تشتبه في موضعين منه ، ولا بد أن تجد الفرق بين صورها ظاهرا .
ائتلاف اللفظ مع اللفظ وائتلافه مع المعنى :
الأول : أن تكون الألفاظ يلائم بعضها بعضا بأن يقرب الغريب بمثله ، والمتداول [ ص: 163 ] بمثله رعاية لحسن الجوار والمناسبة .
والثاني : أن تكون ألفاظ الكلام ملائمة للمعنى المراد ، فإن كان فخما كانت ألفاظه فخمة ، أو جزلا فجزلة ، أو غريبا فغريبة ، أو متداولا فمتداولة ، أو متوسطا بين الغرابة والاستعمال فكذلك .
فالأول كقوله تعالى : تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا [ يوسف : 85 ] ، أتى بأغرب ألفاظ القسم وهي ( التاء ) ، فإنها أقل استعمالا وأبعد من أفهام العامة بالنسبة إلى ( الباء ) و ( الواو ) ، وبأغرب صيغ الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار ، فإن ( تزال ) أقرب إلى الأفهام ، وأكثر استعمالا منها ، وبأغرب ألفاظ الهلاك وهو ( الحرض ) ، فاقتضى حسن الوضع في النظم أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة ، توخيا لحسن الجوار ، ورعاية في ائتلاف المعاني بالألفاظ ، ولتتعادل الألفاظ في الوضع وتتناسب في النظم ، ولما أراد غير ذلك قال : وأقسموا بالله جهد أيمانهم [ الأنعام : 109 ] ، فأتى بجميع الألفاظ متداولة لا غرابة فيها .
ومن الثاني قوله تعالى : ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار [ هود : 113 ] ، لما كان الركون إلى الظالم ؛ وهو الميل إليه والاعتماد عليه دون مشاركته في الظلم ، وجب أن يكون العقاب عليه دون العقاب على الظلم ، فأتى بلفظ المس الذي هو دون الإحراق والاصطلاء .
وقوله : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا [ البقرة : 286 ] ، أتى بلفظ الاكتساب المشعر بالكلفة والمبالغة في جانب السيئة لثقلها ، وكذا قوله : فكبكبوا فيها [ الشعراء : 94 ] ، فإنه أبلغ من ( كبوا ) للإشارة إلى أنهم مكبون كبا عنيفا فظيعا . وهم يصطرخون [ فاطر : 37 ] ، فإنه أبلغ ممن يصرخون للإشارة إلى أنهم يصرخون صراخا منكرا ، خارجا عن الحد المعتاد .
أخذ عزيز مقتدر [ القمر : 42 ] ، فإنه أبلغ من ( قادر ) للإشارة إلى زيادة التمكن في القدرة ، وأنه لا راد له ولا معقب .
ومثل ذلك : واصطبر [ مريم : 65 ] ، فإنه أبلغ من ( اصبر ) . و : الرحمن ، فإنه أبلغ من الرحيم ، فإنه يشعر باللطف والرفق ، كما أن ( الرحمن ) يشعر بالفخامة والعظمة .
[ ص: 164 ] ومنه الفرق بين ( سقى ) و ( أسقى ) ، فإن ( سقى ) لما لا كلفة معه في السقيا ، ولهذا أورده تعالى في شراب الجنة ، فقال : وسقاهم ربهم شرابا طهورا [ الإنسان : 21 ] ، و ( أسقى ) لما فيه كلفة ، ولهذا أورده في شراب الدنيا ، فقال : وأسقيناكم ماء فراتا [ المرسلات : 27 ] ، لأسقيناهم ماء غدقا [ الجن : 16 ] ؛ لأن السقيا في الدنيا لا تخلو من الكلفة أبدا .