[ ص: 238 ] النوع الرابع والستون في . إعجاز القرآن
أفرده بالتصنيف خلائق : منهم الخطابي والرماني والزملكاني والإمام الرازي وابن سراقة ، قال والقاضي أبو بكر الباقلاني ، ابن العربي : ولم يصنف مثل كتابه .
اعلم أن أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم من المعارضة وهي إما حسية وإما عقلية : المعجزة
وأكثر معجزات بني إسرائيل كانت حسية لبلادتهم وقلة بصيرتهم ، وأكثر معجزات هذه الأمة عقلية لفرط ذكائهم ، وكمال أفهامهم ، ولأن هذه الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة خصت بالمعجزة العقلية الباقية ليراها ذوو البصائر ، كما قال صلى الله عليه وسلم : أخرجه ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا . البخاري
قيل إن معناه : أن فلم يشاهدها إلا من حضرها ، معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم وخرقه العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات ، فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه . ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة ،
وقيل : المعنى أن المعجزات الواضحة الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار ، كناقة صالح ، وعصا موسى ، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة فيكون من يتبعه لأجلها أكثر ، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده ، والذي يشاهد بعين العقل باق ، يشاهده [ ص: 239 ] كل من جاء بعد الأول مستمرا .
قال في فتح الباري : ويمكن نظم القولين في كلام واحد فإن محصلهما لا ينافي بعضه بعضا .
ولا خلاف بين العقلاء أن كتاب الله تعالى معجز لم يقدر واحد على معارضته بعد تحديهم بذلك ، قال تعالى : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله [ التوبة : 6 ] . فلولا أن سماعه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه ولا يكون حجة إلا وهو معجزة .
وقال تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم [ العنكبوت : 50 ، 51 ] . فأخبر أن الكتاب آية من آياته كاف في الدلالة ، قائم مقام معجزات غيره وآيات من سواه من الأنبياء ، ولما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء ، ، كما قال تعالى : وتحداهم على أن يأتوا بمثله ، وأمهلهم طول السنين فلم يقدروا فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين [ يونس : 38 ] ثم تحداهم بعشر سور منه في قوله تعالى : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله [ هود : 13 ، 14 ] . ثم تحداهم بسورة في قوله : أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله [ يونس : 38 ] . الآية ، ثم كرر في قوله : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله [ البقرة : 23 ] . الآية ، فلما عجزوا عن معارضته والإتيان بسورة تشبهه على كثرة الخطباء والبلغاء نادى عليهم بإظهار العجز ، وإعجاز القرآن فقال : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ الإسراء : 88 ] .
هذا وهم الفصحاء اللد ، وقد كانوا أحرص شيء على إطفاء نوره وإخفاء أمره ، فلو كان في مقدرتهم معارضته لعدلوا إليها قطعا للحجة ، ولم ينقل عن أحد منهم أنه حدث نفسه بشيء من ذلك ولا رامه ، بل عدلوا إلى العناد تارة ، وإلى الاستهزاء أخرى ، فتارة قالوا : سحر ، وتارة قالوا : شعر ، وتارة قالوا : أساطير الأولين . كل ذلك من التحير والانقطاع ثم رضوا بتحكيم السيف في أعناقهم ، وسبي ذراريهم وحرمهم واستباحة أموالهم ، وقد كانوا آنف شيء ، وأشده حمية فلو علموا أن الإتيان بمثله في قدرتهم لبادروا إليه ، لأنه كان أهون [ ص: 240 ] عليهم .
كيف وقد أخرج الحاكم عن قال : جاء ابن عباس الوليد بن المغيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له ، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال : يا عم ، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه ، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله ، قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالا ، قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك كاره له ، قال : وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ، ولا برجزه ، ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وإنه ليحطم ما تحته . قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال : دعني حتى أفكر ، فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره .
قال : بعث الله الجاحظ محمدا صلى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا ، وأحكم ما كانت لغة وأشد ما كانت عدة ، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته ، فدعاهم بالحجة فلما قطع العذر ، وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية ، دون الجهل والحيرة ، حملهم على حظهم بالسيف ، فنصب لهم الحرب ونصبوا له ، وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم ، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ، ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبا بسورة واحدة ، أو بآيات يسيرة .
فكلما ازداد تحديا لهم بها وتقريعا لعجزهم عنها تكشف من نقصهم ما كان مستورا ، وظهر منه ما كان خفيا ، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له : أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف ، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا قال : فهاتوها مفتريات فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ، ولو طمع فيه لتكلفه ، ولو تكلفه لظهر ذلك ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ، ويكايد فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض .
فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم واستحالة لغتهم ، وسهولة ذلك عليهم ، وكثرة شعرائهم ، وكثرة من هجاه منهم ، وعارض شعراء أصحابه ، وخطباء أمته لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله ، وأفسد لأمره ، وأبلغ في تكذيبه وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس ، والخروج من الأوطان ، وإنفاق الأموال .
[ ص: 241 ] وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش ، والعرب في الرأي والعقل بطبقات ، ولهم القصيد العجيب ، والرجز الفاخر ، والخطب الطوال البليغة ، والقصار الموجزة ، ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور .
ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم ، فمحال - أكرمك الله - أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر ، والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص ، والتوقيف على العجز ، وهم أشد الخلق أنفة ، وأكثرهم مفاخرة ، والكلام سيد عملهم ، وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض ، فكيف بالظاهر ، وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثا وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة ، فكذلك محال أن يتركوه ، وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه . انتهى .